الرئيسية

من نحن

للاتصال بنا

إبحث في شبكة المنصور

 

 

 

 

 

من احتلال بالقوة إلى احتلال بالقانون

 

 

شبكة المنصور

محمد علي خالد

 

بعد أن وصل المشروع الأمريكي في العراق إلى مفترق طرق ، يمكن أن يؤشر تراجعا جديا على المستويين الإستراتيجي والميداني ، أخذت الإدارة الأمريكية وخاصة في الأيام الأخيرة لرئاسة جورج بوش ، تبحث عن آليات أكثر نجاعة في تحقيق أهداف غزو عام 2003 ، من الأساليب التي تم اعتمادها طيلة السنوات الخمس التي مضت من عمر الاحتلال ، والتي أدت في واقع الحال إلى طرح تساؤلات عن مصداقية الولايات المتحدة في علاقاتها الدولية ، وزعزت ثقة أقرب حلفائها بها ، لاسيما وأن مراهنتها على مواصلة الخيار العسكري في العراق ، أدخلتها في اختبارات ما كان بوسعها الخروج منها دون كدمات بل وكسور أثرت على مسار الاحتلال ، وقوة الدفع التي أرادها الأمريكيون لمشروعهم الكوني ، انطلاقا من العراق .

ولم يتمكن الأمريكيون من تحديد خارطة طريق لما يريدونه في العراق أو للعراق ، ذلك أن مثل هذه الخارطة كانت ستصطدم بإرادة العراقيين الذين تصدوا للمحتلين من الأيام الأولى لما بعد 9 نيسان / أبريل 2003 ، ولهذا نراهم ( الأمريكيين ) يتنقلون من إستراتيجية فشل إلى اخرى ، فبعد أن كانوا مصممين على حكم العراق مباشرة لسنوات طويلة بعد استكمال احتلاله ، تحولوا دون مقدمات إلى تشكيل مجلس الحكم ، الذي لم يكن مقدرا له أن ير النور لولا انطلاقة المقاومة الوطنية المسلحة ، والذي ظنت إدارة الاحتلال أنها من خلاله ستقدم جرعة مخدرة للشعب العراقي وتشغله في هموم تفصيلية عن القضية الجوهرية وهي قضية الاحتلال نفسه ، وبدلا من أن يطمئن العراقيون إلى سلامة نوايا إدارة الرئيس بوش ، فإنهم تعاملوا مع كل الحلول المبتسرة التي طرحها الأمريكيون ، على أنها وصفات تهدف بالدرجة الأساس إلى بسط هيمنة كاملة على مقدرات الشعب العراقي ، ونزع سيادته واستقلاله ، وتقنين النهب المنظم لثرواته الوطنية ، ولذا فقد تعامل العراقيون مع كل المشاريع السياسية التي طرحها الأمريكيون ، بعد تشكيل مجلس الحكم الانتقالي والحكومات التي أعقبته ، وكذلك الانتخابات والاستفتاءات المزيفة التي أجراها المحتلون وبتوقيتات مقدسة ، برفض قاطع مستل من رفض الاحتلال نفسه استنادا إلى قاعدة شرعية وقانونية من أن ما بني على باطل فهو باطل أيضا .

ولما أيقنت الإدارة الأمريكية أنها على وشك ضياع الفرصة التاريخية التي صنعتها الأكاذيب التي تم تسويقها قبل الغزو ، نتيجة تنامي قوة المقاومة ، وزوال الغشاوة التي علقت عند الكثير ممن سيطرت عليهم لغة المصالح الآنية الضيقة ، أو أحقاد التاريخين القريب أو البعيد ، رأت أن اقتباس تجارب بريطانيا التي ظلت تطرح نفسها على أنها الدولة الأكثر خبرة في التعاطي مع الملفات العراقية ، يمكن أن يشكل مدخلا سليما تماما لتحقيق أهداف الغزو كاملة ، ومخرجا من عنق الزجاجة الذي وصل إليه الاحتلال ، وانتشال هيبة أمريكا من مستنقع الوحل والدم الذي وضعت نفسها فيه .

ويوشك التاريخ أن يستنسخ بعض صفحاته في العراق بعد أقل من قرن من الزمان ، ولكن هذه المرة على الولايات المتحدة ، التي تقتفي خطوات بريطانيا التي كانت في الشطر الأعظم من القرن العشرين ، الدولة العظمى الأولى على صعيد العالم كله ، فكما أن بريطانيا اضطرت للجوء إلى عالم الاتفاقيات القانونية مع العراق ، بديلا عن احتلال واضح يكلفها خسائر مادية وبشرية ومعنوية ، فقد أرغم الفعل المقاوم للاحتلال الأمريكي على مدى خمس سنوات دون أن تلوح بالأفق بوادر على تراجع معدلاته أو القدرة على الإجهاز عليه ، أرغم الإدارة الأمريكية على إيجاد قوالب قانونية ، ليست بديلة عن الاحتلال بقدر ما هي محاولة لتغيير معالمه ، وتحسين صورته كي تبدو مستساغة على مستوى الشارع العراقي .

