اول استخدام للاسلحة الكيمياوية ضد المدنيين العُزَل في العالم

تم في الجزائر على يد القوات الاستعمارية الفرنسية الغازية

[22 نوفمبر - 2 ديسمبر 1852]

 

 

شبكة المنصور

ملف أعده وبحث فيه لاول مرة الاستاذ الدكتور عبدالكاظم العبودي يكشف للقادسية

 

الحرب الكيميائية واسلحتها ونتائجها أثارت دائما مشاعر عميقة من الاحتجاج والبغض لدى الضمير الانساني. وعندما تفقد المواجهة بين جيش غازي مسلح ومدينة عزلاء صفة الحرب فان استخدام سلاح للابادة تعني ان جريمة ضد الانسانية مورست مع سبق الاصرار.

 

يظن الكثيرون أن موضوع أسلحة الدمار الشامل بات موضوعا جديدا، أو معاصرا، يثيره الاعلام وتتم عن طريقه ممارسة الكثير من التضليل لحجب الحقائق. كما يعتقد كثيرون من أن الموضوع مرتبط بمشاهد وأحداث تاريخية من زمن ألحربين العالميتين في القرن العشرين.

 

وقليلا ما تنسب جريمة استخدام الاسلحة الكيمياوية الى فاعلين معينين، وخاصة اذا كان الفاعل دولة استعمارية صارت بتراكم حجم جرائمها مسماة عظمى. حرص المنتصرون في الحرب العالمية الثانية على تثبيت التهم والإدانة  على بلدان معينة مثل المانيا واليابان وايطاليا.. وغيرها من الدول التي لم تنتصر في تلك الحروب. والغريب أن يُشار في ذات الوقت الى بلدان اخرى ووصفها بأنها بلدانا كانت ضحية لاستخدام الأسلحة ألكيمياوية ضدها كفرنسا التي صورتها الكتابات التاريخية عن الحرب العالمية الاولى بأنها كانت الضحية الاولى امام  اسلحة القوات الالمانية الكيمياوية.

 

هذا الملف يحتاج الى المزيد من الجهد الاعلامي والعلمي والتوثيقي لفضح أول استخدام للاسلحة الكيمياوية في العالم ضد مدنيين عزل وسيقلب مسار الاتهام تماما الى الاتجاه المعاكس من التضليل الممارس حوله على مدى 156 عاما ، وليسجل التاريخ الانساني، لاول مرة، إن الجزائريين ومدنهم وقراهم قد تعرضوا الى حروب إبادة من نوع جديد، وفي اوقات مبكرة كان ، ولازال العالم يجهلها؛ حيث سجلت الوقائع المكتشفة عن الذاكرة الوطنية والوثائق الاستعمارية نفسها ان أُولى الاستخدامات للمواد الكيميائية، كأسلحة حربية، وجهت بروح إجرامية ضد المدنيين العُزَل والمدن الآمنة لفرض الاحتلال وإضعاف روح المقاومة، كانت ساحتها الجزائر المحتلة من قبل القوات الاستعمارية الفرنسية الغازية.

 تلك الحقائق المُغَيبة التي بقيت سرا لازال مجهولا حدثت في عام 1852، وساحة تجاربها كانت على البشر في مدينة الاغواط الجزائرية.

 

ورغم أن العالم لازال يتذكر دائما نصوص بروتوكول جنيف المنعقد في جوان 1925م الذي يحرم استخدام غازات الحرب الخانقة والسامة، وعليه توقيع 28 دولة، ومنها توقيع فرنسا التي وافقت ووقعت على نصوص التحريم؛ لكنها لم تتوقف عن انتاج أسلحة جديدة وتجريبها في ساحات مستعمراتها وخاصة في الجزائر.

 

ومنذ نهاية القرن الثامن عشر عرفت فرنسا الكثير من الصناعات الكيميائية. وفي منتصف القرن التاسع كانت الطموحات الحربية والتوسع الاستعماري يدفع جيوشها الى توفير مئات الاطنان لعدد من المواد الكيميائية الجديدة ذات التأثيرات السامة والقاتلة والمزعجة لعناصر الحياة والبيئة، لاغراض الابادة، سواء كانت في الأصل عبارة عن مبيدات حشرية أو عشبية ضارة أو أسمدة، مما دفع المغامرين من جنرالات الحرب الاستعمارية الى التوسع في إنتاجها وتوظيفها في مهمات الابادة البشرية والبيئية؛ لا كأسلحة  حربية لفرض الاحتلال؛ بل في التركيز في كثير من محاولات تجريبها وتطويرها وإستخدامها كوسائط إبادة وترهيب للسكان على واسع النطاق بغية إنهاء التفكير عند الناس بمجرد المقاومة ضد الاحتلال.

