كلما بدأت بقراءة في ( سفر
التكوين ) للمأساة العراقية ، قفز
أمامي المثل العراقي ( بعد خراب
البصرة ) ، فهو يجسد عمق المحنة
التي تفرش جناحيها ، ليس على
البصرة بل على كل مدن العراق ،
دون أن يلوح في الأفق شيء يعطي
أملا بفرج قريب ، أو ضوء في نهاية
النفق الطويل الذي أدخلت إليه
الأزمة العراقية .
أهي نبوءة عرافة اليمن الكاهنة
ظريفة ؟ التي نصحت أبناء اليمن
الذين أوشك موج سد مأرب أن
يداهمهم ، في أن من ( كان يريد
اللباس الرقاق وكنوز الأرزاق
والخيل العتاق
والدم المهراق
فليتوجه إلى أرض العراق ) ، أم هي
طباع البشر التي لونت حياة
العراقيين بلون الدم القاني حتى
من جاءهم فاتحا ؟ أو جاء للعيش
الآمن طلبا للرزق حيث الثروة في
باطن الأرض والمياه الغزيرة تجري
فوقها ، وفوق هذا وذاك عقول أبدعت
الحرف والعجلة ؟ أم هي الأرض التي
تتقلب بين القداسة واللعنة إلى أن
يرث الله الأرض ومن عليها ؟
وهل للبصرة خصوصية تميزها عن بابل
وأكد وسومر وآشور و الوركاء
وبغداد وكل مدن العراق قديمها
وحديثها حتى نصل إلى مدينة الثورة
؟
أعرف كما يعرف معي كل عراقي ، أن
البصرة شأنها شأن مدن الفرات
الأوسط والجنوب ، كانت تمور في
صراع مستميت على المفاتيح ، كل
المفاتيح ، مفاتيح المزارات ، رغم
أنها بعيدة عنها بمئات
الكيلومترات ، لأن من يمتلكها فقد
أمسك بخيوط اللعبة المزدوجة بين
الدين والسياسة ، ومفاتيح السلطة
، لأن من يتحكم بها فقد ركب صهوة
الدم المراق وامتشق سيف الغدر
ليضرب به من مر في الطريق حتى لو
كان مروره محض مصادفة ، ومفاتيح
الثروة ، وكل المفاتيح السابقة في
خدمة المفتاح الأخير ، تفرش له
السجادة الحمراء ليمر فوقها ،
فالبصرة مدينة النفط الخام
المهّرب دون عدادات ، والمشتقات
النفطية المتنقلة بين الحدود دون
جوازات أو تأشيرات ، وكي يمسك
الفريق بما حصل عليه ، فيجب أن
يقاوم حتى الموت من يريد انتزاع
حق مكتسب دفع من أجل الحصول عليه
، دما غزيرا وبارودا عزيزا وكرامة
مهدورة .
لأن البصرة هكذا فقد كان متوقعا
أن يتفجّر الصراع فيها وعليها ،
بين قوى استطاعت أن تحفر لنفسها
خنادق فيها ، وتزيح من يعترض
وتخاطبت بلغة الرصاص والهاون
والصاروخ من أحدث ما أنتجته مصانع
السلاح في إيران ، وعانت حكومة
الاحتلال الرابعة من هوان الضعف
أمام حلفاء العلن أعداء الغرف
الموصدة ، المتقاتلين حد الموت
على غنيمة مسروقة من جوف العراق
وجلده .
حزب الفضيلة الذي كان أول
المنسحبين من قائمة الائتلاف
المتصدع لأنه لم يتمكن من
الاحتفاظ بحقيبة النفط ، كان يمسك
بمفتاح المحافظة ومجلسها ، وطالما
جاهر بكشف الدور الإيراني في
تفجير أوضاع مدينة النفط والنخيل
والحدود والعتاد المهرب .
والتيار الصدري القوة المتحللة من
تيارات سياسية واجتماعية مختلفة ،
كان أكبر تاجر بالدم والنفط
والسلاح والمخدرات والدواء الفاسد
، وكان قادته على استعداد للتضحية
بآخر مقاتل من جيش المهدي ، من
أجل الحفاظ على هذا المركز الذي
يمتلك خاصية إغراء لا تقاوم ،
واستطاع استدراج آلاف المتسكعين
والمتعطلين بإرادتهم عن أي عمل ،
بعد عن تركوا مقاعد الدراسة
مختارين ، للانخراط في صفوفه بحثا
عن أسرع رزق وأغلظه ، فجعل منهم
أداته التي يضرب بها أعداءه
وخصومه وأصدقاءه ويرهب النساء
والأطفال على حد سواء ، بل لعل
التلويح بالمقنعين المدججين
بالسلاح لأصدقائه يتقدم المهمات
المقدسة في قاموسه.
