بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

 

نخبة المورد البشري في العراق بعد الاحتلال

 

 

 

 

شبكة المنصور

الأستاذ الدكتور كاظم عبد الحسين عباس  / العراق - بغداد

 

( لا منطق حق ولا عدل يقبل بإدعاء إعادة تشكيل دولة على اشلاء أبناءها في عصر التمدن والرقي الحضاري الراهن )

نقترب الآن من نهاية العام الخامس لإسقاط الدولة العراقية. وها هي السنة الخامسة في نهايتها التي أخذت فيها الدولة العظمى أميركا ومعها عدد غير قليل من الدول العظمى والمتقدمة على عاتقها تأسيس دولة عراقية جديدة ديمقراطية الحكم والحياة. ان مراجعة بعض معطيات بناء الدولة الجديدة بات أمرا" ضروريا" وملحا" ولا يدخل في باب المماحكات الاعلامية. سنتناول بقدر كبير من التبسيط والاختصار واحدا" من أبواب بناء هذه الدولة والذي يمثل جدلا" مظهرا" من مظاهر الحياة الديمقراطية الجديدة للبلد ليس من منظورنا الشخصي بل من المنظور المطروح علينا من ساعة دخول جيوش التحالف بقيادة أميركا الى العراق وهو حتما" منظور الحكومة العراقية التي تمثل أهم وليد بملامح وسمات الديمقراطية والشفافية والنزاهة للأم المنجبة أميركا وأهم وأكبر وليد لمرحلة ما بعد 9-4-2003 كونها المكلفة باعادة تشكيل العراق ماديا" واعتباريا" وفي كل مناحي وروافد الحياة وفق مناظير التشكيل الجديد الذي لن نقول عنه انه اميركي صرف بل سنصفه بانه بناء وتشكيل اميركي الهوى في أبسط المعايير. ان عمليات إعادة التشكيل والبناء لأركان دولة جديدة تبدأ حتما" بتكوين حكومة جديدة عندها برامج للاهداف العامة والخاصة لبناء الدولة في اعادة تشكيل البنى التحتية بدءا" من وزارات ودوائر الدولة المختلفة, ويقع ضمن ذلك طبعا" إعادة تشكيل الجيش وقوى الأمن التي تم إنهاء وجودها لاعتبارات ووجهات البناء الجديد الذي لا يخدمه بقاء التشكيلات التي كانت موجودة قبل البدء ببناء العراق (الجديد) وكذلك إعادة تأسيس العمل الانتاجي والخدمي الذي يمثل عصب الحياة للوجود الحكومي و ما يعكسه من واقع موضوعي شعبي وجماهيري يوفر الارضية الصلدة لإنطلاق بناء الدولة.

