بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

 

لعنة الكذب : الجلوس في حضن إبليس

لا سبيل الى الكذب الا بتنويم الضمير

 

 

شبكة المنصور

صلاح المختار

 

استلمت رسالة عبر الانترنيت ، من شخص لا اعرفه ، تروج لحديث نبوي يحلل الكذب في ثلاثة حالات!
ومن الواضح ان هذا الحديث غير صحيح ، وربما مدسوس لتشويه صورة النبي الكريم (ص) والاسلام ، لذلك بعثت برسالة جوابية ، لمن ارسله لي ، اقول له فيها ان هذا الحديث غير صحيح ويتناقض مع روح وجوهر الاسلام والاحاديث النبوية الاخرى ، واكدت له بان الكذب هو اب وام كل الكبائر ، لذلك فهو قرين ابليس ان لم يكن ابليس بذاته . والسؤال المهم هو التالي : لم يروج لمثل هذا الحديث ؟ من المؤكد ان هدف من نحت هذا الحديث ومن يقف خلف ترويجه هو طعن الاسلام وتشويه صورته ، باظهاره بمظهر المحلل لكل الموبقات والانحرافات ، مادام الكذب يشكل الآلية التي تنتج كل الشرور الاخرى في المجتمع الانساني ، بما في ذلك تبرير وتسويق الانحرافات الفردية وظلم انظمة القهر والاستغلال .

يجب ان نلاحظ بان شيطنة الاسلام ، بصفته روح العروبة ومصدر نقاوتها وتماسكها ، لا تقف عند حدود شتمه ومحاربته ، فذلك الشكل من الحرب مكشوف ومعروف ، بل هي تعتمد بالاساس والجوهر على التماهي مع الاسلام والتسلل الى داخله والعمل من هناك وباسمه لتخريبه . انها عملية ( حصان طروادة ) ، أي التسلل الى داخل الصفوف والتخريب من الداخل ، وليست عملية ( عاصفة الصحراء ) ، أي شن حرب مباشرة علينا بلا غطاء او تمويه . وبما ان حصان طروادة هو الاشد خطرا على صمود ومواصلة النضال فان العدو يلجأ في نهاية المطاف ، وعندما تفشل عاصفة الصحراء ، الى التسلل الى حصوننا لنسفها من الداخل بادواتنا وببعض رجالنا ومطارقنا وسيوفنا بالذات ! ان هذا الحديث المنسوب للنبي الكريم يقع في هذه الخانة ، ولذلك ينبغي تحليل آليات الكذب لتسليط الضوء على مخاطره .

أنت تكذب ، أذن أنت تجلس في حضن ابليس

ان الكذب هو ثمرة تغلب ( الأنا ) ، أي الانانية الحيوانية في الانسان ، على الضمير ، أي المراقب الاعظم لسلوك الانسان ، والرادع للانا حينما تريد تجاوز خط احمر موضوع لها من قبله ، لذلك وقبل ان يشرع الانسان في الكذب عليه ان يحيّد الضمير او يسقطه من حساباته وتلك عملية ليست سهلة في البداية ، خصوصا اذا كان الانسان قد نشأ في جو صحي وصحيح . ان مفهوم تحييد الضمير يشبه مفهوم فض البكارة في المجتمعات العربية والاسلامية ، من حيث الطبيعة ، فكلاهما صعب وعسير ولكن ما ان يتم ذلك حتى تنتهي البكارة الى الابد ، وينتهي الضمير بان يصبح ملوثا بدم الكذب وكل ما ينتج عنه من آثام . ان المراة التي فضت بكارتها بشكل غير مشروع وبارادتها لا تجد فيما بعد سببا يمنعها من القيام بما تريد بعد ان تجاوزت عقدة البكارة ، وكذلك اللص والقاتل حينما تصل جرائمهما الى حد عقوبة الاعدام لا يجدان سببا للتردد او الخوف من ارتكاب المزيد من الجرائم .

والكذب يشبه تماما تجاوز المراة عقبة البكارة او اللص عقبة الاعدام ، فما ان تنجح الانانية في التغلب على الضمير ، وتسكته او تحيده ، حتى تبدأ آليات الكذب بالتوالد على طريقة الارانب ، فلا حد سيوقف التوالد ولا قوة ستمنعه ، وستصبح كل كذبة ممهدا لاطلاق كذبة اخرى ، ومخدرا اضافيا للضمير الانساني . لقد سقط الرادع وأزيل المانع وعبدت الطرق لسير عربات الكذب بانسيابية تامة .

