بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

 

نسأل أبو كلل : أليس من الحماقة ما قتل ؟

 

 

 

 

شبكة المنصور

ضحى عبد الرحمن /  كاتبة عراقية

 

بحق يعتبر محافظ النجف أسعد أبو كلل من ابرز الوجوه السياسية خلال الأيام العشرة الأخيرة فقد كان نجما لامعا وشهابا ثاقبا في تصريحاته الصاروخية التي تذكرنا بصاروخ شهاب الإيراني الذي كشف عنه مؤخراً بمديات تتجاوز القارات, أبو كلل بلا تعب أو كلل فاجأ الركب الثقافي الذي أنضم إليه مؤخرا الشهيد شهاب التميمي نقيب الصحفيين العراقيين برصاصة غدر استهدفت فكره الوطني قبل أن تستهدف جسمه الضعيف وهو في عمر ناهز السبعين عاما, نفض أبو كلل عنه غبار الماضي المثخن بالمخازي والعلل ليقدم مكرمته السخية لشهداء السلطة الرابعة الذين تجاوز عددهم (270) صحفيا منذ الغزو الأمريكي للعراق وهو عدد لم تبلغه أية دولة في العالم بما فيها تلك التي شاركت في الحربين الكونيتين, ولم تتمكن قواتنا جميعا بما فيها الجيش والشرطة والحرس الوطني وأمن الداخلية ومغاويرها والبيشمركة ولا بقية الصنوف البرية والبحرية والجوية من القبض على واحد فقط واحد من أولئك المجرمين الذي كبدوا الصحافة هذه الخسارة الجسيمة, ويبدو إن هناك أبالسة لا مرئيين يقتلون ويختفون بخفة الراقصات دون أن ترصدهم العيون الساهرة أو الأقمار التجسسية, رغم إن الأخبار تشير أن هذه الأبالسة تخرج ليلا فقط لكن أبالسة الصحافة تقتل في وضوح النهار وهذه ميزة خارقة, وكالمعتاد ستشكل اللجنة التحقيقية المرقمة(271) وهي بعدد الصحفيين المغدورين وفي النهاية تسجل الجريمة ضد شبح هلامي اختفى في قمقمه, ويرصف ملف الشهيد التميمي إلى جانب (270) ملف سابق من زملائه ليتراكم الغبار عليها بعد أن انهال وتراكم التراب على المغدورين في قبورهم.

في وسط هذه الجعجعة والفوضى خرج علينا أبو كلل ناشطا على عجل, مترجلا بلا وجل, يذكرنا بخرج سلفه الشاعر(حيص بيص) عندما سمع خارج بيته صراخاً وعويلا فخرج متفحصا الخبر فسأل بعضهم :- ما لي أرى الناس في حيص وبيص؟ فنابزه الآخرون وسموه حيص بيص الذي أمسى أسم الشهرة, رجع حيص بيص إلى بيته ولكن أسمه الحقيقي لم يرجع له حتى بعد أن واروه التراب. ترجل فارسنا أبو كلل بنفس الهمة والعزيمة متسائلا: مالي أرى الصحفيين في حيص وبيص؟ فحدثه جهينة بالخبر اليقين, مضيفا بأن المالكي أمر بدفن التميمي في محافظة النجف! ولا نعرف أن كانت هناك أوامر رئاسية لاحقة حول دفن الصحفيين؟ وهل هذه المكرمة تخص الصحفيين جميعا أم اقتصرت على التميمي فقط؟

مهما يكن فقد عز على أبو كلل أن لا يكمل مكرمة المالكي بمكرمة لا تقل عنها أهمية, فأماط لثامه قائلا" أنا ابن كلل وطلاع الثنايا متى نزعت العمامة وأجزلت العطايا عرفتموني" وأوعز إلى خادمه بقراءة مرسوم المحافظ, وكانت الإكرامية المزلزلة إنشاء مقبرة للصحفيين العراقيين في وادي السلام في النجف! كانت عطيته هذه تشبه عطية المراصد الجوية وهي تزف للمشاهدين قدوم إعصار تسانومي المدمر.

