تمرد قلمي عن الكتابة منذ أن زفت
وسائل الإعلام نبأ وفاة المناضل
الكبير جورج حبش فجال بخيالي
مقولة جميلة " نكسوا الإعلام ، لم
يتبق إلا الأقزام" .
ذهب المناضل الكبير جورج حبش
والساحة الفلسطينية تعيش أخطر
مراحلها وأحداثها ، والقضية
الفلسطينية تعيش غموض لم تشهده
خلال مراحلها السابقة مثل هذه
الضبابية ، والغموض الذي يكتنف
حاضرها ومستقبلها ، سواء من
الأطراف المحلية الوطنية المتمثلة
بالرئاسة في رام الله ، والحكومة
في غزة أو من الأحزاب الفلسطينية
التي تقف موقف المتفرج ، وكأن حال
لسانها يقول " مولد وصاحبه غايب"
وكذلك الأطراف العربية والقوي
الدولية .
فالجميع ينتظر ويتروي وأصبح
يتعامل بسياسة كاتم الصوت ،
والترقب حتى لا يقع في المحظور
والمغالطات السياسية حسب الفهم
المرسوم في مخيلتهم وتوقعاتهم
السياسية ، و حسب الأجواء التي
نعيش فيها والملبدة بغيوم الضباب
.
فالمتأمل لواقع الحال منذ عام
ونصف وربما أكثر يلمس حالة
الضبابية التي تعيشها القضية
الفلسطينية ، ولخبطة الأوراق
بعضها ببعض ، حيث لم يعد أحداً
قادر على القراءة أو التنبؤ بما
تحمله الأيام القادمة ، أو
المستقبل الفلسطيني السياسي على
المدى المنظور .
فإن كان مؤتمر أنابوليس لم يحمل
في أوراقه الخريفية شيئا وحملتها
رياح الخريف وألقت بها بعيداً ،
وأنتهي بحفلة خطابية كعشرات
الحفلات والمهرجانات التي سبقته ،
فإن التطورات الأخيرة والتي تمثلت
بفتح الجدار الحدودي مع مصر قد
زاد من هاجس الخوف مما هو آت
وقادم ، هذا الهاجس ليس نتاج غزو
أهل غزة لمصر وكسرهم الحصار
الاقتصادي والذي يعتبر مشروعا
لشعب يموت جوعا وحصارا ، وإنما
جملة التصريحات السياسية التي
ترافقت مع هذا الحدث سواء المحلية
أو الخارجية والتي أعلن الجانب
الإسرائيلي علي الفور إخلاء
مسئوليتهم الكاملة عن غزة وعلى
مصر تحمل مسئولياتها ، وهذا يعني
نفض إسرائيل يدها من مسئوليتها عن
المذبحة التي ترتكبها بحق شعب
بأكمله في غزة نتاج سياسة الحصار
الهمجي التي تتبعها إسرائيل منذ
زمن بعيد ، وكذلك تصريحات الساسة
المصريين بضرورة إعادة النظر في
النظام الحدودي مع غزة دون توضيح
كيف إعادة النظر في هذا النظام ،
وهل يقصد إعادة النظر في اتفاقيات
كامب ديفيد ؟ أم إعادة النظر
بالتوافق بين الجانب الفلسطيني –
المصري ؟
وتصريحات إسرائيل بضرورة إعادة
صياغة اتفاقيات كامب ديفيد مع
الجانب المصري ، إلي العراك
السياسي بين حماس والرئاسة في
مفاوضات إدارة المعابر وفتحها ،
ورفض حماس لهذه الاتفاقيات التي
تعيد فتح المعابر ، إلي التصريح
الأخير للسيد محمود الزهار
القيادي بحركة حماس بمطالبته
بوحدة اقتصادية مع مصر ، وبرأي أن
هذا التصريح الأخير هو الأخطر من
جملة التصريحات السابقة وهو الأحق
بالتوقف عنده طويلا ، كونه يحمل
في طياته ملامح جديدة .