وهكذا ولدت اتفاقية المبادئ الموقعة بين الرئيس بوش ونوري المالكي ، من رحم إحساس أمريكي راسخ بالعجز عن مواجهة المقاومة العراقية المسلحة ، فواشنطن تريد أن تحقق بالمخادعة القانونية ، ما عجزت عن تحقيقه في ميادين القتال ، وبمجرد الإعلان عن الخطوط العامة لتلك الاتفاقية ، والإعلان عن موعد المفاوضات بين أمريكا ونفسها لإمضاء الاتفاقية بصيغتها العامة ، اندلعت حرب مصطلحات ومفاهيم ، من أجل صرف الأنظار عن جوهر الاتفاقية وأخطارها المحدقة بالعراق ، فقد طفت على سطح التغطيات الصحفية ، مفردات مثل قواعد دائمة ، أو قواعد ثابتة ، واتخذت التصريحات مسارات تجعل من تأثير الاتفاقية على دول الجوار وبشكل خاص إيران الموضوع الأساس ، في التعاطي سياسيا وإعلاميا مع الاتفاقية ، وتم تسريب الكثير من مضامين الاتفاقية ، لاسيما عدد القواعد التي تسعى الولايات المتحدة لإقامتها في العراق ، والمدى الذي تتمكن فيه القيادة الأمريكية من تحريك قواتها البرية والجوية ، على وفق المتطلبات التي تفرضها الإستراتيجية الأمريكية ، وأثارت هذه التسريبات ردود فعل إيرانية سريعة وغاضبة ، ووسط هذه الأجواء غابت وبشكل مقصود ، البنود الخطيرة التي ستسلب العراق سيادته الوطنية والقضائية ، وترهن ثروته النفطية التي يصل احتياطيها المقدر إلى 350 مليار برميل ، على وفق الأرقام التي أعلنها برهم صالح نائب رئيس الوزراء في حكومة الاحتلال الرابعة ، على هامش مؤتمر العهد الدولي حول العراق ، والذي عقد جلساته في العاصمة السويدية استكهولم يوم 29 أيار / مايو 2008 ، ويبدو منطقيا أن توجه أصابع الاتهام إلى واشنطن بأنها هي التي كانت تقف وراء الزوبعة التي أثارتها إيران حول الأخطار التي ترتبها الاتفاقية عليها ، لأن واشنطن أرادت صرف الانتباه عن جوهر الاتفاقية إلى قضايا ثانوية يمكن أن تحل بتطمينات سياسية ، أو بالقول بأن أمريكا إذا أرادت ضرب إيران فإنها لا تحتاج إلى قواعد من العراق حصرا كي توجه هذه الضربة ، فالولايات المتحدة تمتلك من القواعد الكبيرة على مقربة من الأراضي الإيرانية ، وقواعد متحركة في المحيط الهندي والخليج العربي( حاملات الطائرات ) الشيء الكثير ، ومع ذلك فإن الموقف الإيراني من هذه الاتفاقية لم يكن وليد الخشية من استخدام القواعد الأمريكية ضدها ، بقدر ما يعكس نزعة إيرانية راسخة في التدخل بالشأن العراقي و التوسع على حساب الأرض والسياسة والمجتمع في العراق ، ثم أن حساسية إيران تجاه الوجود الأمريكي في أفغانستان ( وهو وجود يرتبط بذات الدوافع المزعومة التي حركت نوايا العدوان ضد العراق ) لا يرتقي إلى جزء من حساسيتها تجاه الوجود الأمريكي في العراق ، وكما تنظر إيران إلى العراق بهذه النظرة المليئة بعقد الوصاية ، فإن أتباع إيران في العملية السياسية ، وخاصة تلك الأحزاب التي نشأت وترعرت في إيران مثل المجلس الأعلى وحزب الدعوة وسائر الأحزاب المنضوية تحت ولاية قائمة الائتلاف الموحد ، كانت تتعامل دون ثقة بالنفس ولا تستطيع التحرك خطوة واحدة دون أخذ الضوء الأخضر من الدولة الأم وولاية الفقيه ، ولهذا فإن المالكي لم يفكر بعرض موضوع الاتفاقية مع أمريكا على أي من دول الجوار ، باستثناء إيران التي دشنت حملة سياسية وإعلامية ضد من يوقعها ، وانطلقت أول كلمة منددة بها من حسن نصر الله ، والتقت مع الأصوات التي تناغمت مع بعضها ، لا لحسابات عراقية ، وإنما لحسابات إيرانية صرفة ، كون الاتفاقية قد تشكل تهديدا لإيران ، ولم يفكر أي من مسؤولي حكومة الاحتلال الرابعة بانعكاسات هذه الاتفاقية على مصير العراق وشعبه ، بل كانوا يرسلون برسائل تطمين لإيران بالدرجة الأساسية ، ومن هنا جاءت زيارة المالكي ووقوفه بذل أمام علي خامنئي دون ربطة عنق ، ليتلقى منه الأوامر بما يجب عليه فعله ، وهذا ما لاحظه المراقبون حينما قال المالكي إن الاتفاقية تمس بسيادة العراق ، وهذا التصريح يعكس تحولا بعد زيارته لطهران ، إذ أين كان عن البنود التي تمس بسيادة العراق حينما وقع اتفاق المبادئ مع بوش في 26 / 11/ 2008 ، وهل سأل نفسه مرة واحدة عمن جاء به إلى كرسي الوزارة ، أليست هي سيادة العراق المسلوبة ؟ هذا كله لا بد أن يثير شكوكا ويطرح تساؤلات بحروف كبيرة عن جدية التقاطع والخلاف بين طهران وواشنطن في العراق .