من المعروف إن الإنسان إذا أراد أن يعبر الشارع فأنه ينظر تارة إلى اليمين ثم اليسار من ثم اليمين وبعدها يعبر, وحتى هذا الاحتراس أحيانا لا ينفع في ظل قدوم سائق مسرع أو متهور, ويبدو أن أبو كلل لم يكلف نفسه حتى النظر إلى اليمين أو اليسار وعبر هكذا فكان المطب القاسي, ولا اعرف ماذا دار في خلده قبل أن يزل لسانه بخبر مكرمته, هل هي بشارة منه إلى الصحفيين بأنكم لا تخشون بأن لا تدفنوا وتبقون فوق سطح الأرض وليس في باطنها؟ أو أنها نذير شؤم لبقية الصحفيين ليعرفوا حقيقة المصير الذي يتربص بهم؟ أو هي اعتراف بعجز الحكومة بأن تحمي الأحياء من الصحفيين فعكفت على جزاء الأموات؟ أو ربما هي محاولة إضافية من أبو كلل لنشر ثقافة الموت وما أكثرها في عراقنا؟

كان رجال السلطة الرابعة في صدمة وهم يتلقون هذه المكرمة العجيبة من المحافظ فقد توقع البعض منهم بأنه سيقوم بتوزيع أراضي سكنية على الأحياء المتبقين من الصحفيين وكذلك عوائل شهداء الصحافة أو تبني حملة لدعم الصحفيين والضغط باتجاه توفير الحماية لهم أو مطالبة الحكومة بأن تتخذ خطوات جادة لتأمين حمايتهم كما أشار إلى ذلك نائب رئيس الجمهورية طارق الهاشمي. أو توزيع منح وهبات نظرا لمخاطر مهنتهم والثمن الفادح الذي دفعوه من دمائهم الغالية

لقد جاءت الإكرامية بمواصفات بعيدة عن مفهوم الكرامة فهي محملة ببذور الموت والكراهية بين طياتها لتكشف أمام الرأي العام الأساليب المتهرئة التي يفكر بها المسئولون العراقيون وضحالة رؤياهم إزاء مأساة شعبهم وبلادة تفكيرهم وضيق أفقهم ؟ فمن المعلوم إن التكريم يليق بالأحياء أولا فالأحياء أبدى من الأموات ونقصد بهم من إخواننا من الصحفيين والصحفيات الأحياء أطال الله أعمارهم وأعمارهن وكذلك الأحياء من أبناء الشهداء, كما أن الإكرامية لا بد أن تتناسب مع طبيعة عملهم وتضحياتهم الجسيمة وتليق بمكانتهم وما قدموه لوطنهم الحبيب.

المكرمة ليست سخرية وحتى ولو كانت سخرية فأنها لا تليق بالأموات فالموت له طقوسه المقدسة المستوحاة من تعاليم السماء والعادات والتقاليد المعروفة للجميع, وان كانت زلة لسان فمثل هذه الزلات تستوجب الاعتذار وتصحيحها, وليس السكوت عنها أو عدم تبريرها لأن السكوت من بعض معانيه الرضا, وهنا سيكون العذر أقبح من الذنب.

لنتصور هناك مجموعة من المفارقات التي يمكن أن تحدث من منظور " شر البلية ما يضحك" بأن يطمئن الإرهابيون وفرق الموت الصحفي قبل قتله بأن أبو كلل تكفل مصاريف دفنهم وان أهاليهم سوف لا يتحملون جشم هذه التكاليف؟ أو أن صحفيه متزوجة من صحفي تسأل أبو كلل فيما إذا كان الاثنان يستحقان مكانا في نفس المقبرة؟ وهل يمكن أن تدفن بالقرب من زوجها إذا استشهدت لا سامح الله؟ وكيف سيكون موقف الصحفي إذا أراد أن يدفن في مكان آخر غير مقبرة السلام هل يتحمل أبو كلل التكاليف أم انه سيحول المعاملة إلى محافظ بغداد؟ أو يدفع مبلغ معين كبدل للأرض المخصصة في النجف؟ وما هي إجراءات تسلم هذه المنحة واسم من ستسجل الأرض وفيما إذا كان هناك أكثر من وريث وهل يتطلب الأمر قسام شرعي؟ وما هي مساحة الأرض المخصصة لشهداء الصحافة؟ هل المكرمة ستقتصر على الأرض أم كذلك على أجور الدفن والنقل والقراءة على أرواح الشهداء غيرها من التكاليف؟

حري بأن يفتتح السيد المحافظ مقبرته الجديدة بحفل مبارك وسط عدد غفير من الجماهير ابتهاجا بهذه المناسبة العظيمة, وأن يوجه دعوة للصحفيين موزعا عليهم سندات ملكية المقبرة! ولا بأس من وضع لافتة في باب المقبرة يكتب فيها شعار المرحلة التأريخية التي يعيشها المواطنون العراقيون ومنهم الصحفيون وكفاءات البلد وعلمائه " كل من سار على درب الصحافة وصل, وأهلا بموتاهم في مقبرة أبو كلل.

