بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

 

في الذكرى الخامسة للغزو اميركا تستحضر تركيا للتوازن مع ايران

 

 

 

 

شبكة المنصور

المحامي حسن بيان

 

تحل الذكرى الخامسة لغزو العراق،والمشهد السياسي في العراق ما يزال محافظاً على سماته الاساسية منذ وقع العراق تحت الاحتلال وحتى اللحظة واذا كان من تطور مظهري قد طرأ على هذا المشهد فيتمثل بالانكشاف السياسي والامني للاحتلال والقوى المتحالفة معه.

نقول ان المشهد السياسي ما يزال يحافظ على سماته الاساسية،انطلاقاً من كون الاحتلال ما يزال يرخى ظلاله الثقيلة على واقع العراق وتناوله جميع جوانب الحياة فيه،وانطلاقاً ايضاً من وجود المقاومة كحال نقيض للاحتلال وكل افرازاته الامنية والسياسية.

ان تناول الوضع في العراق من خلال المحاصرة السياسية والامنية للادارة السلطوية التي يناط بها ادارة الشأن العام تحت اشراف الاحتلال وتوجيهاته،وبروز الاختلاف على الحصص من خلال عمليات سرقة خيرات وموارد العراق،وتفشي الفساد الذي جعل العراق يصنف اولاً في مستوى استشراء الفساد الاداري والسياسي ،لم يعد امراً يثير الاهتمام او الانشداد اليه لأن القيمين على ادارة الوضع،وسموا بهذه السمة منذ اندفاعهم على رافعة الاحتلال الاميركي لاستلام سلطة وهم محكومون بجوع وعطش شديدين للتسلط والنهب بحيث كلما جاءت تركيبة سياسية،تعمد الصاق تهم الفساد والرشوة والتسلط على من سبقها، ثم ما تلبث لتعود تندرج تحت خانة التصنيف ذاته مع ظهور البدائل الجديدة .

وبقدر ما حافظ الشق المتعلق بالاداء الامني والسياسي على سماته الاساسية خلال خمس سنوات،فإن الشق المتعلق بالجانب الاجتماعي بقي مشدوداً الى حالات تثقيل شديدة الوطأة، لا تقتصر على افتقار البلاد الى الحدود الدنيا من منظومة الخدمات الصحية والاجتماعية،بل طالت ركائز الاستقرار الاجتماعي ان من خلال التهجير الممنهج والمبرمج للتكشيلات المجتمعية المتداخلة،وصولاً الى احداث تغيير في الطبيعة الديموغرافية للسكان وبما يخدم خطة الاحتلال والقوى المتربطة به.

اما لجهة النزوح والهجرة الى خارج البلاد،فإن الارقام المتداولة تبدو مخيفة ومرعبة،اذ تشير الاحصاءات الى ما يزيد عن نزوح أربعة ملايين عراقي الى خارج الحدود وهم يعيشون ظروفاً صعبة وشديدة الوطأة وكما تفيد تقارير المنظمات الدولية ذات الصلة.

اما المعتقلون السياسيون تحت عناوين مختلفة،فإنه وان لم تفصح قوى الاحتلال والقوى الميليشاوية عن عدد المعتقلين والمختطفين والمفقود عن الارقام الحقيقية، الا ان المنظمات المعنية بحقوق الانسان تشير الى ان الاعداد هم بعشرات الالوف.

هذا العراق،الذي يرزح منذ خمس سنوات تحت الاحتلال هو "النموذج الديمقراطي"الذي وعدت اميرا بإبرازه واظهاره وهو الذي تريد تعميمه كنموذج يحتذى به لتنفيذ الاستراتيجية الاميركية لاقامة ما يسمى بالشرق الاوسط الجديد او الكبير .