عند الحديث عن الثوابت الوطنية
فالحديث يدور عن جملة الثوابت
التي لا يمكن تجزئتها أو تفصيلها
كقطع كلا علي حده . فالتجزئة
والتفصيل هما اللذان أوصلانا لما
نحن فيه من حالة إذابة للقضية
الفلسطينية ، والثوابت الوطنية
التي تستند إلي عدة مرتكزات
ومبادئ لا يمكن التنازل عن أحداها
مقابل الأخرى ، فنحن نخوض معركة
سياسية ، اقتصادية ، اجتماعية
متكاملة متوحدة تستند إلي أرض
محتلة ، وشعب مشتت ، وكرامة
مهدورة ، واقتصاد ينهب ، وحياة
اجتماعية ممزقة بين الحدود والدول
، لا زالت خيمة اللجوء عنوان لها
ولهذا الشعب الذي يقاتل ويناضل من
أجل : الدولة المستقلة وعاصمتها
القدس ، وحق العودة ، وتقرير
المصير .
كما أن الحصار الاقتصادي المفروض
على غزة هو ذو أهداف سياسية وليس
لغايات ومرامي اقتصادية بحته ،
والدليل خطاب السيد رئيس الوزراء
إسماعيل هنية عندما ردد بأننا
سنأكل زيت وزعتر ولن نخضع ، وهو
تأكيد بأن الحصار سياسي ولأغراض
سياسية . وأن القضية قضية سياسية
والحرب حرب سياسية تستعمل بها كل
الوسائل الأخرى ، وعليه فعند
الحديث عن الجانب الاقتصادي علينا
أن نتحدث عن الجوانب الأخرى
المكملة للجانب الاقتصادي ، وهل
انفصالنا الاقتصادي هو الحل؟
إن كان الجانب الاقتصادي سيحل جزء
بسيط من المشكلة المعقدة ، فماذا
سنفعل بجملة الجوانب الأخرى .؟ أم
أن الفصل الاقتصادي هو الخطوة
الأولي في مشروع سياسي متكامل
يبدأ من الأمعاء ويمر بالشرايين
وينتهي بالدماغ ، وحينها نقول علي
فلسطين السلام .
إن كان أوسلو قد جزأ القضية
الوطنية وحولها لقضية حكم ذاتي
مهين ، فإن ما يطرح حاليا من حلول
جزئية تأتي في مصاف التجزئة
والإذابة للقضية عامة ، فالاقتصاد
والجوع والعطش عاشة شعب فلسطين
لأجل وطن حر وحقوق مشروعه ،
عنوانها تضحيات من أجل تحرير
الأرض والإنسان ، وإقامة فلسطين
الدولة وعاصمتها القدس ، وعودة
اللاجئين ، وتقرير المصير ، وما
دون ذلك فإنه يأتي من باب البحث
عن الذات ، والمصالح الحزبية التي
أصبحت كأولوية على المصالح
الوطنية .
وعليه على شعبنا وقاه الحية الحذر
ثم الحذر مما يدور حاليا ، فإن
فلسطين أصبحت مضغة في أفواه
الساسة يتقاذفونها كيفما أتجه
مؤشر البوصلة المصلحيه والذاتية .
فالمؤامرة تلي بظلالها علينا ،
وبدأت بنسج خيوطها الحريرية
الجذابة المغلفة بالاقتصاد
والحصار ..الخ وتريد أن تحرف مؤشر
نضالنا لاتجاه الحصار والاقتصاد
الذي أصبح عنوان معركتنا متجاهلا
العنوان الرئيس فلسطين ووحدة
شعبها وأرضها .
فنحن نخوض نضالنا لأهداف متكاملة
لا تخضع للتجزئة ، ومن هنا فكل
المشاريع والخطوات الاندماجية
سواء الاقتصادية منها أو أي جانب
دون الأخر فإنها مرفوضة مهما كانت
الغاية والمبررات ، وإن ارتضينا
بالوحدة الاقتصادية سنرضخ للوحدة
السياسية ومن ثم الاندماج كليا ،
ونتحول لمحافظة تابعة لمصر ،
والضفة لمحافظة تابعة للأردن ،
وكفي الله المؤمنين شر القتال .
" قد يستمر نضالنا مائة عام وأكثر
فمن تعب عليه التنحي جانباً" هل
لي أن أتذكر هذا المناضل الوطني
التاريخي جورج حبش الذي قبض على
فلسطين حتى لفظ أنفاسه الأخيرة
متحدياً ، ثائراً ، لم تنال منه
الرياح والعواصف والمؤامرات ، عاش
جبلاً تتكسر عليه المؤامرات ومات
جبلا شامخا لا زال يتحدي .. ولا
يسعني أقول سوي " نكسوا الأعلام ،
لم يتبقٍ إلا الأقزام"
.
|