الرئيسية

من نحن

للاتصال بنا

إبحث في شبكة المنصور

 

 

 

 

الفن لسان الشعب فرفقا بالفنانين العراقيين !

 

 

شبكة المنصور

علي الكاش كاتب وفكر عراقي

 

الفن بلا شك من أهم أركان الحياة الثقافية وهو إكسير الحضارات الذي لا ينضب فالحضارات القديمة بكل ما حوته من آثار وشعر وأدب وملاحم وصور ومنحوتات هي من صنع الفنان وفي الوقت الذي زالت هذه الحضارات بقيت تلك العلامات المضيئة شاخصة ومؤشرا عليها, فالأهرامات بروعتها الفنية والجنائن المعلقة وغيرها من ابرز سمات الحضارة العربية هي دلائل على المكانة المرموقة التي وصلت إليها حضارتي وادي الرافدين وودادي النيل, الفن هو التعبير الحي والمناخ المفعم لكل حوافز الإبداع البشري, وهو الذي يوفر الفرصة الذهبية لصياغة الحياة الحقيقية للشعوب برقيها أو تخلفها, بمعنى أنه الترمومتر الذي تتناسب درجاته تناسبا طرديا مع وضعية الشعوب, فعندما تكون الشعوب في الدرجة العليا من السلم الحضاري تترقي الفنون والآداب معه والعكس صحيح, ولا يقتصر هذا الأمر على شعب ما أو حضارة ما, فبعد الحرب العالمية الثانية وما تمخضت عنه من قتل ودمار وخراب انحدرت الفنون والآداب إلى الحضيض وبرزت أنواع مشوهة وممسوخة من المذاهب الأدبية ومنها الدادائية, وفي عصور النهضة والتنوير تطورت الآداب والفنون بشكل ملحوظ, وفي السبعينيات من القرن الماضي ارتقت الحياة في العراق بشكل كبير وارتقت الفنون والآداب معها لذلك سمي بعصر الرواد, حيث دفع الرواد العراقيون عجلة الفن بقوة إلى الأمام قاطعين شوطا مهما.

صحيح جدا أن الفنون والآداب برزت في الستينيات من القرن الماضي لكن نضوجها كان في السبعينيات منه بعد انفتاحها على فنون بقية الشعوب حيت توفرت لها الفرصة للاحتكاك بهذه الفنون وتفتحت براعمهم على آفاق جديدة, وحملوا معها إشعاع حضارتهم إلى أبعد الآماد فأغنت واغتنت مداركهم وثقافتهم الفنية.

وصاحب هذا التطور تشريعات قانونية صبت في صالح الفنانين لغرض ضمان مستقبلهم وتوفير الزاد الحياتي الذي يساعدهم على تقديم زادهم الفني, فصدر قانون نقابة الفنانين وقانون التقاعد الخاص بهم, وأنشئت العشرات من المسارح والفرق المسرحية الحكومية والخاصة, وتشكل المجلس الوطني للموسيقى, وتأسست دائرة الموسيقى وارتبطت بوزارة الإعلام, وتم افتتاح مدرسة الموسيقى والبالية, وأسس معهد الدراسات النغمية العراقي الذي احتضن المواهب الفنية وصقلها وشذبها لتساهم في رفد الحركة الفنية بشكل مميز, وتم تطوير أكاديمية الفنون الجميلة للدراسات الجامعية الفنية وفتح فيها أقسام جديدة وكذلك الأمر لمعهد الفنون الجميلة الذي عمق المسيرة الفنية, كما تم دعم الفرق الفنية الشعبية بإنشاء معهد الفنون الشعبية للحفاظ على التراث الشعبي العراقي ووفرت فرص هائلة للفنانين لنيل الزمالة الدراسية وإكمال دراساتهم العليا وتم تطوير المتحف الوطني للفن الحديث ومتحف الأزياء والمأثورات الشعبية والمتحف البغدادي وأسست دار الأزياء العراقية وقاعة صدام للفنون حيث جمعت لوحات الفنانين الرواد, وأسست أو طورت بعض القاعات العامة ومنها قاعة السينما والمسرح القومي وقاعة الخلد والرباط والشعب ومسرح بغداد والمسرح الوطني, وأنشئ بيت للمقام العراقي,لذلك كان العطاء الفني العراقي مميزا في عقدي السبعينيات والثمانينيات, وبالرغم من ظروف الحرب التي شنتها إيران على العراق فأن الفنون حافظت على مكانتها في نادرة تاريخية لم تشهدها الأمم, بل أنها أرتقت أكثر من ذي قبل, وقد ارتدت الملابس الخاكية لتشارك المقاتلين حربهم العادلة وترفع من معنويات المقاتلين وتشد عزمهم فكان العطاء مميزا.