  جريمة قصف مدينة الاغواط بقذائف مدفعية كانت معبأة بمواد كيمياوية سامة تمت خلال عمليات الهجوم عليها من قبل القوات الفرنسية لا بهدف احتلالها مابين 22 نوفمبر الى 2 ديسمبر 1852م فقط، بل لتشكل في ذات الوقت سابقة لحرب إبادة من نوع جديد لم تعرفه الانسانية من قبل، جرى استخدامها بشكل مقصود بأهدافها، والقتلة المجرمون كانوا على دراية مسبقة بنتائجها بعد أن جُربت على الحيوانات في ضواحي إحدى المدن الفرنسية. والقصد هنا أيضا إحداث الصدمة اوالترهيب بها لاشاعة الخوف على نطاق واسع بين السكان المحليين.

 

هذه الجريمة المبكرة، وبهذا السلاح الجديد في حينه، جرى التكتم عليها في كتابات الوثائق التاريخية لجرائم الاستعمار. لكن الوقت لا يغفر جريمة السكوت.  ولا بد من التحقيق فيها بنزاهة علمية وتأريخية وتثبيتها كجريمة متقدمة تمت لاول إبادة حربية استعمارية استخدمت فيها المواد الكيمياوية من الغازات السامة، واستهدفت السكان العزل وبشكل جماعي بعد حصار كانت فيه القوات الاستعمارية قادرة على إجتياح المدينة. لكنها إنتظرت قرابة الاسبوع على أطراف المدينة حتى تسنت لها ظروف تغير هبوب إتجاهات الرياح نحو المدينة لتطلق عليها الغازات السامة في قذائف المدفعية.

 

 ورغم محاولات التكتم على جريمة الاغواط وسعي فرنسا الاستعمارية الى ذر الرماد في العيون حول سعي السلطات الفرنسية في نهاية القرن التاسع عشر الى تنظيم العديد من المؤتمرات حول منع إنتشار الاسلحة الكيمياوية على النطاق الاوربي، لكنها إستمرت في تصنيعها وتجريبها على الاراضي الجزائرية. فبعد أن  تكتموا على أحداثها تم منع النشر حول أهوالها، وسارعوا الى المشاركة والدعوة الى عقد عدد من المؤتمرات التي سعت إلى الإعلان المبكر عن تحريم الاستخدامات غير السلمية للصناعات الكيميائية، ومنع توظيفها الحربي، وخاصة في مجال الاسلحة السامة للغازات في ساحات الحروب. وكان يعنيها الالتزامات المتبادلة بينها وبين قريناتها من الدول الاوربية التي إمتلكت مثلها تلك الاسلحة مثل ألمانيا وبريطانيا وروسيا وإيطاليا وكلها دول إستخدمت تلك الاسلحة في حروب وفي حالات غزو مثل فرنسا للجزائر وايطاليا لليبيا والحبشة.

 

بدء من عام 1868م و 1874، كانت أوربا تعرف تلك الاخطار، ولحماية أمنها وجيوشها سعت الى عقد العديد من المؤتمرات، منها مؤتمر بروكسل عام 1874م، ومؤتمر هيغ للسلام عام 1899م  ومؤتمر آخر انعقد في عام 1907،  لم نقرأ كلمة واحدة تذكر عن حرب الابادة بالغازات السامة  في المستعمرات  التي  كانت تباد مدنها باسلحة جديدة ، تجرب على سكان تلك المستعمرات بقساوة وفضاضة.

 

حرصت فرنسا على التكتم  على جرائمها في الجزائر،  وأخفت الحقائق عن العالم، ومنها مجزرة مدينة الاغواط عام 1852م. وكانت فرنسا تطرح نفسها في الميدان الاخلاقي العسكري انها كانت " الضحية " للاسلحة الكيمياوية،  وما برحت تشكو للعالم مافعل الالمان بجنودها بواسطة الاسلحة الكيميائية التي استخدموها على جبهات الحرب العالمية الاولى، ولكنها تنكرت لحقيقة هامة من الحقائق هي ان الخطوط الاولى لجبهة الحرب الفرنسية الالمانية كانت تكتظ بالمجندين الجزائريين في صفوف القوات الفرنسية. كانوا متواجدين في جبهات حرب ليست لهم فيها ناقة ولا جمل ولا مصلحة لبلادهم المحتلة فيها . وساقتهم الاقدار انهم  كانوا موضوعين وجها لوجه امام خطر الابادة  باحتمال لجوء الالمان لشن هجوم بالاسلحة الكيمياوية. وفعلا كان المجندون الجزائريون في الجيش الفرنسي اول ضحايا الحرب الكيمياوية خارج اوطانهم على الجبهة الاوربية .

