بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

 

 

الحلقة المركزية الجديدة للمقاومة
نظرة الى ما بعد وفاة حركة التحرر الوطني العربية

 

 

 شبكة المنصور

 عوني القلمجي علي الصراف

 

العزاء الوحيد الذي تلقاه جورج حبش الأمين العام السابق للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين قبل وفاته بأيام هو ان غزة انتفضت مجددا؛ حطمت أسوار العبودية وخرجت حافية للناس لتعبر الحدود الى حريتها.

كانت تلك لحظة مناسبة لـ"حكيم الثورة" كي يموت. شيء من نوستالجيا "الثورة" كان ضروريا لأنفاسه الأخيرة، لكي يودع عالما عربيا لم يعد فيه من تلك "الثورة" الشيء الكثير. وهو عالم لم يعد من الممكن "تحكميه" (أو تطبيبه) بالوسائل نفسها التي إنطلقت منها حركة المقاومة الفلسطينية بوصفها رأس الحربة لحركة التحرر الوطني العربية.

اليوم لا تفعل هذه الحركة شيئا سوى أنها تقدم التنازل تلو الآخر. وذلك حتى شارفت على الإفلاس التام. وهي تبدو كحال ذلك التاجر الذي احترق دكانه، فلما سُئل عما إذا كان قد خسر كثيرا؟ قال، "مش كتير. كنت عامل تنزيلات".

وفي الواقع، فان حركة المقاومة الفلسطينية لم تخسر الكثير. لأنها كانت قد عملت من "التنزيلات" ما يكفي لكي يجعل بقاءها من عدمه شيئا واحدا.

قبل وفاة حبش، كانت حركة المقاومة الفلسطينية قد توفيت. المقاومة بمعناها السياسي والثقافي والعسكري كانت قد أخلت مكانها لمشروع تقديم "التنزيلات" منذ ان أصبحت نظرية "الدولتين" (التي قُدمت في أواسط السبعينات) بديلا لنظرية "تحرير فلسطين من النهر الى البحر". في تلك اللحظة سقطت البندقية وسقطت المقاومة. وما كان على الإسرائيليين سوى ان يتشددوا ويرابطوا في مواقعهم وينتظروا، ليروا منحنى الإنهيار والتداعي ينزل شيئا فشيئا، من أسفل الى أسفل (فمن الدولة على كامل التراب الفلسطيني، الى دولة على أي جزء يتحرر، الى دولة في الضفة والقطاع، الى خارطة الطريق، ثم الى دولة السيطرة على معبر رفح. كل ذلك، وطريق "التنزيلات" ما يزال مفتوحا، ولا يبدو له آخر).

وبطبيعة الحال، فقد كان ضروريا، ان تفقد "المقاومة" معاقلها التي لم يعد لها أي لزوم عمليا. فجاء غزو عام 1978 لجنوب لبنان، قبل ان يلحقه غزو عام 1982 ليضع نهاية ميدانية لفكرة "المقاومة" التي كان الفلسطينيون أنفسهم وضعوا نهاية لها قبل هذين الغزوين بسنوات.

هذه التجربة يحاول ان يكررها اليوم بعض المحسوبين على المقاومة العراقية. فهم يقبلون بمبدأ التفاوض مع الغزاة وعملائهم، من دون أن يسمعوا حكمة التاريخ التي تقول لهم "كان غيرك أشطر".

وكان من الطبيعي لمقاومة قررت ان تفاوض على سلاحها، أن تجد نفسها مجبرة على نزعه. فذهبت حركة "التحرر الوطني الفلسطينية" برمتها الى تونس ليس منزوعة السلاح فحسب، ولكن منزوعة الإرادة على المقاومة أيضا.

وكلما زادت الإغتيالات والتصفيات الإسرائيلية للقادة الفلسطينيين، كلما كان منحنى التنزيلات يتسارع أكثر!