وفي محاولة اخرى لخلط الأوراق ، حاول الرسميون الأمريكان ، وكذلك فعل المتحدث باسم حكومة الاحتلال الرابعة ، تبديد المخاوف من الاتفاقية المذكورة فنفى الجميع أن تكون هناك أية نية أو إشارة في بنودها تتحدث عن قواعد دائمة ، وهنا يقع تلاعب حاد بالمفاهيم ، فوجود قواعد لمدة خمسين عاما أو حتى لمائة عام على سبيل المثال ، لا يعني قواعد دائمة وإنما يعني وجودا مؤقتا طالما وضع له سقف زمني حتى وإن كان طويل الأمد ، وهذا التلاعب اللفظي لا يمكن أن ينطلي على المراقب الحصيف .

أما الحديث عن قواعد ثابتة فلا يعدو عن كونه مغالطة اخرى ، فقد تفرض الضرورات العسكرية على قيادة القوات الأمريكية الإستراتجية أو الميدانية ، إجراء تنقلات على مواضع هذه القواعد تبعا للمتغيرات اللاحقة ، فالقواعد ليست دائمة وليست ثابتة ، وليست جميعها من القواعد التي لا يمكن التخلي عنها ، خاصة إذا عرفنا أن الرقم المقترح والذي أشار إليه المتحدث باسم حكومة الاحتلال ، يقرب من ستين قاعدة أو معسكر .
أقامت الولايات المتحدة منشئات كبرى في بضع قواعد جوية عراقية قائمة أصلا ، هي قاعدة الوليد والحبانية في محافظة الأنبار ، والبكر قرب بلد في محافظة صلاح الدين ، والشعيبة في البصرة ، وقاعدة علي بن أبي طالب في الناصرية ، وقاعدة أبي عبيدة في الكوت ، والتاجي في بغداد ، وقاعدة صدام حسين في القيارة في محافظة نينوى ، ويمكن أن تضاف لها قاعدة أو اثنتان وفقا لمتطلبات الدعم اللوجستي للقوات التي ستبقى في العراق والمتطلبات الاخرى ، إذا أخذنا هذه الحقائق فإننا سنفترض أن هذه القواعد ستنمو كما نمت القواعد الأمريكية في اليابان وألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية ، وكما أقيمت القواعد الأمريكية في المنطقة ، في تركيا والسعودية وقطر والبحرين ، وكذلك قاعدة ديغو غارسيا جنوب المحيط الهندي ، وجاءت إقامة هذه القواعد في العراق والتي ستشهد استثمارات إستراتيجية أمريكية ، لتخلق حالة من التكامل بين جميع القواعد الأمريكية المنتشرة على طول الكرة الأرضية وعرضها .