 

ظلت ترسانة فرنسا من الاسلحة الكيميائية من الاسرار العسكرية الاستراتيجية، ومن اكثر الاسرار تلك نتائج تجاربها وأماكن وأساليب إستخدامات  تلك الاسلحة، في الجزائر؛ سيما وأن الاسلحة الكيميائية متنوعة التأثير في الاستخدام والاهداف .

بعضها صممت لكي تكون قاتلة او معطلة أومهيجة او مخيفة ومرعبة. لقد خصصت مجلة "الابحاث" الفرنسية عددا خاصا بموضوع الاسلحة الكيمياوية الفرنسية، واعترفت ان التجارب على هذه الاسلحة وتطويرها استمر حتى عام 1978. في وادي الناموس  بالصحراء الجزائرية.

منذ القرن التاسع عشر استخدمت القوات الفرنسية الاسلحة الكيمياوية في قذائف مدفعية. لتسخدامها بطريقة الرش بالطائرات أو التسميم في المحتشدات والمغارات والآبار خلال القرن العشرين بعد حشر الضحايا من السكان أو الاسرى في اماكن، جرى التخطيط المدروس لها ليساق الضحايا اليها وإعدامهم خنقا.

 

 ومن الاسلحة الكيمياوية ما يمكن نشرها على شكل غازات وأبخرة ودخان قاتلة. وفي كل الحالات تتميز هذه الاسلحة بمفعولها الفوري، سواء في شل الضحية او قتله خنقا، لكي يتسنى للمحتل الوصول الى الاماكن المستهدفة، ولهذا فان من خصائص تلك الاسلحة التأثير الفوري.

في بادئ الامر، فرنسا استخدمت الكلوروفورم ، وهو مادة  معروفة، مخدرة سريعة الاستنشاق، استخدمتها فرنسا في الاغواط، لتصبح قاتلة بزيادة تركيزها ورشها  في الاماكن المغلقة وحتى المفتوحة. وخطورتها تكمن في أنها تسبب عند استنشاقها تهيج الرئة، وتُحدث التهابات حادة في انسجتها؛ مما يسبب  اندفاع كميات متزايدة من السوائل الجسمية التي ينقلها الدم  الى الرئتين لتحدث إختناقات تؤدي الى موت الضحية.

 

ولأن الكلوروفورم مادة متطايرة سريعة التبخر في درجات الحرارة العادية،  فان البخار أو الغاز الناتج عنه يبقى ويدوم انتشاره في الجو والميدان لفترات طويلة عند توفره بكميات كبيرة وتراكيز عالية. وهو من المواد التي يمكن حفظها وتعبئتها في القذائف على شكل سائل، يمكن اطلاقها على شكل سحب من البخار والغازات او على شكل رشات من الرذاذ يمكن استنشاقها بسهولة. فهي مادة لا لون لها ولا يشعر الضحايا بوجودها.

ان مأساة الاغواط جزء هام من الذاكرة الجماعية للرعب والويلات والمئآسي التي تركها الفرنسيون في النفوسلاتزال الذاكرة الشعبية تتناقلها اليوم باسم  " حادثة الشكاير" في إشارة الى مذبحة ديسمبر 1852.

فضاعة فرنسا بالأغواط أُريد بها الابادة من جهة والتجريب وترهيب الشعب من جهة أُخرى.

 

الفرنسيون وضعوا الضحايا في أكياس غير نفاذة، مشبعة بأبخرة الكلوروفورم لتشلهم وتخنقهم قبل هلاكهم. وتشير الشهادات المنقولة والقصص، أن الفرنسيين أحرقوا ضحاياهم بعد خنقهم وشل مقاومتهم في الاكياس أمام الناس ليتم  نقل الاكياس الى الغابات والاحراش القريبة بهدف الترهيب  وزرع الرعب في قلوب سكان المدن الإخرى.

 

أول هولوكوست كيمياوي لإبادة السكان المدنيين في التاريخ كان في  مدينة الاغواط الجزائرية

لابد من التأكيد هنا، أن الفرنسيين كانوا اول من استخدام القتل، بالحرق المباشر للاحياء بعد تسميمهم شلهم، قرنا قبل المحرقة المزعومة التي يكون النازيون الالمان قد أبادوا اليهود خلال الحرب العالمية الثانية.