واذا كانت اميركا قد حاولت عبر زيادة عديد وعدة قواتها للسيطرة على الوضع المتفجر،فإن محاولاتها قد باءت بالفشل الذريع،بدليل قدرة المقاومة على تكييف اوضاعها العملانية وتطوير بناها التنظيمية ،وبقاء وتيرة الخسائر بقوات الاحتلال وتلك المرتبطة بها على مستواها.وان اقرار اميركا بأن قتلى جنودها بلغ عشية الذكرى الخامسة للغزو أربعة ألاف وعدد الجرحى تجاوز الاربعين الفاً وبلوغ مستوى الانفاق الشهري 12,5 مليار دولار لهو دليل كم هو حجم المأزق الذي بات يواجه اميركا التي ظننت ان رحلة حربها على العراق تكون نزهة،فإذا بها تجد نفسها تسير في حقول الغام تنفجر بها وهي تدوس عليها او تفجر بها كلما اقتربت منها،وقد بدأ صدى هذه الانفجارات يسمع بقوة في الداخل الاميركي .

امام هذا الانكشاف الامني لقوات الاحتلال من جراء تنامي فعل المقاومة واتساعها وشمولها عموم أرض العراق ،وامام حالة الانكشاف السياسي الذي يتمثل بهزالة التراكيب السياسية التي تتولى الادارة الامنية والسياسية في ظل الاحتلال،واتساع دائرة المعارضة العالمية سياسياً وشعبياً للحرب واستمرار الاحتلال،عمدت اميركا وتحاول من خلال موقعها كلسطة احتلال،الى ايجاد غطاءات سياسية لوجودها والى استقدام ادوار اقليمية علها تساعدها على احتواء العراق بما يخدم اهدافها الاستراتجية.

ان اميركا التي عمدت الى زيادة قواتها ومارست سياسة الارض المحروقة في بعض المناطق للسيطرة على الوضع الشعبي والسياسي المتفجر بوجهها لم تصل الى النتائج المرجوة بدليل ارتفاع نسبة الخسائر في صفوف قواتها في الاشهر الاخيرة،فإنها عمدت الى استحداث تشكيلات سياسية عبر اختراقات معينة لبعض المفاصل العشائرية،علها بذلك تستطيع توفير أغطية سياسية وشعبية لاحتلالها،لكن ثبتت بالحس الملموس ان التشكيلات التي استحدثتها سطلة الاحتلال ومدتها تسليحاً ومالاً،فإنها وان استطاعت ان تحدث ارباكاً لبعض الوقت،الا انها لم تستطع ان توفر مساحة من الهدوء والحماية لقوات الاحتلال،وبات دور هذه التشكيلات يوظف لتحقيق توازن مع تشكيلات اخرى ذات تركيب طائفي معين،وبذلك تكون قوات الاحتلال التي اخفقت في جانب توظيف هذه التشكيلات في توفير ظهر داخلي لها،قد نجحت في جانب آخر ،الا وهو اعطاء تطييف الحياة السياسية جرعة دعم جديدة واوجدت اطارات شعبية لهذا التطييف،بحيث يكمل التطييف الذي شرع نصوصاً دستورية،وعبر جعل الطائفية السياسية هي الناظم الاساسي للحياة السياسية في العراق.

من هنا،فإنه اذا كان من تطور جديد برز في معطى للمشهد السياسي في العراق خلال الفترة الاخيرة،فهو هذا الاستحداث لتشكيلات امينة وسياسية ذات تركيب طائفي معين لتوظيفها في اداء دور امني معيق للمقاومة وهذا ان اربك الا انه لم يصمد ولم يحل دون المقاومة من استمرار اداءها النضالي بالاساليب ومعطيات الواقع السائد.

هذا لجهة معطى الداخل،اما لجهة معطى ادوار الخارج،فإن اميركا التي يتسع يوماً بعد يوم مدى الانكشاف السياسي لاحتلالها العراق،بدأت تعمل لاستحضار ادوار خارجية لمساعدتها في تجاوز مأزقها في العراق.

