بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

 

المطالبة بنقل ملفَّات العراق إلى مجلس الأمن .. دعوات منحرفة وعقيمة

 

 

شبكة المنصور

سعد داود قرياقوس

 

العلاقة بين مجلس الأمن وشعب العراق لا تختلف في طبيعتها عن تلك التي تربط السفَّاح بضحيَّته بكلِّ ما تحمله من عناصر الجريمة والظلم والاستغلال. قائمة الجرائم التي شارك المجلس في ارتكابها بحقِّ شعبنا طويلة ومتنوِّعة. وتفاصيل تواطئه مع واشنطن على خلق مسوِّغات لشنِّ حروب الإبادة على شعب العراق، وتوفيرالغطاء القانوني لها موثَّقة ومشَّخصة. لكن وضوح تفاصيل التاريخ الدموي للمجلس ومساهمته في تدميرهياكل العراق السياسيَّة والاجتماعيَّة لم يمنع بروز دعوات "عراقيَّة " لمنحه دورًا حيويًّا في تصفية حسابات الاحتلال ووضع أسس النظام السياسي لعراق مرحلة ما بعد الاحتلال.

فلا غرابة إذًا في تباين المواقف من دورمجلس الأمن وأهمِّيَّته. ولا غرابة في رفض غالبيَّة القوى والشخصيَّات الوطنيَّة العراقيَّة المناهضة للاحتلال منح المجلس دورًا في الشأن العراقي بصرف النظرعن حجم هذا الدور وشكله. هذا التباين، يتجاوز حدود الاختلاف التقليدي في الاجتهادات السياسية ليشكِّل أحد أهمِّ معايير الالتزام بثوابت العراق الوطنيَّة، وبرنامج المقاومة والتحرير، وأحد خطوط فرز موقف المدافعين عن مشروع تحريرشعب العراق واستعادة حقوقه وسيادته عبر خيار المقاومة، ومواقف أصحاب مبادرات المساومة، ومشاريع التفريط بسيادة العراق ومصالح أجياله القادمة.

الجدل الدائر في الدورالمستقبلي لمجلس الأمن في العراق وأهمِّيَّته ينحصر في محورين أساسيَّين ومتعاكسين. المحور الرافض بشدَّة لدعوات منح المجلس دورًا في إنهاء الاحتلال وتحديد أطر الدولة العراقيَّة وتركيبتها إثر انسحاب القوَّات الأمريكيَّة أو الوصول إلى ترتيبات تفاوضيَّة مع الإدارة الأمريكيَّة لإنهاء الاحتلال. هذا الرفض معبَّر عنه في برامج القوى والأحزاب ومواقف الشخصيَّات السياسيَّة العراقيَّة الملتزمة بثوابت المقاومة، والمتمسَّكة بشرعيَّة تمثيلها شعب العراق، ويستند على معطيات تجربة شعب العراق التاريخيَّة مع مجلس الأمن، ولا سيَّما شرعنته للاحتلال، بالإضافة إلى قناعتهم باستحالة تبنَّي المجلس قرارات تُفضي إلى استرداد شعب العراق كرامته وسيادته الكاملة، وتحصيل استحقاقاته الوطنيَّة في ظل السيطرة الأمريكيَّة المطلقة على مجلس الأمن، وتسخيرها آليَّات النظام الدولي لتأمين مستلزمات نجاح مشروعها الكوني، وانفرادها في اتِّخاذ القرارات الدوليَّة.

مقابل الموقف الرافض لدور مجلس الأمن في العراق، قدَّمت بعض التجمُّعات العراقيَّة برامج سياسيَّة لإنهاء الاحتلال يحتلُّ فيها مجلس الأمن موقعًا محوريًّا. أصحاب هذا الموقف، يراهنون على قدرة المجلس على إيجاد حلٍّ متوازن لأزمة الاحتلال، وإنهاء مأساة شعب العراق بأقلِّ الكلف. وعليه، فهم يقترحون نقل ملفَّات العراق من سيطرة الإدارة الأمريكية إلى مسؤوليَّة مجلس الأمن، وتخويله صلاحيَّة تحديد سمات النظام السياسي لعراق ما بعد انحسار السيطرة العسكريَّة الأمريكيَّة المباشرة. هذه الآليَّة "الواقعيَّة" و"المتوازنة" كما يؤمن أصحابها، تكفل استعادة شعب العراق لسيادته، وتضمن قيام حكومة عراقيَّة فعَّالة تتوفَّر فيها عناصرالكفاءة والديمقراطيَّة.

اين يكمن الخلل في دعوات منح مجلس الأمن دورًا مركزيَّا في حلِّ الكارثة العراقيَّة، وفي تحديد قواعد النظام السياسي للمرحلة اللاحقه لانتهاء الاحتلال الامريكي؟ وماهي دوافع إطلاق مثل هذه الدعوات؟

الخلل الأساس في دعوات منح مجلس الأمن دورًا حيويًّا في العراق، يكمن في استحالة تبنِّيه قرارًا يتضمَّن حلاًّ جذريًّا يؤمِّن لشعب العراق استعادة سيادته وحصوله على التعويضات الكاملة عن كلِّ ما ترتَّب عن الاحتلال من خسائر مادِّيَّة وبشريَّة. فمجلس أمن تسيطر الإدارة الأمريكيَّة على آليَّات صنع قراراته لن ينتج إلاَّ قرارًا ناقصًا والتفافيًّا على مشروع المقاومة والتحرير، يتيح للإدارة الأمريكيَّة ترتيب انسحاب عسكريٍّ جزئيٍّ وصوريٍّ من الأراضي العراقيَّة يقلِّل من خسائرها المادِّيَّة والبشريَّة، ويساعدها على التملُّص من التبعات الإخلاقيَّة والقانونيَّة لجريمة استباحة شعب العراق دون فقدان هيمنتها على قرارات بغداد السياسيَّة والنفطيَّة، أو خسارة نفوذها السياسي ومصالحها الاقتصاديَّة في المنطقة.