 

وعكس المزاعم والادعاءات الفرنسية واليهودية فإن كلمة "الهولوكوست" او "المحرقة" استخدمت لاول مرة في ادبيات وتقارير الحرب الفرنسية الواردة من الجزائر في خمسينيات القرن التاسع عشر، حيث وردت في كتاب مارسيل ميليا Marcel Melia "الاغواط بيوت محاطة بالجنائن]" الذي استخدم فيه مصطلح "الهولوكوست"، اشارة الى تقرير عسكري كان مرسلا من القائد العسكري الميداني  بيليسي Pelissier الى ريفي Rivet  القائد العام للقوات الفرنسية في الجزائر آنذاك يخبره انه قد نفذ التعليمات الموجهة له بالابادة مستخدما تعبير " هولوكوست".

 

للعلم ، الكاتب "مارسيل ميليا" كان شاهدا رافق  الجيوش الفرنسية في الجزائر كمراسل حرب. ونقل عن لسان بيليسيه ما نصه :  "... لو لم أحصل على تلك النتائج "الابادة" لكنت أحرقت البلاد لا بنخيلها وهجرت أهلها  الى مكان لا يوجد فيه حتى الهواء".

 

واصلت فرنسا حرب احتلالها للجزائرعلى نفس المنوال للوصول الى بقية المدن التي كانت عصية عليها بسبب تعنت السكان في المقاومة. فأحرقوا العوائل والقرى والأعراش الجزائرية وبدفع الضحايا الى المغارات والكهوف والآبار العميقة وحتى الى أقبية خزن النبيذ ، لما في تلك الأماكن من انتشار كميات كبيرة من ثاني اوكسيد الكاربون

ولم يخفي كبار الضباط والقادة العسكريين الفرنسيين جرائمهم ضد الانسانية في الجزائر؛ بل وصفوها بدقة وافتخار في كتبهم ومراسلاتهم وأعطوا تفاصيل دقيقة لاستخدامهم السلاح الكيمياوي في الأغواط وقتلوا آلاف السكان بشكل جماعي. وعبأ عساكرهم براميل من آذان الضحايا . فمن وصف لمشاهد الموت المرعبة التي حلت بالمدينة وأهلها نقرأ نصوص تتحدث عن مشاهد للفتيات وهن مطروحات ارضا في كل مكان من المدينة وفي بيوتهن على السلالم وعتبات البيوت .

المشاهد الموصوفة تؤكد موتا غير عاديا ولا مألوف في الحروب والغزوات. وحتى بعض من الجنود الفرنسيين لم يكونوا على دراية واستغربوا ما رأوا. لكن أخبارنتائج استخدام الكلوروفورم، وصلت الى مراكز القرار والى الشخصيات العليا في الجيش والادارة والمعامل الكيميائية الفرنسية لمواصلة تطوير السلاح.

 

وثائق فرنسية تتكلم بصمت

وارشيف يتكتم ويختنق بالترهيب

 

في مذكرات احد القادة الفرنسيين المشاركين بجريمة استخدام الاسلحة الكيميائية في مدينة الاغواط في ديسمبر 1852 تقرير راير  التالي:  

 [يضع السيد رايرRayer على المكتب ملاحظة مبعوثة من الجزائر العاصمة من طرف الدكتور اوسينالAucinelle  الى السيد المارشال فايوVaillant  يطلب منه معلومات دقيقة حول الظروف المتعلقة باستعمال الكلوروفورم في العمليات العسكرية المطبقة في الاغواط.  تم بعث تلك الملاحظة لتحليل اللجنة المكلفة بالتعرف على مذكرات المسيو جوبير Jobert، والسيد لومبالLamballe  والسيد بودنزBaudens .].

الاسماء المذكورة في التقرير على دراية بتفاصيل جريمة أول استخدام  للاسلحة الكيمياوية في التاريخ. " مادة الكلوروفورم"(الكيمياوي) قتل بالاغواط في اليوم الثاني من ديسمبر  1852 أكثرمن 3637 من النساء والرجال والاطفال والشيوخ، زهقت ارواحهم ظلما وعدوانا ليباد ثلاثة أرباع السكان الذين قُدروا بـ  4800 نسمة.

عبد الكاظم العبودي

 

جريمة ومجرمون

 

كانت الساعة تشير الى السابعة في ذلك الصباح الاسود من الثاني من ديسمبر. فيالق عسكر الاحتلال الفرنسية استكملت الهجوم العام على مدينة الاغواط الذي مهدت له بمجازر أريد بها قبل كل شئ ترهيب السكان كي لا تسول لهم أنفسهم التفكير في المقاومة.

  الجنرال يوسف Vantine وفيلقه تقدم من الشمال، و العقيد "ترميلي"Trumelet على رأس عساكره جاء من الشمال الغربي. في حين تموقع الجنرال "بيليسي" Belissier المشهور بإبادته قبيلة أولاد رياح بمغارات الظهرة في 19 جوان 1945غرب المدينة. ومن الجنوب الغربي الجنرال. كما عسكر "بوسكاران" Bouscaren جنوب شرق الاغواط. والعقيد " بان" Pain والرائد " موران" Morand من الشرق.