في بيئة كهذه، ما كانت إسرائيل لتحتاج شيئا أكثر مما قاله رئيس وزرائها إسحق شامير لدى بدء مفاوضات مدريد عام 1991 وهو ان إسرائيل ستظل تجرجر المفاوضات لعشرة أعوام قبل التوصل الى حل.
يومها صرخ الكثيرون. ويومها لم يسمع أحد. ولكن ها أن 17 سنة تمضي من دون التوصل الى "حل". كانت "عبقرية" المنحنى النازل هي التي تدفع الفلسطينيين الى قبول التنازل تلو الآخر. وكانت عبقرية الإنتظار والمرابطة هي التي تدفع الإسرائيليين الى تحويل "الثورة" الفلسطينية الى دكان يخسر تجارته ويتفسخ من داخله كلما بحث عن المزيد من "الحلول الوسط". ومن "حل وسط" الى آخر، صار الفلسطينيون يتنازلون عن أرض كلما تنازلوا عن أرض غيرها حتى انتهوا الى شريط على البحر وشريط على النهر، لا قيمة لهما لا على البحر ولا على النهر. ولكن الأرض لم تكن سوى معنى. وقد ضاع من هذا المعنى معظمه، لأن مبدأ التحرير نفسه تحول شريط على كتف شرطي.

اليوم انتهت "البندقية" الفلسطينية الى سلاح تقدمه إسرائيل لفصائل "منظمة التحرير" لكي تنحر به بقاياها، ولكي تذبح به شعبها نفسه، ولكي تنتحر به أيضا، كمشروع وكمفهوم وكمعنى.

"اصبح عندي الآن بندقية.. الى فلسطين خذوني معكم، الى ربى حزينة كوجه المجدلية". كانت تلك هي بندقية المقاومة التي تغنّى بها نزار قباني. وهذه ليست البندقية التي ترفعها اليوم "منظمة الشرطة لعدم تحرير فلسطين" (م.ت.ف سابقا).


× × ×


وفاة "منظمة التحرير الفلسطينية" كحركة تحرر وطني كانت قد سبقتها وفاة كل حركة التحرر الوطني العربية.

ونحن هنا لا نفعل سوى أن نضع آخر الأختام على شهادة الوفاة التي لم تُقدم رسميا بعد الى المتضررين والورثة.

كانت حركة التحرر الوطني العربية تضم من الأحزاب والمؤسسات الوطنية ما لا يمكن عدّه في هذه الشهادة. فمن الحركة الشعبية واليسارية في المغرب الى جبهة التحرير الوطني الجزائرية الى حركة القوميين العرب الى الحركة الناصرية الى كل الإشتراكيين والشيوعيين العرب، وبينهم كل همروجة الأحزاب "اليسارية" في مصر، فقد كان هناك مشروع للتحرر، يسند القضية الفلسطينية، ويسند قضيته الوطنية بالسعي للتحرر من ربقة الإستعمار والهيمنة الإمبريالية؛ مشروع يحاول ان يبني دولة الإستقلال ويؤسس لبرنامج تنموي يُخرج مجتمعاتنا العربية من دائرة الفقر والجهل والمرض.

وبرغم إننا انتهينا، من هذا المشروع، الى نتائج كارثية على كل مستوى وصعيد، والى تخلف يبدو أكثر استعصاءً وتعقيداً من التخلف الذي سبقه، فليس من الإنصاف القول ان تلك الحركة فشلت في كل شيء. تأميم الثروات الوطنية والقضاء على الإقطاع وبدء مسيرة تحرير ومساواة المرأة والتعليم المجاني والديمقراطية الشعبية... كانت من جملة "المنجزات" التي رسمت معالم مشروع التحرر وحددت مفاهيمه. وتحديد المعالم هذا لم يكن سيئا أبدا. وهو ما يزال ينطوي على قيمة حيوية لأي مشروع جديد للتحرر الوطني.