لنرى ما سيحدث وما سيظهر من آليات الكذب :

1 – من يكذب مرة سيكذب مرات ومرات ، الم تزل بكارة النفس التي كانت المانع الرئيس لممارسة بغاء الضمير ؟
2 – من يكذب امامك ملفقا الاتهام لغيرك ، سيكذب امام غيرك ملفقا تهما لك .
3 – من يكذب بطيبة ( كذبة بيضاء ) سيكذب بدافع خبيث لاحقا .
4 – من يكذب للتخلص من مأزق سيكذب للتخلص من حالات عادية .
5 – من يكذب يفترض ان من يلفق كذبة حوله يضمر له شرا ويريد الإساءة إليه ، فيبادر بالقيام بعملية استباقية ويلفق كذبة ضد ذلك الشخص ، مع انه غير واثق من نية الشر لدى الطرف الاخر ! وهكذا يتحول نمط التفكير الاستباقي الى آلية لديه يستخدمها كلما رأى شخصا لا يبتسم له باطلاق اكاذيب لا يحدها شيء !
6 – ان الكذاب يحقق بترويج الاكاذيب بعضا من اهدافه ، ولذلك تتعزز لديه نزعة تحييد الضمير ، ودفنه ان امكن ، ويتوسع نطاق أكاذيبه ومن تشمله تلك الاكاذيب ، ويصبح الجميع اهدافا مرشحة لهجمات اكاذيبه الاستباقية .
7 – من اخطر آليات الكذب الوقوع في مستنقع مرضي ، فحينما تتسارع الاكاذيب وتصبح قاعدة للسلوك تعبر عن حالة مرضية نفسية خطيرة اكثر مما تعبر عن سوء نية اجتماعية او سياسية . فالكذاب يجد في الكذب تنفيسا عن ضغوط داخلية تدمر استقراره النفسي ، لانه يضعه في جو بهيج من التلذذ بنجاحه في الطعن باشخاص غالبا ما يكونون ارقى منه ، او ان ( خصومه ) كبار الفكر والتكوين ولا يستطيع دحرهم ثقافيا او منطقيا او جسديا ، غير ان هذا التلذذ مؤقت تماما كتناول المخدر او الخمر ، الذي يمنح المريض شعورا بالراحة وتوقف الالم ، لكنه ما ان ينتهي حتى يعود الالم وربما اشد مما كان ، فيلجأ للمزيد من المخدرات والخمر لاسكات الالم !

في هذه الحالة يصبح الكذب الية مرضية مدمرة للشخص الكذاب ذاته ، تستهلك فكره وجسده بعد ان استهلكت ضميره قبل ذلك . وكما في حالة بعض الامراض العصابية فان المريض عاجز عن منع توتراته او كبحها ، فلا يجد متنفسا الا الصراخ العدواني ، خصوصا حينما يكون تحت تأثير مخدر ما او في حالة سكر شديد . ان الكذاب اذا لم يكن مدمنا على السكر سيصبح كذلك ، فهو المدخل الاسرع لتخيل النصر او لكبح الشعور بالعار حينما يباغته الضمير المنوّم بصرخة استنكار !

نسب الكذب

الكذب ، هذه اللعنة التي تحل ببعض البشر وتجعله قادرا على تبرير كل فعل مهما كان سيئا ، من اللصوصية الى الخيانة الوطنية العظمى ، له أب وأم ، أي نسب ومصدر ، نجد جذوره في حالة الانسان في مرحلة ما قبل الحيوانية ، لان الحيوان العادي الذي نراه اليوم لا يعرف الكذب ولا الانانية ، (هل سمعتم بقطة كذابة ؟ ) ، بل يحاول العيش بطرق عادية غالبا ، فالاسد والنمر مثلا لا يحاولان قتل الفرائس عندما يشبعان ، وهذا ما تعرفه الغزالة فتمر بهما دون خوف بعد ان يكونا قد شبعا ، اما مخلوق ما قبل الحيوانية ، فأنه يلتهم كل ما يصادفه لاجل التوسع والانتقال من حالة الخلية الواحدة او الخلايا البدائية الى حالة الحيوان ، ولذلك كان القانون البايولوجي الذي يحكمه هو الالتهام والتوسع الاناني الصرف على حساب الموجودات الاخرى .