كلنا متفق على عظمة قدرات أميركا في كل ميادين الحياة. ولذلك فان تأسيس الدولة العراقية الجديدة سيكون فيه شيء من أميركا العملاقة. وليس سرا ان الكثير من ابناء العراق قد صدّقوا ان العراق سيكون المانيا أو اليابان نموذجا" في الشرق الاوسط لاسباب كثيرة لسنا بصددها الان. والكثير من الناس يذهب الى ان اميركا قادرة ان تفعل اي شيء وكل شيء إذ لا حدود لقدراتها في الفعل وفي كل ميادين الحياة. ووضع دعاة العصر الامريكي العملاق قدرات أميركا الخارقة في دعواتهم وعملهم الجاد الى عدم إغضاب اميركا وعدم التقاطع معها بأي شكل من الاشكال حيث ان من يفعل ذلك إن هو الاّ انسان غير سوي بوسع الامريكان أن يصهروه في افرانهم الذرية والنووية ويعيدوا تشكيله في مصانع الصواريخ ومكائن الاحتراق الداخلي. هذا الكلام ليس مبالغة فالبعض يقدم الامريكان على انهم قادرون على ان يقولوا للشيء كُن فيكون. اذن على العراقيين أن يبشروا بالخير القادم والذي سيجعلهم الأوْلى والأهم حتى من دولة اسرائيل في الرعاية والعناية والتطوير بل ان بعض ابناء العراق المبصرين الى ما وراء خشومهم قد طرشوا آذان الناس بالتلويح والتصريح والتبشير بنهاية عصر اليهود وإنحساره لصالح عصر العراق والعراقيين الجديد.
أنا شخصيا" على علم تام بقدرات أميركا العلمية والتكنولوجية ولا أشكك قطعا" بقدراتها المختلفة رغم اني مؤمن بان القدرة الوحيدة في الوجود التي تمتلك مفاتيح الكينونة من عدمها هي الله سبحانه وتعالى. وحضور الايمان في كلتا الاتجاهين لا يمنع من التساؤل.... أين قدرات اميركا الخارقة هذه من بناء العراق الجديد الذي دخلته محررة من أشباح اسلحة الدمار الشامل التي لا يجيد ابناء الرافدين التعامل معها وستكون في اجزاء من ساعة غضب بدوي عراقي غير مسيطر عليه ويعوزه الحلم قد حطت شرورها الفتاكة في اميركا واوربا واستراليا ونيوزيلندا والاقطاب المنجمدة وكذلك من قهر الدكتاتورية التي وضعت العالم على حافات الانهيار الذي إستوجب مداخلة صقور اميركا لايقافه فورا"؟. أين الكفاءة الامريكية والمليارات الامريكية من إعادة بناء هذا البلد العربي المسلم؟

ان الجواب على هذا التساؤل ببساطة وبعد أخذ محصلة الاشياء الاجمالية وكما ينطق بها كل شبر من ارض العراق هو ان اميركا قد خربت ودمرت كل شيء ولم تنجح سوى في أمر واحد لحد الان هو تدمير الدولة العراقية التي كانت، وتغيير النظام الذي كان الى فوضى عارمة ولا فرق ان سمتها هي وحكومة العراق المنتجة اميركيا فوضى خلاّقة أو غير ذلك.

وأول مظهر من مظاهر التيه والعدمية التي شهدها العراق بعد 2003 ولم تنجح قدرات اميركا الخلاقة والفذة في ايقافها هو تدمير الانسان العراقي ووضع المجتمع كله في انفاق الضياع الفكري والسياسي والاقتصادي والديني والطائفي ... انفاق التدمير الواسع والضياع المؤكد.

ان النيات الحسنة والتوجهات الخيرة, على افتراض انها كانت قائمة وموجودة عند الاميركان لا يمكن أن تسوغ أو تبرر الاطاحة بنظام اجتماعي كامل وجره الى متاهات تعددية سياسية خارجة عن السيطرة وتعددية مرجعيات الدين والمذاهب والاعراق المتقاتلة مع بعضها وان ليس بوسع اميركا وحلفاءها التنصل من هذا المصير الاسود الذي آلت اليه الاوضاع في العراق وليس بوسع دعاة الامركة والقدرات الامريكية الخارقة ان يقنعوا أي انسان بأي مبررات يسوقونها تتعكز على خلفيات كانت قائمة قبل الاحتلال لأن من المفترض ان تكون تفاصيل حياة الشعب العرقية والأثنية وسواها كلها حاضرة في عقل المخطط لإسقاط النظام العتيق خاصة وانه يقف على ممكنات يتغنى بها هو ومن يؤيدونه تجعل في مقدمة الواجبات وأسهلها استحضار الواقع الديني والطائفي والعرقي للبلد المراد احتلاله .... أم اننا نخوض في ماء عكر!!
هل ان ما نضعه من تساؤلات واستنتاجات عدوانية ضد اميركا؟ أم اننا نتوسل الحقائق لترى اميركا إن كانت غير مبصرة وليرى العالم حقائق ما يحدث في العراق ... وحقائق ما يحدث في العراق لا يشرف اميركا ولا يتناسق مع قدراتها التي لا تحدها حدود. وسنركز جهدنا في هذا المقال المتواضع على جانب واحد يرتبط بهدف اميركا الاكبر الذى تبنته لاحتلال العراق بعد سقوط الاهداف الاساسية المعلنة لوجوب الاحتلال وتغيير الحكومة والدولة العراقية وهي اسلحة الدمار الشامل والعلاقة بالقاعدة وأحداث ايلول سبتمبر. انه هدف الديمقراطية.