واذا كانت كل المؤشرات والمعطيات تدلل على ثمة تناغم ايجابي بين تقاطع المصالح الاميركية والايرانية في العراق رغم التنافر الاعلامي،فإن اميركا لا تريد ان تقدم نفسها طرفاً مفاوضاً مباشراً لايران حيال تقاطع المصالح، لانها لا تريد ان تتعامل مع الموقع الايراني من موقع الندية لها، بل هي تريد استحضار ادوار اخرى ،توازن الدور الايراني بحيث تقدم نفسها راعياً او ضامناً لأي اتفاق بشأن العراق.

وهذه النزوع الاميركي لاستحضار ادوار خارجية في العراق،وبالطبع تحت السقف المرسوم من قبلها عبّر عنه صراحة نائب الرئيس الاميركي ديك تشيني وهو المعروف بأنه الاكثر تأثيراً في تحديد مسار التعامل الاميركي مع العراق،ويكاد يكون الاول في هرم الادارة الاميركية حيال موضوع قرار الحرب وغزو واحتلال العراق.

ان دعوة ديك تشيني العرب للتدخل في العراق،لم يكن لاجل مساعدة العراق على تمكين هذا البلد من اجل استعادة وحدته،بل من اجل توزان مع الدور الايراني،وانه بالنظر الى ضعف المواقع اميركياً، فإن الطلب الاميركي لتدخل عربي معروف جوابه سلفاً.

ولهذا،يتجدد الخيار الاميركي الى استقدام دور آخر اقليمي لتوظيفه في توازن مع الدور الايراني،وهذا الدور هو الذي يشكله الموقع التركي.

ان تركيا ،هي وحدها القادرة على تحقيق توزان مع ايران،فهي دولة اقليمية كبيرة،وتكاد توازي ايرانياً سكانياً وتملك جيشاً قادراً على الخروج خارج حدودها وتملك اقتصاداً ناشطاً،ولها مصالح في العراق ان لجهة مصالح دول الجوار او لجهة ما تعتبره تركيا مشروعية تدخل في العراق اذا ما تعلق الامر بالاكراد،او تعلق الامر بالاقلية التركمانية ،اضافة الى عامل آخر لا يقل اهمية عن العوامل الذاتية التي تدفع تركيا لأن تكون في حالة تهيؤ وجهوزية للتدخل،هو كونها في ظل الفراغ في المركز التجاذب العربي،تشكل كتلة بشرية "سنية" توازي الكتلة"الشيعية" في ايران.

وانه في ضوء معطيات المكون الايراني وسعيه الناشط لدور مؤثر وفاعل في العراق يصبح الدور التركي مطلوب اميركياً كعنصر توازن مع الدور الايراني نظراً لانعدام فعالية الدور العربي.

من هنا،فإن اتجاه التحرك الاميركي حيال ترتيبات سياسية للعراق،ينطلق حالياً،من ادخال عناصر جديدة على معطى الوضع الداخلي وعلى ادوار خارجية مطلوبة للمساعدة.

ان ابراز تشكيلات اضافية ذات تركيب بنيوي طائفي"سني" اصبح حاجة اميركية لخلق نصاب توازن داخلي مع التشكيلات الطائفية الاخرى"الشيعية" كما ان الدور التركي هو اليوم حاجة اميركية لخلق نصاب توازن خارجي،بحيث تعمل اميركا للاستناد الى هذين التوازنيين لفرض ترتيبات سياسية وامنية للعراق.

ان هذا التطور الجديد في التفكير الاميركي حيال التعامل مع الملف العراقي،فرضه عجزها عن السيطرة على الوضع واحتوائه ،وثبوت ان الحسابات الاولية لغزو العراق واحتلاله،لم تكن كما توقعته الادارة الاميركية بحيث باتت بعد خمس سنوات تواجه انكشافاً امام تنامي العمليات العسكرية التي تشنها المقاومة ،اونكشافاً سياسياً متزايداً في داخل العراق وخارجه،ولهذا تسعى لادخال عناصر جديدة علّ ذلك يساعدها على احتواء الوضع.