الإنقلاب، الذي إنقلبته حركة التحرر العربية على نفسها، بدأ عندما تحولت "السلطة الوطنية" الى مؤسسة فساد (سياسي أحيانا، وجهوي أحيانا، وفئوي احيانا)، ومن ثم الى دكتاتوريات تحاول أن تفرض على الجميع مفاهيمها وسياساتها وخياراتها (انما لتحمي فسادها نفسه). والإيديولوجيات التي كانت بمثابة منظار لتحديد مسار الرؤية تحولت الى عمى مطلق قبل ان تُصبح سجنا يجيز تجريم كل الوطنيين الآخرين وإبعادهم. ومن دون أن يعني الأمر ان المعارضين الوطنيين للدكتاتوريات العربية كانوا أشرف من دكتاتورياتهم (ففي الكثير من الأحيان كانوا، بالأحرى، أسوأ) إلا ان المشروع التحرري نفسه كان هو الذي ضاع في معمعة الصراعات على سلطة الإحتكار السياسي والهيمنة الإيديولوجية والفساد.

ضاع المشروع بمحدداته ومفاهيمه، حتى لم يبق منه شيءٌ سوى شريط على كتف أمناء عامين وزعماء أحزاب وقادة سياسيين صاروا بمجملهم بمثابة شرطة. بعضهم في السلطة، وبعضهم في المعارضة، إلا أنهم جميعا.. شرطة، يقمعون التجديد، ويمنعون التفكير، ويُحرّمون الخروج على النص.

لم يكن ذهاب الرئيس المصري محمد أنور السادات الى إسرائيل، وتوقيعه معاهدة كامب ديفيد، إلا خاتمة طبيعية لذلك الإنحدار الذي بدأته "السلطة الوطنية" (او سلطة دولة الإستقلال) عن المشروع التحرري. وفي الكنيست الإسرائيلي كتب السادات السطر الأول في شهادة وفاة حركة التحرر الوطني العربية. ومن يومها لم تقم لها قائمة، لا في الفكر ولا في الممارسة ولا حتى في الحضور السياسي، دع عنك التورط بأي مقاومة. وكان من الطبيعي لحركة المقاومة الفلسطينية، (التي تداعت جنباتها التحررية العربية الواحدة تلو الأخرى بتحولها الى دكتاتوريات فساد وقهر) ان تنزع سلاحها وتنتهي لتبحث عن "كامب ديفيدها" الخاص.

صحيح ان حركة الإعتراض ضد كامب ديفيد شملت احزابا ومنظمات وأنظمة عربية كثيرة، وصحيح ان قمة عربية بكاملها (عقدت في بغداد عام 1979) لتندد بما سيطلق عليه "خروج مصر من حركة التحرر الوطني العربية"، إلا أن ذلك لم يكن إلا "قفزة" القط الذي سقط من السطح ميتا. ذلك ان حركة التحرر العربية نفسها كانت هي التي "خرجت" من مشروعها التحرري أولا، قبل ان يكتب السادات شهادة وفاتها.

في ذلك الوقت بالذات كان جورج حبش قد مات. كما مات ياسر عرفات ونايف حواتمة. كما مات جورج حاوي ومحسن ابراهيم وخالد محي الدين ورفعت السعيد وشهدي عطية وخالد بكداش وعلي يعطة واحمد بن بيلا وهواري بو مدين وجمال عبد الناصر (للمرة الثانية) وعبد الفاتح اسماعيل وحافظ الأسد.. وغيرهم الكثير ممن لا يزالون (على سبيل التسلية) على قيد الحياة حتى اليوم، يسخر بهم الدهر اكثر مما تسخر بهم الشيخوخة. ومنهم (إذا أخذنا بمقياس الحزب الشيوعي العراقي) مَنْ تحول الى عميل مباشر للولايات المتحدة، يمتطي دباباتها، ويستلهم مشاريعها، إنما... (وهذه ليست نكتة) من دون ان يتخلى عن منطلقاته الإيديولوجية التحررية!

