الرئيسية

من نحن

للاتصال بنا

إبحث في شبكة المنصور

 

 

 

 

القس عادل يوسف
نجم جديد يتألق في ميدان الشهادة

 

 

شبكة المنصور

علي الكاش / كاتب ومفكر عراقي

 

ليس ثمة شك بأن النظم الاجتماعية في العراق قد تخلخلت بفعل الغزو الغاشم شأنها شأن بقية النظم السياسية والاقتصادية والثقافية, وتصدع جدار القيم الأخلاقية والمثل العليا, وتسللت المفاهيم الجديدة كالجرذان لتعبث بالأعراف والتقاليد التي صمدت في مواقعها منذ قرون خلت بالرغم من شدة الأعاصير الصفراء, وهذه ليست حالة فريدة في تأريخ الشعوب المحتلة فالقيم الاجتماعية في العراق حاليا هي إفراز كريه من أبط الفوضى الخلاقة التي جلبتها قوات الاحتلال باعتبارها الصفة الملازمة للعولمة والمجتمعات المعاصرة لتكون بديلا عن النظم التقليدية المتوارثة التي بدأت تتآكل في صراعها المرير مع الأنماط الجديدة من القيم.

فالعلاقات الاجتماعية وهي تعني العلاقات التي تربط أفراد المجتمع بعضهم ببعض كانت ثابتة في خطها البياني في العراق ومعتدلة منذ فجر الحضارة وهي لم تخضع لأيقونة الانطواء والتقوقع والانكفاء وقد انعكست هذه الظاهرة الداخلية على علاقات العراق بجيرانه والعالم الخارجي بصفة ايجابية, وبالرغم من تباين بعض الشرائح الاجتماعية في العراق بحكم الدين والمذهب والقومية وهي حالة طبيعية تمتاز بها كل الشعوب و لكن هذا التباين يكاد أن يضمحل مقارنة بالوضع في بقية الدول التي تعاني من إشكالات هذا التنوع, ونكاد أن نجزم بأن العراق يعتبر من أكثر الدول انفتاحا في علاقاته الاجتماعية وأنها لم تشهد من الناحية القانونية أو الاجتماعية أي نوع من التمييز على أساس الدين والمذهب والعنصر والعرق, وهذا سهل للجميع بأن يندمجوا في الحياة الاجتماعية دون أن تراودهم المخاوف حول أوضاعهم أو مستقبلهم ومستقبل أبنائهم.

المسيحيون في العراق كانوا على مر الزمن من أبرز واهم الطبقات الاجتماعية التي ساهمت في أغناء العراق بكل صنوف المعارف والعلوم, وهم أحد الأسس الصلبة في بناء المجتمع المستقر في العراق, وقد وضعوا كل خبراتهم ومعارفهم وقيمهم وتجاربهم لبناء حضارة العراق, وساهموا في الحياة الثقافية والفنية بشكل مميز وكان عطائهم قد غطى عطاء الآخرين, وفي الظروف الصعبة والحروب والكوارث كان مسيحيو العراق جزء لا يتجزأ من المجتمع العراقي فقد قدموا كل ما بوسعهم لخدمة العراق والمحافظة على أمجاده فكانوا خير خلف لأعظم سلف, امتداد تأريخي من العطاء لا ينضب, وفي الحروب أبى المسيحيون إلا أن يكونوا في الصفوف المتقدمة مع بقية المقاتلين فجادوا بدماء سخية للدفاع عن بلدهم وكرموا أرض الرافدين بشهدائهم وبخروا سمائها بعطر التلاحم المصيري.

المسيحي العراقي لا يمكن أن تمييزه عن بقية العراقيين وهي حالة فريدة بين الشعوب, انه عراقي قبل كل شيء يؤمن بالفطرة والسليقة بأن الدين لله والوطن للجميع ومن هذا المنطلق اندمجوا في المجتمع العراقي بكل حب ومودة وإخاء, مسيحيو العراق تجاوزا كل ما يبعدهم عن عراقيتهم فهم لا يختلفون عن بقية العراقيين في مأكلهم وملبسهم ومسكنهم وعاداتهم وتقاليدهم احترموا التقاليد الإسلامية وكانوا أكثر إسلاما من بعض المسلمين, فمعظم مسيحيو العراق لا يأكلون لحم الخنزير وهذه حالة فريدة, ويؤمنون بالأديان السماوية ولا يعتبرونها ميزة للانطواء والابتعاد عن الغير, وحتى أسمائهم معظمها لا تختلف عن بقية أسماء العراقيين, بل تجد أسماء يمكن أن لا تخطر على بال أحد منها حسين وحسن وعمر وعدنان وعثمان وغيرها من الأسماء, وهذه أيضا من الحالات الفريدة في بابها, وحتى إحيائهم فلا يوجد حي يقتصر عليهم فقط فقد توزعوا في كل أحياء العراق ليثبتوا للعام أجمع أنهم عراقيون وعراقيون فقط.