لنرى هل تحققت الديمقراطية كلا" أو جزءا" من خلال تناول ما أصاب المورد البشري العراقي من الواقع الجديد. أوَ ليس الديمقراطية هدفها خدمة الانسان؟

يبدو لي وكما يسعفني فهمي المتواضع لمعنى الديمقراطية انها نظام متكامل يهدف أول ما يهدف الى اطلاق وتحرير طاقات الانسان وتوفير الارضيات المناسبة له ليحقق ذاته الانسانية من غير ان يتعرض لظلم أو اضطهاد أو تحريف لإرادته واشتقاقاتها في الحياة. ويحقق هذا النظام للانسان أيضا" حاجاته الأساسية من غير مساس بكرامته وشرفه الحياتي المادي والاعتباري ويضمن له الكرامة التامة ويهيء له سبل الافادة مما حباه الله من امكانات جبارة في الانتاج والعمل الحر وفي تقرير مصيره بيده. ومما نظن في الديمقراطية انها اسلوب لبناء مؤسسات الدول الحديثة لتصبح قادرة على احتواء وتنفيذ كل احتياجات الانسان الصحية والتربوية والاقتصادية والخدمية وفق قاعدة من الشعب والى الشعب.

فماذا تحقق في العراق عبر السنوات الخمس المنصرمة وفق هذا التعريف البسيط؟

سنتحدث هنا على عجالة عن الجانب البشري على ان نتناول الجوانب الاخرى في مناسبات اخرى إن ساعدنا الله سبحانه على ذلك.

ان التغيير, أي تغيير يحصل في عالمنا المتحضر المتمدن, وبغض النظر عن طريقة حصوله, يجب أن يهدف الى تقديم وبناء نموذج متقدم وأفضل من النموذج الذي استهدفه التغيير وإلاّ فانه لا يعدوا كونه نوع من العبث والملهاة. والهدف الاكبر والاسمى من اي تغيير كان هو خدمة الانسان. وان افترضنا ان التغيير في جوهره هو لخدمة مصالح وارادات تقع خارج حدود البلد أو الدولة التي يقع فيها التغيير تجنبا" لأية محاججة محتملة في هذا المعنى, فان هذا لا يمنع ابدا" من تحقيق اوضاع نسبية تتقدم ولو جزئيا" على الاوضاع السالفة وتغطي جزءا من عورات وخطايا استهداف الدول على أساس تحقيق إرادات ومصالح دول اخرى ويعاون في خلق أي قدر ممكن من الوعاء الاجتماعي الموافق والساند للتغير من طبقات الشعب وليس فقط من الطبقة التي ستُسلّم مقاليد السلطة.

ان مصالح مجموعة محددة من البشر التي يفترض تحققها من التغيير لا يمكن ان تتحقق في مداها وأفقها النهائي الاّ بتوسيع ولو جزئي أو نسبي لمصالح شرائح أوسع يمثل تحقيقها اسنادا" للهدف الاصلي ودعما له وغطاءا" سياسيا" لا مفر منه.