"الإمبراطوريات تبدأ السقوط من أطرافها".

إذا كان هذا صحيحا، فمن الصحيح، إذن، ان سقوط حركة التحرر الوطني العربية، ومثلها "حركة عدم الانحياز"، كان هو الذي أعلن بداية سقوط الإتحاد السوفياتي، لا العكس. ومع ذلك، فان مراسيم الدفن الجماعية (للاتحاد السوفياتي و"المنظومة الإشتراكية" وحركة التحرر الوطني العالمية) التي بدا انها قد أعلنت رسميا عندما انهار جدار برلين، لم تنتظر الكثير من الوقت قبل ان تبلغ الكريملن... آخر قلعة كونية للمفهوم الآخر والخيار الآخر.

فماذا ترك الفراغ عندنا؟

لقد ترك دكتاتوريات (تحررية سابقا) و"مدن ملح" ينخرها الفساد ويعلو مفاهيمها وسياساتها العنف الداخلي والعفن؛ ترك أنظمة لم يعد لوجودها مقومٌ فكري وأيديولوجي جدير بالبقاء، وتعجز في الوقت نفسه عن تجديد عالم مفاهيمها وأفكارها وأدواتها؛ ترك أنظمة "قوية" على الداخل وضعيفة حيال الخارج؛ وترك أنظمة تخاف على نفسها الى حد الذعر، لترتكب من الانتهاكات وأعمال التعسف ما كانت ليست بحاجة إليه من قبل.

الأمم التي تعاني أزمات عميقة لا تني تبحث عن بدائل. إذا كانت الأزمات قائمة، فان قوى أخرى يجب ان تحل محل القوى الغابرة. هذه معادلة لا لبس فيها.

وبالنسبة لأزمة ساحقة كأزمة الصراع "العربي الإسرائيلي"، وكأزمة الفشل المروع في برامج ومشاريع التنمية، فقد كان لا بد لقوى تتبنى أفكارا ومنهجيات جديدة ان تطفو على السطح.

لا نعرف كيف لم يلاحظ أركان نخبة السلطة في مصر والجزائر والمغرب وفي فلسطين نفسها، ان صعود التيارات الإسلامية سيكون صعودا صاروخيا في بيئة الفراغ تلك. ولكن هذا ما حصل. ومن "الجبهة الإسلامية للإنقاذ" الى حركة "حماس"، فقد بدا ان التيار الأصولي هو آخر ما لدينا من "أفكار" و"خيارات" تحررية.

وقد كان يمكن لهذا التيار ان يكون بديلا حقا. إلا أنه بدلا من أن يكون مشروعا تحرريا فقد ظهر كمشروع ردة على كل مفاهيم التحرر.

لم يكن العنف الذي بدأته حركات هذا التيار هو المشكلة. وفي الواقع، فربما كان من الصحيح تماما ان تتم مواجهة فساد الدكتاتوريات وعفنها وإستبدادها بحركة تحرر مسلحة تواجه أجهزة الدكتاتورية، ولكن على أساس مشروع يمضي الى الأمام، لا الى الخلف؛ مشروع "تقدم" لا مشروع إرتكاس؛ مشروع يجرؤ على الذهاب الى المستقبل لا أن يهرب ليحتمي بالماضي؛ مشروع يستلهم الأفكار والدوافع التحررية التي بدأ بها رواد حركة التنوير والنهضة التي انطلقت من مصر منذ أوائل القرن الماضي، لا أن يشطبها ليعود بالتاريخ القهقرى.

والتاريخ لا يعود. انه يمضي قُدما فقط. فإما أن تواكبه، وإما أن تنقرض. وعلى حركة المقاومة أن تمضي معه، توظّفه لصالحها، تستفيد من ماضيه، لا أن تتحرك ضده.

العنف كمشروع للتحرر شيء، والعنف كرد فعل يائس على المأساة شيء آخر.

ولا حاجة لقول المزيد هنا.