ولم يدر بخلد احد بأن الغزو البغيض للعراق سيتعامل مع الفن كجهاز عسكري وأمني ومخابراتي, الفن هو صورة حية لحياة الشعب سواء كان وقت الحرب أو السلم وقت الرخاء أو الفقر, وهذا الأمر لا يقتصر على العراق وإنما جميع دول العالم وهذه لا تعتبر ثلمه وإنما العكس يعتبر ثلمه, عندما تقوم ثورة في أي مكان في العالم فأن الفنانون هم أول من يمسك مشاعلها لينيروا الدرب للسياسيين والثوار وهذه حقيقة ثابتة, والفن في كل دول العالم واجهة سياسية للدولة أيضا فالسينما لأمريكية قبل وبعد معركة الخليج الثانية صبت حممها على النظام الوطني في العراق وأخرجت العديد من الأفلام المسيئة للعراق وكذلك الأمر لبقية الفنون فقد سخرت الإدارة الأمريكية الماكينة الإعلامية لتخدم أغراضها السياسية والحربية ضد العراق وهذا أمر طبيعي تنتهجه كل دول العالم ولم يقتصر الأمر على العراق.

بعد أن تسلم المندوب غير السامي بول بريمر منصبه كحاكم مدني على العراق تعامل مع الفنان والسياسي ورجل الأمن والعسكري والكوادر الحزبية بطريقة الأواني المستطرقة, فحل وزارة الدفاع والداخلية والأجهزة الأمنية وتبعها بوزارة الأعلام وكانت تلك الخطوة لا تقل خطورة عن سابقاتها, فكما أدى حل الجيش والأجهزة الأمنية إلى فوضى أمنية فأن حل وزارة الأعلام خلق فوضى فنية وإعلامية كبيرة ما نزال ندفع ثمنها لحد هذه اللحظة.

وبدأت قوات الاحتلال وأجهزة الدولة و الميليشيات المسعورة بملاحقة الفننين والأدباء والشعراء في حملة شعواء لا مبرر لها ولا تنسجم مع القيم الديمقراطية الزائفة التي تشدق بها المحتل وعملائه, وأمسى الفنان في نظر هذه الشراذم لا يقل خطورة عن الكوادر القيادية في الحكم الوطني, وتم العبث بالمكتبة الصورية والصوتية في وزارة الإعلام والمؤسسة العامة للإذاعة والتلفزيون وقامت النفوس الضعيفة ببيعها على أروقة الأسواق الشعبية في منطقتي الميدان والباب الشرقي, وتم تدمير تأريخ الفن العراقي ومسخه من خارطة العراق الجديد! وسرقت لوحات الفنانين الكبار من قاعة صدام للفنون ونهبت المكتبات الفنية شانها شأن بقية المؤسسات الثقافية.

وعندما أقفلت الأبواب جميعها بوجوه الفنانين لا وظيفة ولا راتب ولا مستقبل وملاحقات ومضايقات مستمرة, وبعد أن تيقنوا إن أجواء الغزو الأمريكي مفعمة بمفردات الخداع والتمويه وعمق الشروخ, ولا يمكن أن يتكيفوا معها ولن تحفظ لهم توازن القيم التي تربوا عليها لملموا حوائجهم البسيطة وغادروا الوطن تاركين ورائهم بيوتهم وكد العمر والأسوأ منه تركوا أرث عظيم من العطاء ولكنه تبعثر في الهواء بفعل الغادرين من قوات الاحتلال وحفنة العملاء, وتركوا دموع حارة على مسيرة فنية باهرة رعوها أكثر من أبنائهم وقدموا لها كل ما في وسعهم من طاقات وإبداعات.

الفنان العراقي هو جزء مهم وفاعل في المجتمع العراقي وحتى أن كان في خارج العراق فأنه لا يخلع نفسه من هذا النسيج الوطني كما يفعل البعض الذين يبدلون جلودهم كالأفاعي وهم عبدة الدولار, وقد عبر فنانو العراق عن مأساة العراق في الخارج بصورتين أحداهما هو الوضع البائس الذي بات يعيشون فيه بعد أن نضبت مواردهم وهم بذلك ينقلون مأساة الفنان والإنسان العراقي بشكل عام, والثاني تمثل في عطائهم الفني رغم قلته وبساطته بسبب محدودية الإمكانات والذي عبر عن الكارثة الإنسانية التي يعيشها العراقيون, المطرب والممثل والشاعر والرسام والنحات والملحن والممثل جميعا اجتمعوا معا كعلبة الألوان الزيتية لترسم منها لوحة معبرة عن مأساة الوطن الأم.