إن الاتفاقية في حال تمريرها لا تخلو من أخطار على المحيط الإقليمي دون شك ، ولكن خطرها الأكبر يتمثل بما ستجره على العراق من ويلات ترتهن سيادته للولايات المتحدة ، التي غزت العراق تحديا للمجتمع الدولي وإرادة الأمم المتحدة ، وحين وصل مشروعها الكوني إلى نهايته المحتومة ، كان لا بد لها أن تبحث عن مخارج تحفظ لها ماء الوجه ، وتصون هيبتها التي تعرضت لهزات مفصلية ، ومن المؤكد أن من جاء به الاحتلال سيبقى مدينا له ، ومن غير الممكن افتراض أن الكتل والأحزاب المشاركة في العملية السياسية ، ستحرص على سيادة العراق واستقلاله وثرواته ، ومن باع نفسه للشيطان لا يمكن أن يعيد النظر بتلك الصفقة .

عندما كان الحديث عن رفض متعدد الجهات للاتفاقية العراقية الأمريكية ، وخاصة من جانب إيران وأدواتها المحلية والإقليمية ، يأخذ طابعا حادا وبأعلى الأصوات ، حصلت مفاجأة كبيرة تبدو وكأن ما جرى كان بهدف التغطية على تحضيراتها ، تلك هي الاتفاقية التي تم توقيعها بين وزارتي الدفاع في العراق وإيران ، بذل المسؤولون في حكومة المالكي جهدا استثنائيا للتخفيف من طابعها التعاقدي ، وإعطائها صفة مذكرة تفاهم لحل متعلقات حرب الثماني سنوات ، ومع خطورة هذا المحور الذي يتشكل تدريجيا بين طهران الخميني وبغداد الاحتلال الأمريكي الإيراني المشترك ، يلاحظ المراقبون صمتا عربيا مريبا وكأن الخطر لا يتهددهم كخطوة لاحقة من خطوات التمدد الإيراني على البر العربي .

فإذا كانت الاتفاقيات ذات الطابع العسكري تشكل خطرا على دول الجوار للبلد الأضعف في الاتفاق ، وهذا ما لمسناه من تحرك إيراني ضد الاتفاقية المقترحة بين بغداد وواشنطن ، فلماذا لم يتحرك الجوار العربي المهدد بنوايا التوسع الإيراني ضد نوايا المالكي لمنعه من توقيعها ، أم أن المالكي سيعد ذلك مسّا بالسيادة العراقية المزعومة ، ولا يرى في جوهر الاتفاق مثل هذا المسّ ، هذا من جهة ، ومن جهة اخرى لماذا تذهب إيران إلى النقطة التي رفضتها لغيرها وأجازتها لنفسها ؟ وعلى العموم يلاحظ المراقبون أن الدول العربية تعاني من خنوع غير مسبوق حينما يتصل الأمر بصلاتها مع غير العرب ، ولكنها تأخذ مسارات صارمة إذا تعلق الأمر بدولة عربية .

إن من يقرأ بنود الاتفاقية المقترحة سوف يجدها متقاربة في المضامين مع اتفاقية طهران في حال التمكن من الاطلاع على بنودها ، وكلاهما تنتهك سيادة العراق ومصالحه ، وإذا كانت الاتفاقية الأمريكية قد تم عرض بعض مبادئها وأفكارها ، وخضعت لتحليلات المتخصصين في الشؤون السياسية والعسكرية والاقتصادية ، فإن الاتفاقية الإيرانية العراقية لم تدرس على أي مستوى في مراكز الدراسات أو أجهزة الإعلام وحتى الأمريكان تعاملوا مع الحدث وطأنه لا يعنيهم لا قريب ولا من بعيد إذ قال ناطق أمريكي إن للعراق الحق كبلد ذي سيادة أن يوقع اتفاقيات مع أي بلد آخر ، أما نائب رئيس اللجنة الأمنية في مجلس نواب الاحتلال ، فقد أكد بأن اللجنة لم تطلع عليها ، ويبدو أن مضامينها تحمل أخطارا كبيرة على العراق ، أدت إلى حجب مضامينها عن أقرب الحلفاء في العملية السياسية .

يزخر تاريخ العراق وخاصة وقت الاحتلال البريطاني ، باتفاقيات كثيرة ، على المستويين السياسي والاقتصادي ، بين العراق والمملكة المتحدة ، ولكن إرادة الشعب العراقي ووعيه العميق ، كانا بالمرصاد لتلك الاتفاقيات التي كانت تنتقص شيئا من حقوق العراق ، فكان يتصدى لها بكل ما يمتلك من وسائل وإمكانات ، وكان في كل مرة يراد تمرير شيء منها يلقي بها وبمن حاول فرضها عليه ، وهو جاهز الآن ليكرر نفس الشيء .

 

 

 

كيفية طباعة المقال

 

شبكة المنصور

السبت /  10  جمادي الاخر 1429 هـ

***

 الموافق   14  /  حزيران / 2008 م