هل تستطيع ذلك؟ ان الجواب على ذلك مرهون بعاملين اساسيين،العامل الاول قدرة المقاومة على اثبات وجودها كعامل اساسي من العوامل المقررة في الوضع العراقي الداخلي،والعامل الثاني قدرة اميركا على تحمل ولفترة طويلة التكلفة البشرية والاقتصادية والسياسية للحرب.

واذا كانت اميركا تسند قوتها تملك اقوى اقتصاديات العالم،الا ان هذه القوة لن تستمر على حالها في ظل التداعيات التي تنتجها المدايات الواسعة للتدخل الاميركي في قارات العالم الخمس براً وبحراً وجواً،
وهي لا بد انها ستواجه بمزيد من الاصطفافات الدولية المعارضة والمعترضة وهذا كله لن يكون في مصلحة مركز القرار الاميركي وتأثيراته على الصعيد الدولي.

واذا كان من امثلة حسية،فإن اميركا عشية غزوها للعراق،ليست كما هي عشية الذكرى الخامسة،وهي اذ تبحث عن عوامل مساعدة،فلأنها استنتجت انه بعد خمس سنوات على مقاومة هذا الاحتلا ل بأن ما استندت اليه من ادوات داخلية لم يستطع ان يؤدي الوظيفة المطلوبة والمهمة المناطة بها،وانه لن يتأخر الوقت طويلاًً ،لتتأكد بأن خلقها لتوازنات داخلية جديدة والاستعانة بأدوار اقليمية،لن يعطي النتائج التي تبتغيها،وبالتالي ستجد نفسها امام مهمة البحث عن ادوار جديدة،وسيكون ملاذها التالي تدويل الوضع في العراق للمساعدة على ترتيب الوضع السياسي فيه كمدخل لترتيبات شرق اوسطية اوسع واشمل.

ان هذا المستقر ستصل اليه اميركا عاجلاً ام اجلاً،وبطبيعة الحال،لن تستطيع عبر التدرج بالاستعانة بالادوات الداخلية والادوار الاقليمية والدولية ان تفرض الترتيبات التي تريدها لسبب جوهري وحيد وهي انها تتصرف دون او توجه بوصلة تحركها السياسية نحو الحلقة المركزية المقابلة لوجودها الاحتلالي وهذا الحلقة المركزية هي المقاومة التي استطاعت ان تدفع المشروع الاميركي نحو المأزق واستطاعت ان تقدم نفسها باعتبارها الحاضر الاهم في حياة الشعب العراقي.

من هنا فإن اميركا ان كانت حريصة على الخروج من المأزق العراقي،فما عليها الا ان تسعى جدياً للتفاوض مع المقاومة،باعتبارها الممثل الاكثر شرعية ومشروعية لشعب العراق،ولان المقاومة هي وحدها القادرة على اعادة تكوين المركز الوطني الجاذب التي يحول دون تطييف الحياة السياسية،وهي وحدها قادرة على تحقيق الامتلاء السياسي ذي البعد والمضمون الوطنيين،والذي بتحقيقه،يتوفر المرتكز الداخلي الذي يحول دون اختراقات او تدخلات اقليمية تحت اي مسمى كان،وعندئذ لا يعود العراق بحاجة لتوازنات داخلية ذات تركيب طائفي ومذهبي وليس بحاجة لتوازنات اقليمية ،وقد اثبتت التجربة ان العراق في ظل حكمه الوطني استطاع ان يشكل حصناً منيعاً امام التدخلات والاطماع الاقليمية وخاصة الاطماع الايرانية،واستطاع ان يشكل عنصر توازن مع الموقعين الاقليميين الاخرين،الايراني والتركي،وبدون ذلك عبثاً تحاول اميركا البحث عن حل لمأزقها.

 

 

 

 

شبكة المنصور

                                           الثلاثاء /  18  ربيع الاول 1429 هـ   ***   الموافق  25 / أذار / 2008 م