بالمقابل بقي المجلس الأعلى الذي
يحمل أكبر رصيد من كراسي حكومات
الاحتلال ، ضعيفا حد الخرافة ، في
شوارع ظل يروج لفكرة أنها محسومة
له عن طيب خاطر من حلفاء الزمن
المتقلب ، وأضعف منه كان حزب
الدعوة بشقيه ، برغم أن مالك
الحكومة قاد فريقا من داخله كي
يحصل على منصب الوزير الأول ، كما
يرد في مصطلحات أشقائنا المغاربة
، وقد قدمت أطراف الائتلاف
المتصدع أداء مخجلا على كل
الأصعدة ، أثناء معارك الفرات
الأوسط والجنوب الأخيرة ، فلا
قواته صمدت أمام من أسماهم ( أسوأ
من القاعدة ) ، ولا جماهيره ملأت
شارعا واحدا في تظاهرة فرضها ما
تبقى من أجهزة أمنهم المحمولة في
العربات المصفحة الأمريكية ، مع
أن فضائيتهم المجهزة أمريكيا ،
بذلت كل ما اكتسب مصوروها من
خبرات كي تملأ صور عشرات
المتظاهرين ، شاشة التلفاز كي
تبدو وكأنها تظاهرات مليونية ،
على وفق ما ينسجم مع مصطلحات هذا
الزمن .
فلماذا اندلعت المعارك في هذا
الوقت ؟ وهل وقع الرئيس الأمريكي
جورج بوش ضحية خديعة وهم القوة ،
التي زعم مالك الحكومة الرابعة
أنه سيدك بها معاقل الخارجين على
إرادته ، ولذلك تعّجل بوش حينما
وصف معركة البصرة بأنها اللحظة
التاريخية الحاسمة في تاريخ
العراق وسيادته ، ولكن اللحظة
تحولت إلى أسبوع وكاد الحدث أن
يعصف به على أنغام أهزوجة الجنود
وبعض من ألبسوه العقال العربي ،
في الشوارع اليتيمة إلا من آثار
الدماء العراقية التي سفكت مرة
اخرى .
يعتقد بعض مراقبي المشهد العراقي
أن تشريع قانون المحافظات ، دفع
بالمجلس الأعلى ليزج بالمالكي في
معركة إذا خسرها فسيقع وزرها عليه
، وسوف يتدخل منقذا من أزمة دم
عراقي مسال ، وإذا ربحها فإن
المكاسب سيحصدها وحده وحينها
سيحمل المالكي والدعوة ويلقي بهما
في أقرب برميل على الرصيف .
المجلس والدعوة يعرفان أن رصيدهما
في الشارع العراقي ، وصل تحت
الصفر ، وأن كل الفتاوى ،
والتزوير لن تنفع في جمع الأصوات
اللازمة لهما في أي معركة سياسية
جديدة وخاصة ما يتصل بموضوع
الفدرالية ، والتي يراد لها أن
تكون الخطوة الأولى على طريق
التقسيم .
ويبقى الدور الإيراني في التلاعب
بدماء العراقيين ، ووحدة نسيجهم
الاجتماعي ، حاضرا بقوة في
الأحداث الأخيرة ، كما كان حاضرا
في المرات السابقة ، وهو في
الواقع يمد كل الأطراف بالدعم كي
تتقاتل فيما بينها ، وبالتالي
يبقى ماسكا بالعصا من الوسط حتى
يفرض على كل طرف من أطرافها ما
يشاء ، فإيران تدعم جيش المهدي
بالسلاح والتدريب والعتاد الحديث
، وإيران تدعم سياسيا الحكومة
وبخاصة المجلس الأعلى ، مما يترك
المزيد من القناعات بأن إيران لا
تريد خير العراقيين وإنما تريد
إضعافهم حد الركوع .
ما جرى في حقيقة الأمر ليس معركة
جيش المهدي بوجه الحكومة الراهنة
، وإنما هي هبة العراقيين جميعا
حين وقعت ، وكلمة
لا
كبيرة منطلقة من ضمير العراقيين
للمحتلين ولكل من جاء معهم أو
اصطف وراءهم وأكل السحت من أيديهم
. |