ربما سيتكفل مجلس النواب بعد خروجه من سباته بمناقشة هذا الموضوع باستفاضة لوضع النقاط على الحروف, وتشريع قانون بذلك؟ وربما سيطالب النواب رئيس مجلسهم المشهداني بمقبرة مماثلة تلفهم وتكرفهم وتسمى مقبرة المشهداني وتعمم التجربة بعد نجاحها على باقي الوزارات والمؤسسات العراقية وتشع مثل ديمقراطيتنا على دول الجوار! لكن تبقى براءة الاختراع حصرا بأسم أبو كلل.

كنا قد نغفر لأبي كلل بلا تعب أو كلل وبلا ضجر أو ملل لو أنه أكرمنا فقط بسكوته, فالسكوت في مثل هذه المواقف أفضل مكرمة!ولكنه أبى إلا أن يفصح عن حقيقته أمام الملأ!

وفي الوقت الذي ما تزال الفضيحة تدوي في الشارع العراقي يفاجأ أبو كلل الجميع بتصريح مفخخ آخر لا يقل دويا عن سابقه وهو يدخل في إطار الموت وملابساته, كأنه أنهى توا جولة له في الجحيم ليحدثنا عنها, فقد ذكر بأن إعدام سلطان هاشم سيسجل انجازا شخصيا للمالكي بعد إعدام صدام حسين! وهذه فاجعة وفجيعة فلأول مرة في التأريخ يحدثنا بعض العقلاء بأن القتل والإعدام يعتبر من الانجازات وليست انجازات عامة فحسب بل إنجازات شخصية؟ ولن نشهد لدولة ما في العالم أو نظام يعتبر القتل إنجازا؟

الدول تتفاخر بأنها وقعت على اتفاقية إلغاء حكم الإعدام معتبرة ذلك إنجازا تأريخا في مسيرتها السياسية, وتودع توقيعها لدى الأمم المتحدة وهيئاتها الرئيسية, أما أن يحدث العكس ويعتبر الإعدام انجازا في ظل ديمقراطية معوقة فهذا ما يصعب تفسيره.

من المتعارف عليه أن الانجازات التي يتباهى بها الحكام هي بتوفيرهم الحياة الكريمة لشعوبهم ويعبدون لهم طريق النهضة والتقدم ويجعلوهم يقطفون ثمار الرفاهية والسعادة, وليس الموت والخراب والفقر والمرض.

كانت محاولة خافتة من أبو كلل لأن يلقي الضوء على نفسه بعد أن وجهت إليه الكثير من الاتهامات حول طبيعة ولائه وطريقة إدارته للمحافظة وتفشي الفساد المالي والإداري وانتشار المخدرات والدعارة وسكوته عن المعلبات والادويه الفاسدة التي يصدرها لنا إخواننا في الإسلام من دول الجوار. ولكن باعتباره لاعبا حدثا لا يجيد فن المناورة على الملعب السياسي لذا كان في وضع تسلل واضح, فأفسد اللعبة وخيب الآمال وجنى سخط الجماهير وغضب الصحفيين, وأعتقد أن من حق نقيب الصحفيين الجديد أن يرد الاعتبار لنقابته وشهداء الصحافة بأن يخصص من تبرعات الصحفيين مقبرة للسيد المحافظ ومجلس المحافظة في وسط بغداد, وسأتشرف بأن أكون من أول المتبرعات كي اثبت مواطنتي الحقيقية كما أثبتها أبو كلل وبالطريقة التي يفهمها.

 

 

 

 

شبكة المنصور

                                            الثلاثاء /  04  ربيع الاول 1429 هـ   ***   الموافق  11 / أذار / 2008 م