فلأنها من دون مشروع تحرري يستقطب أفئدة وضمائر المجتمع، بكل أطرافه ومكوناته، ويأخذ في نظر الإعتبار تطلعات الحرية والعدالة والمساواة (وقد أصبحت شرطا لازما لكل تقدم وتنمية)، فقد إنقلب عنف تلك الحركات الإسلامية من بديل الى مأزق؛ من مخرج من الأزمة الى أزمة أخرى مضاعفة؛ وبالتالي.. من حل الى كارثة.

سوء الأقدار لم يتوقف عند هذا الحد.

فالأزمة التي بدت واضحة للكثير من المتشددين الإسلاميين في مصر دفعتهم الى... التخلي عن العنف بدلا من البحث عن مشروع تحرري حقيقي لهذا العنف. فخسرنا المشروع وخسرنا العنف معا.
هل يمكن لأمة ان تكون سيئة الحظ الى تلك الدرجة؟

نعم، يمكن. بل يمكن ان تكون أسوأ حظا من هذا أيضا. فبدلا من أن يذهب المشروع الجهادي للإسلام المتشدد الى ضرب مراكز قوة العدو (العسكرية والإستراتيجية والإقتصادية)، فقد إختار أن يضرب المدنيين.

وكائنة ما كانت المحاججة التي تبرر إستهداف المدنيين، فالحقيقة الماثلة للعيان هي ان هذا الإتجاه أسفر عن نتيجتين: الأولى، هي أن قتل المدنيين أضفى طابعا "اخلاقيا" (ولو مزيفا) على الحرب المضادة للإرهاب، وسمح للحكومات الإمبريالية باستقطاب تأييد شعبي كانت لا تستحقه، وكان من المفيد إضعافه. والثانية، هي انه لم يمس مقومات القوة الأساسية (الاقتصادية خاصة) للعدو، فتحولت هذه القوة الى ركيزة لإلحاق المزيد من الدمار بنا.

وعندما جاءت الولايات المتحدة لتحتل العراق، فوق أفغانستان، فقد تفتقت "عبقرية" الإرهاب عن بعض ميول ونزعات طائفية في بلد كان بأشد الحاجة الى ان يتبنى حيال الغزاة رؤية وطنية جامعة. واقتضى الأمر أربع سنوات من سوء التصرف قبل أن يتم تقديم النصح لبعض المجاهدين بتعديل الإتجاه، إنما بعد الكثير من الخسائر، وبعدما سبق السيف الكثير من العذل.

في فلسطين، ارتكبت حركة "حماس" الحماقة نفسها. فبدلا من ان توجه انتحارييها ليقاتلوا كرجال شجعان قوات العدو ويهاجموا معسكراته، ويخربوا اقتصاده، فقد فضلت الخيار الجبان: قتل شبان في مرقص او "مدنيين" في مقهى او مطعم. وهنا أيضا، فقد إقتضى الأمر عدة سنوات قبل ان تجرؤ تلك الحركة على التخلي عن تلك الحماقة لتهاجم موقعين عسكريين او ثلاثة (لا أكثر بالمناسبة).

وبدلا من أن تتبنى "حماس" مشروعا للمقاومة، فقد تحولت الى مشروع للسلطة، وظلت تتمسك بالكراسي حتى عندما بدا انها بأرجل مكسّرة. وانتهينا بلا مقاومة وبلا سلطة. لا قتلنا الناطور ولا ربحنا العنب.
وهكذا، فمثلما تحول العنف من مخرج الى مأزق، فقد تحول "البديل" التحرري الإسلامي من "حل" الى جزء من المشكلة.

× × ×

والأزمة ما تزال قائمة. بل أنها، باحتلال العراق وفلسطين، أصبحت أزمة مضاعفة. وما تزال تتطلب بديلا تحرريا.