في حالة الكذب نجد الانسان الكذاب يرتد الى مرحلة ماقبل الحيوانية ويصبح محض مخلوق بدائي جدا يعيش من خلال افتراس الغير دون وجود حدود لجوعه ونهمه ، لان الكذاب يقع اسير فكرة ما قبل الحيوانية ، وهي انه الوحيد الموجود وانه مركز الكون وان الكون وجد من اجله ، لذلك من حقه ان يلتهم الكل دون استثناء ، وان يلحق الكل به ولخدمته ، وكل من يشكل عقبة يستحق سحقه بالاكاذيب ، في حالة العجز عن ازالته ماديا ، وبالسلاح ان امكن ذلك . في المجتمع الانساني الحالي يشكل الافتراس الظاهرة الابرز ، فهناك افتراس الكبار ، وهم القوى العظمى ، وهؤلاء عماد تبرير افتراسهم للضعفاء هو الكذب التام ، الم يتم احتلال العراق بسبب اكاذيب كاملة كان من لفقها يعرف انها اكاذيب ؟ وهناك افتراس الصغار الذين لا يجدون القوة الكافية لافتراس من يكرهونه او يريدون ازالته من طريق مطامعهم ، لذلك يلجئون لافتراسه عن طريق شيطنته بسيل من الاكاذيب الممجوجة والتافهة ! في هذه الحالة فان الكذب لا يعبر عن الردة لمرحلة ما قبل الحيوانية بل انه ايضا يسلط الضوء على مجموعة من الامراض النفسية والانحرافات السلوكية ، لان الانسان لم يعد مخلوقا بدائيا من حيث تكوين الجسد بل تحول وانتقل الى الحيوانية وصار مخلوقا بالغ التعقيد جسديا وعقليا ، لذلك فان ردود افعاله تصبح اكثر خطرا من ردود افعال مخلوق ما قبل الحيوانية والتي كانت غالبا ميكانيكية وبايولوجية .

ان هذه الحقيقة هي التي تفسر لم صار الانسان ، في حالة فساده ، هو المخلوق الاشد شرا من بين كل المخلوقات الاخرى ، فبفضل ذكاءه وتكوين جسده ساد على الكرة الارضية ، ومع سيادته بدات اخطر عملية ابادة لمخلوقات اخرى ، من شجر ومخلوقات وبشر ! ان الحروب التي يقتل فيها الملايين وتدمير البيئة وابادة الانواع الاخرى هي من افعال البشر ولم يقم بها حيوان اخر ابدا . وتحول الانسان الى مخلوق اناني مرتبط بتغلب الانا على الضمير ، واهم اليات التغلب على الضمير هي الية الكذب ، واخطر الاكاذيب هي الاكاذيب على الذات والضمير لانها هي التي تفسح المحال للكذب على الاخرين !

تخيل : هل تستطيع الكذب على الناس لو لم تكن قبل ذلك قد اقنعت ضميرك بان الكذب ضروري ؟ وحينما تقنع الضمير بذلك تكون قد مارست الكذب على نفسك اولا ، وعندها يكون ضميرك قد حيّد ونوّم . لا سبيل الى الكذب لدى البالغين الا بتنويم الضمير ، وحينما يحصل ذلك نكون قد دخلنا في مملكة ابليس . وحينما ندخل هذه المملكة فاننا نرى حيوانا مفترسا يغطي الشعر كل وجهه ولا حدود لنزعة الافتراس لديه ولا نهاية لقسوته ، يستمر في صراخ الجائع حتى وهو يفترس ضحيته !

واذا بحثنا في تاريخ الانسان سنجد ان الكذب كان دائما مقدمة للشرور التي هزت العالم ، فكل غاز كان كذابا وكل الحروب مهد لها بالكذب ، وكل طاغية كان كذابا ، وكل مجرم كان كذابا ، وكل لص كبير كان كذابا ، وكل من كفر واشرك بالله كان كذابا ، وكل من خان كان كذابا ، وكل من انحرف كان كذابا ، وكل من خان الزوجية كان كذابا ، وكل من خرب الصداقة كان كذابا .هذه حقيقة نجدها في بطون التاريخ وفي ساحات الحدث المأساوي في عالمنا الحالي .

في ضوء ما تقدم هل يمكن ان يكون الحديث النبوي صحيحا ؟ ايها السادة : ان ممارسة الكذب تحيّد الضمير وقد تقتله ، وتنزله من مرتبة الرادع الاعظم والموجه الاعظم الى مرتبة شاهد زور ، او صورة جميلة معلقة في جدار غرفة استقبال للتباهي بصحوة الضمير ، مع ان الجدار يعود لبيت عاهرة قديمة تقاعدت واصبحت تمتهن الكذب الصرف لاجل طمر ماضيها مع انه حي في ذاكرتها هي قبل غيرها ! مرة اخرى تخيلوا كيف تتصرف عاهرة متقاعدة وهي تتظاهر بالعفة مع ان الماضي مسطور بين حاجبيها ؟

اما الكذب في السياسة فهو الاشد مرارة وخطورة ، وهذا موضوع ساتناوله لاحقا .

Salah_almukhtar@gawab.com

 

 

 

 

شبكة المنصور

الاربعاء / 02  ذو الحجة 1428 هـ  الموافق  12 / كانون الأول / 2007 م