من بين ملايين (واشدد على هذه الملايين) العراقيين الذين قُتلوا أو جرحوا أو هجروا داخل بلدهم أو اعتقلوا أو هاجروا خارج العراق سنتطرق الى الناس الذين كان على اميركا وحكومتها التي ولدت من رحم الاحتلال ان تعتني بهم عناية خاصة وبغض النظر عن أي عامل من العوامل المعلنة والتي أدت الى ممارسة الاجتثاث بالقتل أو بالطرد من الوظائف ومجالات الخدمة العامة والاعتقال والتهجير الداخلي والخارجي هم الطبقة التي تسمى بالنخبة من حملة الشهادات العليا والذين لا يمكن لأي عملية إعادة بناء وتعمير أن تتم الاّ بهم ولهم. ان أية عملية إعادة تشكيل اجتماعية وصناعية وعسكرية وأمنية واقتصادية لا تتم بيد الجهلة وأنصاف المتعلمين حتى لو كان من يمسكون المقود السياسي من عباقرة ودهاقنة السياسة ومن أصحاب الارادات الخيرة (افتراضا) والنوايا الطيبة. ان بديهيات البناء والاعمار هي في الاعتماد على الموارد البشرية المؤهلة والمدربة في مختلف المجالات. وكان من المفترض ان توضع هذه الشريحة, وبغض النظر عن أعدادها الرقمية سواءا" كانت بالعشرات أو المئات أو الآلاف في عداد خطة إعادة البناء والاعمار على اساس انها ثروة وطنية وملك للبلد والمجتمع وليس سوى ذلك من شيء. ان هذه الشريحة من الناس يجب ان تكون فوق قياسات السياسة والانتقام والثأر المقيتة وان التعامل معها على انها ثروة الوطن والامة يجب أن يعلو بل ويلغى نهائيا" أي نظرة الى ولاءاتها السياسية وانتماءاتها الحزبية والى كل ألوان الطيف الاثني او العرقي الذي يقف خلفها. ان من معاني الديمقراطية الحقيقية أن يمتلك الانسان حرية الانتماء وان هذه الحرية مكفولة في الغرب عموما" حتى لمسميات أدانها العالم كله وجرّمها وجرّم المحطات الزمنية التي عاشت فيها كالنازية مثلا". والولاءات السياسية في المجتمع المدني لا يجب أن تكون في ظل ديمقراطيات عريقة أو في ظل توجهات ديمقراطية ناشئة هدفا" للاستعداء لانها إن استعديت فهذا يعني إخلالا" وخرقا" فاضحا" لدستور الديمقراطية. ان الشريحة النخبة التي نتحدث عنها لا تحمل السلاح ولا هي مؤهلة بأي حال من الأحوال لايقاف التغيير الجديد والاتجاهات الجديدة ولذلك فان استهدافها ومعاداتها والانقضاض عليها لا يستوي أبدا" مع الاعلان عن الرغبة في تأسيس كيان ديمقراطي ولا يستوي مع الاعلان عن رغبات في إعادة تشكيل حلقات البناء والاعمار مع التغيير السياسي المنشود نحو بناء حكومة ديمقراطية ومن ثم دولة ديمقراطية. هذه الاشكالية تضع اميركا أمام محنة حقيقية وتضع تأريخا" إختطته لنفسها بالدم والالم والمرارات أمام مساءلات سيحين وقتها أمام العالم كله وأوله الشعب الامريكي.

و أول سهم سيصيب مصداقية اميركا هو انها شاطرة في كل شيء، عالمة بكل الامور وقادرة على ان تفعل كل شيء، وان القوة التي تتمكن من احتلال بلد لا يمكن لافراد من المجتمع المدني ان يقوضوا احتلالها ولا حتى ان يكونوا مجرد عصي من السليلوز في عجلات مجنزراتها. فكيف لاميركا العظيمة المتمددة نحو كل أجزاء العالم لنشر الديمقراطية أن تذبح الديمقراطية لكي تنحر شريحة من حملة الشهادات العليا وتحول من لم ينحر وحياته وحياة أهله واقرباءه الى كابوس من الرعب واللاّ أمان؟ ان غلطة الشاطر المقتدر أو الذي يدعي الاقتدار لا تدانيها غلطة ويمكن للدنيا كلها أن تغض الطرف عن نتائج أخطاء تمس الماديات الاّ انها لن تغفر خطأ يمس حياة النخبة في بلد دخلته اميركا لتدخل معها الديمقراطية التي تعني الحياة الحرة الكريمة. هذا على افتراض ان ما حصل ويحصل في العراق هو محض خطأ ليس الاّ !!!!.