البديل الإسلامي سقط بأخطائه وسوء مفاهيمه. ومن عجزه عن تقديم رؤية مستقبلية للتحرر، فقد عجز عن تقديم وسائل كفاحية جديرة بالإعتبار أيضا. وهو مارس العنف في الإتجاه الخطأ. وعندما برزت الحاجة الى إتجاه يُضفي على العنف طابعا تحرريا تقدميا، فانه تخلى عنه عندما كان يجب أن يتمسك به، وظل متمسكا بالإتجاه العائد الى الخلف!

ومثلما أعلنت اتفاقيات كامب ديفيد شهادة وفاة حركة التحرر الوطني العربية، فقد أعلنت حماقات "حماس" في فلسطين، واحباطات الاخوان المسلمين في مصر، ومذابح "الجبهة الإسلامية للإنقاذ" في الجزائر، عن فشل وإنهيار مشروع التشدد الإسلامي.

وليست هذه السطور سوى محاولة لكتابة شهادة الوفاة.

ولكن الأزمة ما تزال قائمة. وثمة حركة مقاومة باسلة تقاتل الغزاة، وثمة حشود جماهير تخرج حافية لتبحث عن حريتها. وثمة مئات الملايين ممن يتطلعون للتخلص من الطغاة الفاسدين الذين على رؤوسنا. وثمة جيل جديد من المناضلين ممن يفتدون حرية أوطانهم وشعوبهم بأعز ما ملكوا: أرواحهم نفسها. وثمة حاجة الى حركة تحرر وطني جديدة؛ حركة جهاد كفاحي صلب ورؤية مستقبلية ثاقبة في آن معا؛ حركة تجمع بين أقصى التطرف في الكفاح المسلح ضد العدو ومراكز قوته، وبين أقصى التمسك بالقيم والمعايير الأخلاقية والإنسانية للنضال الوطني.

حركة المقاومة العراقية تحتل اليوم مكانة المركز في المشروع التحرري العربي. وبرغم ان هذه الحركة ما تزال بحاجة الى ان تنضج فكريا لتقدم مشروعا تحرريا جامعا يستقطب الأفئدة والضمائر ويقوم على قيم الحرية والعدالة والمساواة؛ قيم دولة القانون وحرية ومساواة المرأة والحق في التعليم المجاني وتأميم الثروات الوطنية....، إلا أنها تقاتل الغزاة وعملاءهم كما لم تفعل أي مقاومة من قبل. ولئن كانت الظروف لم تتح لفصائل هذه المقاومة ان تنعم بالرفاهية الفكرية لتفاضل بين الرؤى والأفكار والخيارات، فان حركة تحرر وطني عربية جديدة يمكن ان تبدأ بوضع المقومات والأسس. ومن دعم المقاومة العراقية، بالعدة والعدد، يجب أن تبدأ. فهذه المقاومة هي "الحلقة المركزية" الجديدة والوحيدة لمشروع التحرر العربي ضد الإستعمار والهيمنة الإمبريالية والصهيونية.

وكل مناضل من مناضلي الحركة السابقة يجب أن يؤدي قسطه في استنهاض القوى والإمكانيات، بالأعمال لا بالأقوال، لدعم المقاومة الوطنية والإسلامية العراقية.

ما من مشروع للتحرر يمكنه ان ينهض، لا اليوم ولا في المستقبل، من دون ان نضمن الإنتصار لهذه المقاومة؛ لفصائلها التي ترفض ان تتزحلق على منحنى "التنزيلات" السياسية لتتحول الى شرطي يعمل لحساب الإحتلال وعملائه.

ولن تقوم لفكرة الحرية ولا لمشروع الإستقلال والسيادة الوطنية والتنمية أي قائمة ما لم نضمن الإنتصار لأولئك المجاهدين الأحرار الذين يفتدون حقنا بالحياة بأرواحهم.
من هنا نبدأ. وهذا هو أول الطريق الى المستقبل.

 

 

 

 

شبكة المنصور

السبت  / 24 محـــــرم 1429 هـ الموافق  02 / شبـــاط / 2008 م