لم يثيرني أبداً الخبر الذي
تناقلته الوسائل الإعلامية عن
وفاة عدد من الأطفال بقسم الخداج
بمشفي رام الله ، لأنه جزء يسير
جداً مما يحدث في مستشفياتنا ،
ومن إدارتها ، وأطبائها ،
وممرضيها ، والعالمين فيها ، بل
وجزء لا يذكر أمام حالة
اللامبالاة والفساد والفشل التي
تعتري المؤسسة الصحية الفلسطينية
. هذا الأمر يعيدني إلى ما قبل
عام عندما تناولت بعدة مقالات
موضوع مستشفياتنا وما يحدث فيها
من أمور إهمال وفساد ضحيتها
المريض ، وإمبراطورها هذا الطبيب
الفاشل الذي يبتسم وهو يقتل مريض
بإهماله ولا مبالاته ، وكل ما
يشغل تفكيره وهمومه عملية حسابية
لما سيحصله يومياً من عيادته
الخاصة ، ومن خلفه وزارة لا يؤرق
ضميرها شيئاً سوي التخطيط بحرفية
لعملية التوظيف السنوية باعتمادية
الواسطة والمحسوبية ، والنتيجة
فساد ينتشر في ربوع مؤسساتنا
الصحية ، تحول لثقافة اجتماعية
عامة تغض النظر عن أهم احتياجات
بقاءها ألا وهي الصحة العامة ،
هذه الثقافة التي حولت مستشفياتنا
لغرف إعدام بطء يدرك الطبيب من
خلالها إنه لن يخضع للحساب
والعقاب ، أو المسائلة والمراجعة
سواء من جهات الاختصاص أو من
عائلة المريض التي لا تقوي على
ذرف دموع الوداع بلحظة ألم ومن ثم
الانصراف لتقبل العزاء والتسليم
بالقضاء والقدر .
ويبقي الطبيب يتمتع بآهات
مريضه وأنين موجوع وهو يرقد في
غرفة مناوبته لا يكلف نفسه
بالمرور لتفقد ضحيته .
هذه اللامبالاة لم تعد شيئاً
غريباً في واقع أصبح قانونه يحتكم
لمنهجية همجية بشريه لا تبالي
بالإنسان وقيمته ، التي على ما
يبدو إنها أصبحت في مجتمعنا
بمرتبة متدنية ، ولم يعد يشغل
سلاطين الخزائن سوي جباية الضرائب
، والسير بمواكب سلاطين آخر زمان
، وإلا فماذا يفسر هذا الصمت حول
انتحار غزة التي تستخدم (زيت
الطعام ) كوقود للسيارات رغم
تحذيرات كل المؤسسات الصحية وغير
الصحية من خطورة هذا الأمر ؟
وماذا يفسر التغاضي عن طبيب يهمل
مريضه حتى يتوفي ؟
الإثارة هنا ليس مقتل الأطفال
أو وفاتهم بل هو دعوة وزير الصحة
بتشكيل لجنة تحقيق وإغلاق قسم
الخداج ، ورغم إدراكي ويقيني أن
هذه اللجنة ما هي سوي أمر شكلي لن
يصل لشيء ولن تفعل شيء ، إلا إنها
فعلاً تشكل إثارة ومكمن الإثارة
أن السيد وزير الصحة في حكومة
الشمال المستقلة وصل إلى مسامعه
أن هناك أطفال توفوا بحالة غير
طبيعية ، وهذا القرار جاء بعد
وفاة الطفل التاسع في قسم الخداج
. وهنا الإثارة .
فالقضية ليست قضية قسم أطفال
بل هي قضية إهمال ولامبالاة ،
مصحوبة بلا إنسانية تعم حياتنا
الصحية عامة ومستشفاتنا خاصة من
أشباه الأطباء الذين لا ينتمون
للطب سوي بردائهم الأبيض ، حتى
شهاداتهم وتحصيلهم العلمي موضع شك
بما أن أفواج الحمام الأبيض
العائدة من روسيا وغيرها لا تعرف
سوي وضع البيض في الأعشاش ولكنها
حمامات تجهل عملية التفريخ ، فهي
حمامات لم تتلق تدريب وتأهيل
وتعليم لأن ترقد على البيض
فعقولها خاوية ، وضمائرها مشوشة
تحكمها معدلات الربح والخسارة
المادية .
فكم عملية وفاة حدثت نتيجة
الإهمال واللامبالاة ؟ فلنسأل
القبور عن تلك الجثامين المسجاة
فيها من ضحايا أصحاب السماعات .
إن مجتمعنا الفلسطيني أصبح
أمام خيار الفساد عاجز يعيشه
برضاه ، مستمتعاً ببلائه سواء في
إقليم الشمال المستقل ، أو
الولايات الجنوبية المحررة
المطهرة ، فأصبحنا مجتمع فاسد
صحياً ، وثقافياً ، واجتماعياً .
وأخشى ما أخشاه أن تتحول دمائنا
وقوداً لمعالي الوزراء والسادة
المدراء وأصحاب السمو ليشبعوا
منها عقولهم وكروشهم على حد سواء
.
وفي هذا المقام أتمني وأرجو من
أهالي الأطفال عدم الصمت والسكون
بل بالمطالبة بمحاكمه ومحاسبة كل
من تثبت مسئوليته عن قتل هؤلاء
الأطفال سواء بشكل مباشر أو غير
مباشر ، وملاحقتهم قضائياً
وعشائرياً ، والوقوف في وجه هذه
المذبحة الصحية . |