الفنانون هم ضيوف الشعب العراقي الدائمين, إنهم ضيوف خفيفو الروح والظل في خدمتك(24) ساعة, يسهرون ويجهدون لغرض كسب ودك ورضاك, لا يملون منك حتى لو مللت منهم, يهون عليهم كل شيء إلا سخطك وتذمرك فهذا يصعقهم ويربكهم, يقدمون لك كل أنواع الفنون كالفواكه الطازجة ويقولون خذ ما تشتهي وأترك ما لا تشتهي, لا يلومونك ولا يحزنهم اختيارك! هاجسهم الأول والأخير هم البحث والتجريب وكشف العالم السحري لإسعادك, وأن يكونوا آخر من يودعك قبل أن تتوجه إلى النوم والاسترخاء, ويتركوك مهرولين ليلقوك مجددا مع إشراقة يوم جديد, يجدوا ليتواصل عطائهم مع رسالتهم الفنية ويحطموا بسعيهم المتواصل أي جدار يفصلهم عن الشعب, نخبة رائعة سخية ومعطاءة أكرمتنا بفنها وأكرمناها بحبنا.

قدر الفنانين العراقيين أن يلاحقهم طيف الفقر والبؤس والاستلاب الإنساني والقهر الاجتماعي في رحلة العذاب, يرزحون تحت أثقال الغربة القاسية والموحشة يئنون من شدة وطأتها, والوطن يئن هو الآخر من غربتهم عنه, عاشقان فرق المنافقون بينهم وتسلوا بمنظر دموعهم اللامعة كحبات اللؤلؤ المنثور, كأنهم الصورة الجميلة التي ابتدعتها مخيلة الشاعر أبن زريق البغدادي:

وكم تشبث بـي يـوم الرحيـل ضحـىً
وأدمـعـي مسـتـهـلاتٌ وأدمـعــه
لا أكـذب الله, ثـوب الصبـر منخــرق
عـنـي بفرقـتـه لـكــن أرقّـعُــه
ما كنـت أحسـب أن الدهـر يفجعنـي
بــه ولا أن بــي الأيــام تفجـعـه

الفنان كالفلاح لا يستطيع أن يزرع أو ينتج خارج أرضه والفنان لا يستطيع أن يبدع ويبتكر إلا في وطنه فهو ميدان عمله الصحيح ومصدر عطائه, وهذه حقيقة لا يدركها إلا الفنانين أنفسهم, لذلك كان وقع الغربة عليهم اشد من غيرهم, ولعمق أحاسيسهم ودفء مشاعرهم وطراوة أفكارهم فقد كانوا عرضة لأكبر موجات الضياع والتشرد.

لغة المصالح والتوافق أو الصراع السياسي واضطراب المعايير والأجندات تكون بمنأى عن حلبة الفن وهي لا تعني شيئا كبيرا للفنان, وليس من المنطق أن يكون الفنان ضحيتها ويتحمل وزرها, فلغة الفن تسمو على لغة السياسة وتتميز عنها باشراقة الصفاء والمودة ونبل الغاية وبراءة الوسيلة

إن مأساة الفنان العراقي مأساة مريعة في كل جوانبها ومفرداتها, مأساة بعيدة عن نظر العالم تصطحبك في رحلة عذاب لا نهاية له, فعندما يجتمع الفقر مع الظلم في خيمة الغربة أقرأ الفاتحة على الفن, الغربة هي الوباء الخطير الذي يفتك بالفن, وإذا كان الاحتلال وحكومة الذل قد غدرت بفنانينا فعلينا جميعا تقع مسئولية رفدهم بالدواء وعلاجهم كي يتعافوا ويتجاوزوا محنتهم, إنها دعوة خالصة لإنقاذ فنانينا من محنتهم ومد يدنا إليهم لننقذهم من دوامة الفقر والوحشة والظلم الذي وقع عليهم.

 

Alialkash2005@hotmail.com

 

كيفية طباعة المقال

 

شبكة المنصور

                                            الاحد  /  07  ربيع الثاني 1429 هـ   ***   الموافق  13 / نيســـــــان / 2008 م