رغم سنوات الحرب ألثمان التي خاضها العراق ضد العدوان الإيراني ومراراتها, كان مسيحيو العراق ركنا أساسيا في جدار الصمود والتحدي, وبالرغم من بشاعة العدوان الأمريكي عام 1991 الذي استهدف البنى الارتكازية, قدم المسيحيون الكثير من التضحيات وتعرضوا شأنهم شأن بقية العراقيين إلى عواصف التخريب والدمار, وكانت الخيام المنصوبة لمجالس فواتح شهدائهم الأبرار هي نفس الخيام التي نصبت للشهداء المسلمين, انه التلاحم المصيري الأرضي والسماوي بينهم وبين بقية العراقيين, ولا نغالي القول وهذه حقيقة يعرفها الجميع أن المسيحيين لم يتقاعسوا عن خدمة العراق في الوقت الذي تقاعست فيه قوميات وشرائح كبيرة من المجتمع العراقي عن نصرة العراق, بل أن البعض مع الأسف الشديد باع نفسه الضالة وركع يصلي في محراب أعداء العراق, مسيحيو العراق ينبوع صافي من العطاء, ونبض تضحية متجدد لا يتوقف وهذا وسام فخر لكل مسيحيي العراق ومن حقهم أن يعتزوا به ويعلقوه على صدورهم الشامخة.

لقد تفاعل المسيحيون في العراق تفاعلا حيويا مع أحداثه وكانت قدرتهم على هذا التواصل تثير الدهشة والعجب, ولم تكن لهم مسائل خلافية أو فجوة مع بقية العراقيين ولم تكن لهم مواقف غامضة تتطلب التفسير, وليس عندهم اضطراب أو عدم وضوح رؤيا في شئون العراق ولم يسجل عليهم موقف عجز أو تخاذل لا سامح الله, ولم تنازعهم الأهواء أو تخلخل قلوبهم الأحداث مما جعل أعداء العراق يعضون أصابعهم حسرة وهم يشترون ضمائر العديد من العراقيين لكن صعب عليهم شراء ضمائر المسيحيين رغم أنهم يدينون بدين واحد!

هذه المواقف وغيرها لا تتناسب مع مخططات الأعداء فوحدة المشاعر وثبات القيم والمبادئ ورسوخ جذور الوطنية العميقة والرغبة المتواصلة على العطاء والاستعداد ألدائم للتضحية والفداء ووحدة المصير كلها عوامل مدمرة لخططه ومن شأنها أن تعصف بها وتنثرها كالغبار في الهواء, ولغرض كسر الطوق الفولاذي الذي يجمع المسيحيين مع بقية العراقيين حاول الأعداء أن يستعينوا بحفنة من عملائهم الجبناء ليستهدفوا القيادات الدينية المسيحية بعد أن فشلوا في زحزحتها عن موقعها الوطني, وبعد أن خفت بريق الدولار أمام تحديهم وصمودهم الرائع الذي استمدوه من مسيرة أجدادهم ملوك وقادة العراق منذ ألعصور الأولى لحضارة وادي الرافدين.

وبدأت النفوس الشريرة بتنفيذ خطة الشيطان مستعينة بأضعف خلق الله فاغتالت بعملية أخجلت الجبن نفسه نيافة المطران بولس فرج رحو كبير أساقفة الكنيسة الكلدانية في الموصل في نهاية شهر شباط الماضي, بعد أن لقنهم نيافته دروسا عميقة في الصمود والتحدي برفضه المساومة على روحه الزكية الطاهرة مع ثلة من المجرمين طلبوا فدية لقاء الإفراج عنه, أعطاهم درسا بليغا بأن الروح الخيرة لا تساوم الروح الشريرة وان الشر لا يمكن أن يقايض الخير بروح مؤمنه, وهذا هو الامتحان الحقيقي لقياس درجة الأيمان والتمسك بالمثل السماوية, أبتسم نيافته للموت وأحمر الموت خجلا من لقائه.