 

 المدينة المحاصرة تعرضت لقصف مدفعي كثيف دام 12 يوما كاملة، من 21 نوفمبر الى 2 ديسمبر 1852م. وخلال القصف وبعده عاشت الاغواط الجحيم، مجازر بشعة وصف وقائعها العقيد "تريملي" Trumelet بدقة كانت عنيفة ، فضيعة، وشنعاء الى درجة كبيرة جدا. البيوت والخيام والملاجئ كانت مليئة بجثث الموتى. العقيد تريملي وحده أحصى 2300 جثة، ناهيك عن مئات الجرحى والاسرى.

الجنرال السفاح العنصري "ديباراي" Dubarrai  إكتفى، بتبرير القتل والتنكيل قائلا: " ... ليس هناك من قانون او اتفاقية تحمي الارواح والممتلكات... كل شئ تعرض للسلب والنهب، الممتلكات والاعراض مستباحة" يضيف ديباراي:... ان مدينة الاغواط عاشت محنة عظيمة، سويت بيوتها بالارض".

" ايجين فرومانتان" Eugene Fromentin  كان أكثر حساسية من ديباراي قال انها محنة مروعة رهيبة. وأضاف أنه رأى: "... جنديا واقف امام الباب يملأ بندقيته التي اصطبغت بالدم ... وجنديان فرنسيان آخران... يجريان وهم يملئون قبعاتهم العسكرية بالحلي المنهوبة من جثث النساء...  فتاتان مسكينتان مطروحتان ارضا بلا حراك، واحدة مطروحة على الارض، ... والاخرى ملقاة على درج رأسها يتدلي نحو الارض عارية.. ينزع عسكري من جسدها ما تحمله من مصوغات وحلي ذهبية وفضية....  إمرأة ثالثة كانت تحتضر...وبقبضة يدها زر بدلة عسكرية ، ... انها اقتطعته من بدلة قاتلها.].

 

 

الحقيقة المغيبة موجودة

الارمادا الفرنسية التي إحتلت مدينة الاغواط تجاوز تعدادها 16 مرة العدد الكلي لسكان الاغواط الشهيدة.

المارشال "فيالانت" Vaillant استلم من قادة الوحدات الفرنسية تقريا  يؤكد الإستخدام  المكثف للكلوروفورم في قصف المدينة.

التقرير موجود اليوم في خزائن وزارة الحرب الفرنسية في علب أرشيف حرب إحتلال الجزائر .

 

الجزائر ساحة تجارب كيمياوية لمدى 100 عام  ومحرقة كيمياوية للجيش الفرنسي ضد المدنيين الجزائريين

 

بعد أن جربت فرنسا السلاح الكيمياوي على أجساد الاغواطيين في 1852. واصلت تطوير السلاح الكيمياوي المرعب طوال تواجدها في الجزائر وأكثر من هذا سنوات بعد إستقلال البلاد الذي كلف الشعب الجزائري عديد المئآسي وملايين الشهداء.  

إبان الحرب العالمية الاولى استخدمت فرنسا وأوربا ما يناهز 124200 طن من الغازات السامة في ميادين القتال الاوربية  وأضعاف هذا الرقم استعمل في المستعمرات ولا يزال حبيس السرية والتكتم.

ويقول إدوارد م سبيرز في كتابه "الحرب الكيمياوية" ان الفرنسيين طوروا أول سلاح كيمياوي عملي الاستخدام، عبارة عن قنبلة يدوية تحتوي على مادة  برومو اسيتات الاثيل،  وهوغاز خانق، متوسط الفعالية، ومسيل للدموع، غير سام، الى درجة القتل، استخدمته السلطات الفرنسية ابتداء من عام 1912. وفي أوت 1914 كان بحوزة الجيش الفرنسي 30 ألف قذيفة من عيار 26 مم معبأة بذلك السائل استخدمت على الجبهة الغربية في تلك السنة. أما القنابل اليدوية من ذات السائل فطورت بسرعة واستخدمت في قاطع الارجون في مارس 1915.

   ولا يستبعد أن تكون فرنسا استخدمتها في الجزائر لقمع مختلف الإنتفاضات ضد التجنيد الاجباري مما أجبر آلاف العائلات الجزائرية على الهجرة الى المشرق العربي. أما الجزائريين( لحم المدافع) الذي واجهوا أقدارهم مجندين في صفوف الجيش الفرنسي فقد لقوا مصرعهم بالسلاح الكيمياوي.