لن نحاجج اميركا في فعلها الأساس وفي شرعيته من عدمها فلقد قيل في ذلك الكثير ونحن على ثقة ان الادارة الامريكية تعرف تماما" ما هو مشروع ومبرر وما هو غير مشروع ولا يسوغه مجرد الادعاء بالشرعية. ولن نحاججها في تصرفات واجراءات وقرارات سبق فيها السيف العذل كما يقول العرب ولكني سأتوقف عند ما يمكن لاميركا أن تعيد النظر فيه وتصلحه لكي يكون خطوة أولى نحو اصلاح أعم وأشمل لأن الخطوة الصحيحة في أي مكان في جسد البلد المثخن بالجراح يمكن أن تعاون على إعادة صياغة البرامج كلها مثلما قد تكون مدعاة لفتح صفحة لا تعرف اميركا في أي كتاب موجودة قد يكون لفتحها محضر إرادة تبعد الشر وتقرب مداخل الخير.

ففي العراق الدولة التي اسقطتها اميركا وحلفاءها, علماء واساتذة, عملهم المعروف لكل العراقيين والعالم هو البحث والتعليم, وبغض النظر عن انتماءاتهم السياسية ودرجاتهم في الحزب الذي ينتمون اليه فهم بشر يعملون في المجتمع المدني اضافة لكونهم اصلا" جزء من المجتمع المدني. ان هؤلاء العلماء لا يمكن ان يوضعوا في خانة العداء الذي وضعوا فيه لا من قبل اميركا ولا من قبل حلفاءها من امثال عائلة الحكيم واتباعهم لانهم ثروة وطنية وان افترضنا جدلا ان الاميركان وعائلة الحكيم واعوانها يبحثون صدقا عن اهداف معادية تحمل صفة الاجرام فان آخر من يمكن أن يقعوا ضمن هذه الخانة هم حملة الشهادات العليا ولهذا الاستبعاد حيثياته التي لا يتجادل فيها اثنان في أي مكان في الدنيا. ان صفة الاجرام في هذه الشريحة النخبة هي الاستثناء النادر في كل العالم وان استهدافها وإيذاءها تحت أي غطاء كان هو الاجرام بعينه واعلان عن فشل ذريع فى أي معنى مقصود من معاني التغيير السياسي والاجتماعي والاقتصادي. ان انتماء بعض أبناء هذه الشريحة الى حزب سياسي لا يجعلهم يقعون في خانة الوصوف الاجرامية وان وضعهم في هذه الخانة يقع في باب الثأر والحقد الدفين الذي لا يعتبر بأي حال من الاحوال نزعة ديمقراطية ولا يليق بعظمة اميركا ان تهبط الى مثل هذا الحضيض. ان من نتحدث عنهم هم آلاف العراقيين الذين كانوا يعملون في قطاعات البحث العلمي الاكاديمي والصناعي وفي الجامعات ومؤسسات الدولة المختلفة سواءا" في الوزارات أو المنشآت أو الدوائر الاخرى وهم علماء البلد وعماد بناءه وتقدمه وازدهاره كما هو الحال في اميركا ذاتها. والجزء الاعظم من هؤلاء العلماء قد حصل على شهادة الماجستير والدكتوراه من اميركا وبريطانيا والمانيا وفرنسا وسواها من دول العالم المتقدم وهم معروفين في سجلات جامعات هذه الدول بالاسماء والاختصاصات والاعداد ولا يمكن لدعي أن يسد وجه الشمس بغربال. وان الحديث عن هذه الشريحة والتأثيرات المريرة التي أطاحت بها لا يجب أن ينحصر عند حدود فترة ما بعد الاحتلال بل ان معانتها الحقيقية قد بدأت مع تصاعد آثار الحصار الشامل على العراق والذي أدى الى هجرة الآلاف منهم خارج العراق بعد ان تناقصت مردوداتهم المادية ورواتبهم بما يعادل أو يزيد على 1300 دولار شهريا في اواخر عام 1990 في الوقت الذى كان فيه سعر صرف الدينار العراقى يعادل 330سنتا الى ما هو اقل من اربعة دولارات فقط (4 دولارات) عام 1998 مثلا عندما سقط الدينار العراقي بفعل الحصار وصار الدولار الواحد يعادل 3000 دينار عراقي. والحديث عن الاحصائيات العددية لهذه الشريحة يجب أن يشتمل كلا المرحلتين. وإذا أردنا أن نتحدث عن مرحلة ما بعد الاحتلال فالعدد الذي أقْصيَ من هؤلاء وفي مختلف دوائر الدولة ومؤسساتها الجامعية وسواها من مراكز بحثية ووزارة الصناعة والتجارة ووزارات الاسكان والتعمير والكهرباء والنفط والخارجية والاعلام وأجهزة الداخلية والجيش قد يصل الى ما يزيد عن مئة ألف (100 الف عالم ) يقف خلفهم مئة الف عائلة وعشرات العشائر وملايين الاقرباء والاصدقاء ممن يمتلكون قناعات مطلقة ونهائية ان اجراءات أميركا والحكومة تجاه هؤلاء هي خرق للديمقراطية ولحقوق الانسان ولكل شرعة يرضاها الله والبشر.