ولكن مسيرة العمالة مستمرة فالنفوس الهائمة في بحر الدماء والظلام تتشبث بخيوط العناكب لتخريب البلاد وسبي العباد وتحطيم مقومات الحياة الإنسانية وإثارة الرعب والبشاعة في عالم النقاء والصفاء, تترقب الفرص لتفتك بنخبة العراق من علماء وأكاديميين وصحفيين ورجال دين وأطباء وضباط وأناس أبرياء لا حول لهم ولا قوة وتحولهم إلى أشلاء تتناثر في فضاءات الفوضى الخلاقة التي روج الاحتلال لها. وتتوقف قافلة الشهداء على مسار الزمن الصعب لتقدم باقة ورد وبسمة عذبة لشهيدها الجديد قبل أن تحتضنه بدفء وتسبح في فضائها السماوي الرحب لتتابع مسيرها إلى جنات الخلد.

انه القس الشهيد عادل يوسف من فرسان الكنيسة السريانية الأرثوذكسية الذي طالته أيادي براثن الإرهاب الدموية دون وازع أو ضمير.

حادثة مؤلمة سحبت ورائها ظلال من الحزن على جميع العراقيين, ونفضت غبار الزمن الغادر عن جفوننا المتعبة لتوضح لنا الرؤية في هذا الدرب الرادح بإيقاعات صاخبة وسريعة حيث يقحم الباطل بالحق والحابل بالنابل لتضيع علينا كل الخيوط. وفي الوقت الذي يضرب فيه الإرهاب على أجراس ناقوس من القش, يقرع ناقوس الحق والحقيقة بيد الكاردينال عمانوئيل الثالث ديلي فبدلا من أن ينعي شهيد العراق والكنسية الأرثوذوكسية بهذا الحادث الجلل, يقدم العزاء لكل العراقيين بكل أطيافهم وأديانهم ومذاهبهم وقومياتهم مستذكرا إن الشهيد ابن العراق كل العراق قبل أن يكون ابن الكنيسة, انه ابن العراق من شماله إلى جنوبه ومن شرقه إلى غربه, ويرفع الكاردينال يديه السمحة إلى الله مبتهلا بأن يحل الأمن في العراق, ويتجاوز الجروح العميقة معلنا أن الكنسية تتسامح مع الناس الذين ارتكبوا هذه الجرائم!

لله درك وعاش فوك! هل بعد كلامك هذا ودعوتك هذه كلام؟ لقد أفحمتنا بكنوز الكلم فسكنت قلوبنا وخشعت أقلامنا عاجزة عن الوصف! يا للعجب هل يمكن أن تتجاوز الرحمة كل هذه الذنوب؟ هل يسامح القتيل القاتل؟ أية تربة مقدسة نشأت فيها وأي ينبوع مقدس روى ظمأك وأي ثمرة طيبة جدت بها؟

سيدي الكاردينال! أن أرواح الشهداء هي البوتقة التي ستتفاعل فيها الإرادات الحرة تفاعلا كيماويا وتولد عنصر جديدا من الطاقة نستمد منه القدرة على العطاء والفداء لتحقيق النصر المبين والمستقبل الخلاق.

أن أرواح الشهيدين القس عادل يوسف والمطران يوحنا فرج عبو وبقية الشهداء هي المشاعل التي سيحملها أبناء العراق الغيارى للخروج من النفق المظلم, هذه الأرواح الخيرة هي الانعكاس الشمسي الرائع الذي يعانق الغروب وينبض بالحب والافتنان وتتجسد في بريقه إشراقة العواطف الإنسانية وصفاء المثل العليا.

سيدي الكاردينال إننا على معرفة بأن الشهداء أحياءا عند ربهم يرزقون, إنهم كالكواكب السيارة والكواكب لا تموت ولا يخفت بريقها اللامع.. طوبي لهم الجنة في حياة الآخرة.. وطوبى لهم الخلود في الحياة الدنيا.

 

Alialkash2005@hotmail.com

 

حول طباعة المقال

 

شبكة المنصور

                                          الاربعاء  /  03  ربيع الثاني 1429 هـ   ***   الموافق  09 / نيســـــــان / 2008 م