ففي مساء 22 أفريل سجلت يوميات الحرب ان الالمان اطلقوا في أول هجوم كيمياوي لهم بالغازات السامة، ضد مواقع الجيش الثاني الفرنسي في لانجمار Langemarck ، وسقط الجزء الاكبر منها على الدفاعات الفرنسية المتقدمة المشكلة من الجزائريين في الفرقة الخامسة والاربعين" الجزائرية " وعلى الفرقة السابعة والثمانين الاقليمية.

بأبشع الصور فقد المجندون الجزائريون حياتهم غرباء في تلك الجبهات، أُبيدوا دفاعا عن فرنسا التي كانت على علم مُسبق بنية الالمان شن هجوم كيمياوي بالغازات السامة.

 

الجيش الالماني استخدم ما يقارب 57  ألف طن من الغازات السامة، أي ما يعادل نصف وزن الغازات التي اطلقها جميع المتحاربين . كانت فرنسا قد انتجت هي الاخرى ما يعادل نصف انتاج المانيا، تتبعها بريطانيا بمقدار الخمس.

اقام البريطانيون والفرنسيون مصانع كيميائية متخصصة لانتاج غاز الخردل، ففي روسيلو Roussillon كان المصنع الفرنسي الرئيسي الذي كان يزود قوات الحلفاء بثلاثة ارباع احتياجاتها من غاز الخردل.  كانت الاوضاع العمالية في المصنع مزرية  وسيئة وكثير منهم  كانوا من العمال الجزائريين المهاجرين.

وللاسلحة الكيمياوية وخيمة حتى على صحة العاملين بالمصانع، حيث تشير الابحاث الى ان 90% من القوى العاملة في المصنع كانوا فاقدي النطق، و50%  الباقية كانت تسعل باستمرار، وهم مصابون بالتهاب ملتحمة العين.

 هذا المرض يكاد ان يكون شاملا بين العمال. واغلب العاملين في المصنع الفرنسي  كانوا يشكون من بشرة حمراء متسلخة تشعرهم بحكة شديدة تجعل النوم مستحيلا.

 

*****

 

تظهر شهادات جزائريين سُجلت مؤخرا أن أعراضا مماثلة لما كشفته الابحاث حول تأثيرات الاسلحة الكيمياوية على صحة العاملين بمصانع الاسلحة هي نفسها التي يعاني منها سكان العديد من المناطق الجزائرية التي تعرضت للقصف خلال حرب التحرير (1954-1962)

رغم إخفاء السلطات الفرنسية البيانات والمعلومات حول تلك الأسلحة وظروف تجريبها ومواقعها وتأثيراتها على البشر والبيئة، فإن مجلة " البحوث" الفرنسية قد خصصت قبل سنوات عددا خاصا حول الموضوع مشيرة الى ان التجارب الجرثومية والكيميائية الفرنسية استمرت في الجزائر في ولاية بشار في منطقة وادي الناموس حتى سنة 1978، ولم تعقب السلطات الجزائرية رسميا على مدى صحة ذلك التقرير وكان وزير الدفاع الفرنسي الاسبق بيير مسمير أكد في حصة تلفزيونية أن التجارب الكيمياوية في الصحراء الجزائري لم تحرج السلطات التي كانت موافقة.

بروتوكول جنيف الموقع في 17 جوان 1925 ينص:

 

[ان استعمال الغازات الخانقة، والسامة  او غيرها من الغازات وجميع السوائل والمواد والاجهزة المماثلة في الحرب قد أُدين عن حق، من قبل الرأي العام في العالم المتمدن؛ و ... منع هذا الاستخدام... يجب ان يكون مقبولا من الجميع كجزء من القانون الدولي، ملزما لضمير جميع الامم ولممارساتها].

 

وهو ما وقعت عليه 41  دولة  فيما سمي  باتفاقيات جنيف، ومنها دول كفرنسا والولايات المتحدة واليابان وبريطانيا وايطاليا... وغيرها ؛ ألا ان فرنسا قد إستخدمت النابالم وغيره من الاسلحة المحرمة دوليا،  وفي فترات عديدة في الجزائر خلال الفترة الاستعمارية،  وخاصة في سنوات حرب التحرير مابين 1954-1962،  كما ان ترسانتهم من الاسلحة الكيمياوية وغيرها من الاسلحة المحرمة دوليا،  عبر سنوات احتلالهم للجزائر قد تطورت وجربت على رؤوس صواريخ للاسلحة الكيميائية المختلفة، ومنها غاز الخردل والتي جربت في قاعدة التجارب في حماقير ورقان منذ 1956 فإنهم ايضا اهتموا بتطوير مدفعيتهم ومقذوفات الاسلحة البرية بتطوير قاذف للغاز مداه 3000 متر، وركزوا على اهمية انتاج غاز الفوسجين السام والقاتل الذي يستخدمونه في ملئ قذائفهم وقنابلهم وقنابل الطائرات الضخمة. كما عرضوا امكانيات واسعة في استخدام الخردل وتعبئته في رمانات كانت تطلق من الجو، وتسقط في مجموعات كالعناقيد ، تتكون كل واحدة منها  من 50 رمانة. وكان لديهم 4.5 مليون رمانة جاهزة للتعبئة، والكثير من غاز الخردل خلال الحرب العالمية الثانية.