ان الآلاف من علماء العراق ونخبته البناءه قد سقطوا برصاص ميليشيات الحكيم وفرق موت الجلبي واميركا مسؤولة مباشرة عن ذلك وادعياء الامركة مسؤولون أيضا أمامنا نحن أبناء العراق المثقفين والمتعلمين لانهم أرادوا ان يثقفونا بقناعات راسخة ان اميركا قادرة على كل شيء فلماذا شرع بريمر الامريكي قوانين الاجتثاث والاقصاء والغاء الدوائر والوزارات والمؤسسات ويطمغ على عناوينها صفة الاجرام ليعطي للميليشيات الحكيمية والجلبية ومن يدعمها اقليميا" ولمصدري الفتاوى أن يحللوا سفك دماء واعتقال وتشريد منتسبيها؟ ومن يهمنا هنا من هؤلاء لاغراض تحديد اتجاهات الحوار والتساؤلات هم الناس الذين يحملون مؤهلات علمية وقدرات تدريبية ولا يمكن لاعادة بناء البلد في زمن معقول منظور ان تستغني عنهم؟؟؟.

هل ونحن نسوق هذه الحقائق المبسطة عن واقع حياتي اكثر تعقيدا" ومعانات ومرارة خلقتهُ ظروف الحصار الامريكي وما تلاه من مختلف الاجراءات وصولا" الى مرحلة اسقاط الدولة والغاء النظام نعلن العداء لامريكا؟

وهل يمكن لاي شخص يدعي ذرة من الانسانية أن يجردنا حتى من حقنا في التساؤل عن اعمال لا تنسجم مع سمعة اميركا ولا تتناغم مع توجهاتها المعلنة على العالم ولا ترتبط بأي خيط من خيوط الادعاء بحقوق الانسان الذي ما زالت اميركا والمتأمركون ينادون بها ليل نهار في كل قنوات الاعلام والتثقيف والتعليم. اننا نتساءل عن الكيفية التي تستطيع بها دولة محتلة بغض النظر عن شرعية أو عدم شرعية احتلالها أن تلغي هذا الزخم البشري العملاق من دوائر استحقاقات الحياة وكيف ستعوض دوره الذي لا غنى عنه في اعادة تشكيل الحكم والدولة على اعتبار ان ذلك هدف من أهداف الاحتلال ذاته مع معرفتها هي والدول المشاركة بالاحتلال بالقدرات العلمية العظيمة والتدريب والمهنية العالية التي يقف عليها علماء العراق.
ما سنصل اليه مرغمين هو وضع استنتاجات لا يمكن غض الطرف عنها او صدقية احتمالاتها :

1- ان اميركا لم تأتي بالديمقراطية بل بالخراب والتدمير والتفتيت. وهذا ليس تنويها يراد منه اعلان العداء لامريكا بل هو اقرار بوقائع الأمور.