صحيح انه لم يستعمل الفرنسيون وغيرهم من المتحاربين الاوربيين أسلحتهم ضد بعضهم البعض بسبب حالة التوازن والرعب في هذا المجال بين القوى الغربية والشرقية الاوربية  التي اقتنعت جميعا بالتخلي عن الاستخدام، لكن هناك الكثير من المعطيات والادلة عن استخدام الدول الاوربية للاسلحة الكيمياوية ضد شعوب المستعمرات كفضيحة استعمال قوات موسوليني الايطالية الغازات السامة في اثيوبيا والصومال وليبيا لاخماد حركات التحرر  وبؤر المقاومة ولا نظن ان فرنسا الاستعمارية إستثناء عن اقتراف مثل تلك الجرائم. واصلت فرنسا تطوير تجاربها ومخزونها من الاسلحة الكيميائية والجرثومية واستخدمت الاراضي الجزائرية أماكن تجارب في كثير من الفترات . في عام 1939 اجرت فرنسا اختبارات لأسلحة  كيمياوية في منطقة بني ونيف في الصحراء الكبرى. وفي 1956م  استخدمت مناطق واسعة في حماقير بولاية بشار لاطلاق الصواريخ وتجريب الرؤوس التقليدية والكيمياوية كما واصلت فرنسا تجاربها المشتركة مع اسرائيل باطلاق  كبيرا عددا من المقذوفات والصواريخ الحاملة لرؤوس غير تقليدية وهناك مناطق يحتمل ان تكون ملوثة بسبب ترك النفايات فيها ومنها النفايات النووية والكيمياوية في مناطق رقان والهوقار  قرب اينيكر في تاوريرت بولاية تمنغست.

 

خلفية ومقدمات الاحداث العسكرية في الجزائر قبل احتلال الاغواط

وصل الامير عبد القادر الى مدينة الاغواط عام 1837م لاجل تجميع القوات بها، وقد استجابت له زاوية عين ماضي وبتكتم وسرية تامتين.  سبق ذلك ان زار قصر عين ماضي،  و قبل الامير بشهرين المارشال "سان ارنو"Saint Arnaud . وبعكس ماروج في بعض الاطروحات التاريخية الاستعمارية فان الامير شدته علاقات طيبة مع السيد احمد التيجاني،  وقد سبق ان قدم له سيفه عربون صداقة واخوة.

 وقتها كانت للامير عبد القادر قوات تزيد عن 8000 رجل ولم يكن لقصر عين ماضي سوى 250 جنديا، مما يستبعد تماما ان الامير، حسب الرواية الاستعمارية، قد دخل في حرب مع الزاوية. ينفي ذلك مجموعة من الحقائق والمنطق التحليلي للمعطيات التاريخية، منها عدم توفر التكافؤ العسكري بين الامير والسيد احمد التيجاني من هذه الناحية،  اضافة الى ان الامير عبد القادر كان يمتلك من الحنكة السياسية والعسكرية مايبعده عن خوض صراع مثل هذا. ان اشارة بعض المصادر التاريخية الاستعمارية من ان الامير عبد القادر كان قد حاصر عين ماضي لمدة 9 أشهر تبقى مجرد افتراءات ليس لها من مصداقية التأكيد.

وهنا يتوجب التذكير انه اثناء اقامة الامير عبد القادر في الاغواط استقبل وفود الشعانبة ووادي ميزاب وحصل على دعم السكان،  وخاصة اولاد سيدي عطا الله.  وهكذا  شد الامير من عضد خليفته الحاج العربي على المدينة وضواحيها تاركا فيها جيشا احتياطيا صغيرا مسلحا بمدفعين وثلاثمائة بندقية حصنت المدينة ضد أي غاز وظلت المدينة هادئة  الى غاية ديسمبر 1852 م  .