2- ان اميركا لا تريد اعادة اعمار العراق واعادة بناه التحتية لا هي ولا الحكام الذين جلبتهم لانها اسقطت الشرائح القادرة على اعادة الاعمار فعلا" وانهت فعليا" معاني الحياة عندهم.

3- ان الانطلاق من روح الاقصاء والثأر هو ميزة على العالم أن يضيفها الى خصال الجسد الامريكي الضخم ولم يعد لا بوسع اميركا ولا رجالاتها كثُر أم قَل عددهم عن الغاء هذه الميزة التي اثبتها احتلال العراق .

4- ان تجريم من هو غير مجرم أصلا" وسلبه مكونات الحياة أمر يعني انك ستقترف أبشع الجرائم مع مَن هو موضوع في دائرة مواجهة الامريكان من رجال الجيش السابق وقوى الامن المختلفة وهذا يجعل اميركا بلد لا يعترف بالقانون ولا بالعدالة لان المجرم وفق كل الاعراف بريء ولا يُقتل أو يُذبح كما حصل ويحصل فى العراق قبل ادانته.

وبعد هذا العرض لشريحة وصفناها بشريحة العلماء وقلنا ان اعدادهم كبيرة وطاقة تأثيرهم في الحياة وفي وسائل اعادتها الى العراق ليس من الممكن تجاهلها. فماذا سيقول العقل الانسانى وارادات الخير عند العالم المتمدن إن توسعنا قليلا واشركنا من هم اهل للاشراك في وصف النخبة وهم حملة الشهادات الجامعية في مختلف الاختصاصات وخاصة الطبية والهندسية والعلوم الصرفة والفنيين من مَن اُبعدوا عن وظائفهم وطالتهم يد الاستهداف بالقتل والاعتقال والتهجير وهم مئات الألوف إن لم نقل ان الارقام قد تدخل في خانة المليون. وان يقين الملايين من العراقيين ثابت انه لولا اقصاء هؤلاء لكانت الحياة قد عادت الى قطاعات الكهرباء والماء والصحة والتعليم حتى لو كان في العراق ألف قاعدة وليس قاعدة واحدة.

ان مقتضيات الديمقراطية وحقوق الانسان ان تقوم اميركا وحلفاءها باحصاءات واقعية للعراقيين من الذين وصفناهم اعلاه بعيدا" عن تأثيرات العصابة التي تحكم البلد الآن تحت اجنحة اميركا وان تتعامل مع هذا الامر على انه ضرورة للتوافق مع مبادئها المعلنة على العالم ويتناغم مع ادعاءاتها بانها قد جاءت لتحرير العراق واعادة تشكيله وفق القناعات الامريكية المتحضرة المتمدنة وإلاّ فان على اميركا ان تدرك ان تأريخها قد لطخ بما لا ينسجم مع تطلعات الشعب الامريكي وان ديمقراطيتها لا تعدوا كونها ادعاءات فارغة وان اهدافها المعلنة وغير المعلنة في العراق سيظل نصيبها الفشل وان ما خسرته لحد الان لن يعدو جزءا" يسيرا" من كل الخسائر القادمة المحتملة.

كما ان على اميركا أن تدرك ان الخطوة الصحيحة في التعامل مع الوضع العراقي ستدلها على خطوات أخرى اكثر عمقا" وصحة وان اعادة العراقيين الشرفاء الى دورهم وحياتهم الطبيعية في بلدهم وفي اعادة بناءه ستدلها على القوى الصحيحة التي تنقذ اميركا من ورطتها المتفاقمة في العراق وان على اميركا ان تقتنع ان عجلة الحياة لا تدور الى الوراء وان القوى السياسية والرافضة والمقاومة لها في العراق هي القادرة لوحدها على اعادة تشكيل البلد ديمقراطيا" والاّ فان اميركا ستظل تفشل.

 

 

 

 

شبكة المنصور

                                           الجمعة  /  07  ربيع الاول 1429 هـ   ***   الموافق  14 / أذار / 2008 م