 

المشاكل الطوبوغرافية لاركان القوات الفرنسية واهمية موقع الاغواط في مخططات التوسع الاستعماري:

 

عرفت الاغواط منذ عهود طويلة منذ ان بناها العرب سنة 850 م كمركز تجاري ومعبر للقوافل، اكتشفها المستعمرون كموقع استراتيجي يسمح لهم بملاحظة ومراقبة وتحديد تحركات السكان الى مناطق تقع في عمق افريقيا السوداء، فهي اقرب نقطة استراتيجية صحراوية الى مدينة الجزائر، وهي مركز متقدم جيد لتموين الجيوش الاستعمارية في تحركها بين الشمال والجنوب. والاغواط تمتاز بموقع متساوي البعد بين مدن  الجزائر، القليعة، ورقلة، وهي قريبة من اولاد سيدي الشيخ وتسمح بأخذ جبال اعمور من الخلف، وهي نقطة مراقبة جيدة للتجكم بتجارة وادي ميزاب مع التل.

 ولهذا كله فكرت السلطات العسكرية الفرنسية بتوفير الخرائط. ومنذ  جوان 1844 م كلف الجنرال ريفيRivet كقائد عام للقوات الاجرائية في الجزائر الجنرال ماري مونج Marey Monge بالقيام بدراسة طبوغرافية للمسافة الرابطة بين المدينة والاغواط ومحيطها،  وبعد الانجاز تم تعميم الخرائط الاستعمارية على القوات الفرنسية لاستكمال دراسة طبوغرافية  بقية اجزاء الجزائر.

التحضير لاحتلال مدينة الاغواط مهما كان الثمن وبكل الوسائل:

 فشلت محاولات كل من الجنرال " لادميرو" Ladmirau والجنرال " ماري نونج" المتكررة لاحتلال الاغواط ودفعها للاستسلام وحاول الفرنسيون بكل الوسائل لاحتلالها حتى من خلال المفاوضات مع سيد احمد التيجاني مرة ومع خليفة الامير عبد القادر في الاغواط احمد بن سالم خلال سنوات 1848 الى 1849م. في ذات الوقت لم يستبعد الجنرال "لادميرو" الخيار العسكري فتمركز شمال الاغواط على بعد 20 كم سنة 1850 م. وبمحاولاتهم استمالة شيوخ الجماعة وعلى رأسهم احمد بن سالم كان نائبه العسكري ناصر بن شهرة قد رفض أي نقاش حول استيلاء الفرنسيين على الاغواط مما دبر له مكيدة وخطفه واقتياده الى مدينة " بو غار" اين توفي قبل احتلال الاغواط بسنتين واتخاذ القرار لاحتلال الاغواط بعد ان ضم الجنرال ريفيRivet حاكم هيئة اركان الجيش الفرنسي في افريقيا بمساعدة فيلق بقيادة الجنرال " بيليسي" توجه من وهران الى الاغواط مارا بمعسكر وسعيدة وبمساعدة الجنرال " بوسكران" الموجود في معسكر والذي توجه هو الاخر الى الاغواط وكذلك الحال بالنسبة الى الجنرال "بليسير"Pelissier الذي توجه من المدية بتاريخ 21 نوفمبر 1852. والجنرال " دوليني" من بوسعادة. كان محصلة القوات الفرنسية المتوجهة الى الاغواط قرابة 20 ألف جندي. وبهذه القوة الاستعمارية الضخمة واجهت الاغواط المحتلين بمقاومة  بدأت يوم 21 نوفمبر 1852 م وانتهت بتاريح 6 ديسمبر 1852م  تكبدت القوات الفرنسية خسائر فادحة.

ان تقدير تعداد قوات الكتائب الاستعمارية المتوجهة الى الاغواط حسب تعداد كتائبها المشاركة في الهجوم على الاغواط يتجاوز 65 ألأف جندي حسب تأكيد الجنرال " دي باراي"Dubarrail. ومنذ اللحظات الاولى للهجوم حاول الغزاة ارهاب السكان من خلال تنفيذ سياسة الارض المحروقة. قدر عدد القتلى من سكان المدينة يتجاوز 3000 شهيدا من مجموع سكانها المقدر 4800 نسمة سنة 1852 يعيشون من الزراعة والتجارة مع مدن الجنوب والشمال. لقد جرى التنكيل بالعلماء وطلبة القرآن الكريم ودفن البعض من الضحايا احياء ومنهم من فر هاربا الى الى منطقة جبل أعمور. من الضحايا احرقوا بدم بارد.

ينسب الى ناصر بن شهرة ومحمد بن عبد الله من قادة المقاومة في الاغواط استمرار المقاومة رغم المأساة. والاخير ظل مطلوبا من قبل السلطات الفرنسية وشارك في معارك الشيخ المقراني عام 1871م.

 

 

كيفية طباعة المقال

 

شبكة المنصور

الجمعة  / ٢١ ذو الحجة ١٤٢٩ هـ

***

 الموافق ١٩ / كانون الاول / ٢٠٠٨ م