إنَّ تبنَّي المجلس قرارًا مضادًّا لموقف الإدارة الأمريكيَّة افتراض لا يمكن قبوله في ظلِّ الخصخصة الأمريكيَّة لمجلس الأمن، وتحكُّمها في مواقف أعضائه الدائمين والمؤقَّتين. فالهيمنة الأمريكيَّة على المجلس وقراراته لن تسمح بإصدار قرار يخدم مصالح شعب العراق، بل أقصى ما يمكن للمجلس الخروج به قرار يؤدِّي إلى خروج رمزيٍّ للقوَّات الأمريكيَّة من أبواب العراق، وإعادتهم من نوافذه أكثرسطوة وقوَّة.

قد يدَّعي نفرٌ بأنَّ الهيمنة الأمريكية على قرارات مجلس الأمن، وتأثيرها على مواقف الأعضاء الآخرين مسألة تنطوي على المبالغة وعدم الموضوعيَّة. سنقبل جدلاً صواب هذا الاعتراض، ونفترض استعداد الأعضاء الدائمين الثلاثة المنافسين للتحالف الأمريكي-البريطاني للتضحية بمصالحهم الاقتصاديَّة الهائلة مع الولايات المتَّحدة من أجل الدفاع عن حقوق شعب العراق. ونفترض أيضًا قدرتهم على تقديم مشروع قرار يلبِّي طموحات شعب العراق، ويستجيب لشروط مقاومتة الوطنيَّة بعيدًا عن تأثيرات الإدارة الأمريكيَّة وسطوتها على مسارات الهيئة وقرارات مجلس الأمن. فهل بإمكان الأعضاء الدائمين الثلاثة دفع المجلس لتبنِّي صيغة هكذا قرار؟

من البديهي أنَّ قرارًا ملبِّيًا لطموحات شعب العراق سيكون بالضرورة منافيًّا لمشروع الاحتلال ومصالح الولايات المتَّحدة، وبالتالي لن يحظى بموافقة الإدارة الأمريكيَّة التي تستطيع استغلال نظام التصويت المعتمَّد في المجلس واستخدام حقِّ النقض "الفيتو" لمنع صدورما يتعارض مع مصالحها أو مصالح حلفائها من قرارات.

إزاء استحالة تبنَّي مجلس الأمن قرارًا يحقِّق شروط شعب العراق، ومطالبه العادلة في الحرِّيَّة واستعادة السيادة الوطنيَّة، فإنَّ إحالة ملفِّ العراق إلى مجلس الأمن لن يغيِّر من معادلة الاحتلال، بل سيبقيها مختلَّة لصالح القوَّة المحتلَّة. هذه الخطوة إذا ما تحقَّقت فإنَّها ستشكِّل التفافًا خطرًا على مشروع شعب العراق المتمِّثل في خيار المقاومة الوطنيَّة، ومحاولة صارخة لإجهاضها، ومصادرة حقِّ شعب العراق المشروع في تحديد سمات نظامه السياسي، وتركيبة حكومة عراق ما بعد هزيمة القوَّات المحتلَّة أو انسحابها، وتجيير هذا الحقِّ لأعضاء مجلس الأمن. نقل ملفَّات العراق إلى مجلس الأمن يقدِّم للإدارة الأمريكيَّة خيارًا يمكِّنها من تجاوز مأزقها السياسي والعسكري في العراق دون فقدان هيمنتها على العراق، واحتكارها ثروته، وتجنُّب دفع تكاليف ما سبَّبته لشعب العراق من قتل وتدمير.

هذه الحقائق ليست غائبة عن ذهن المتحمِّسين إلى منح مجلس الأمن دورًا حيويَّا في تحديد شروط إنهاء الاحتلال ورسم خريطة النظام السياسي في العراق لما بعد انتهاء الاحتلال بعيدًا عن رأي شعب العراق وقراراته. فهم على دراية تامَّة بعقم المجلس واستحاله تبنِّيه قرارًا عادلاً وملبِّيًا حقوق شعب العراق. فلماذا إذًا الإصرار على رهن مقدَّرات شعب العراق بقرارات مؤسَّسة غير قادرة على إنهاء معاناته؟

إنَّ التعامل مع دعوات إشرك مجلس الأمن بحسن نيَّة، أو تفسيرها كاجتهادات منطلقة من حرص أصحابها على حلِّ أزمة شعب العراق بأقلِّ قدرمن الخسائر المادِّيَّة والبشريَّة، تصرُّف يحمل قدرًا كبيرًا من السذاجة. تلك الدعوات تشكِّل حلقة مهمَّة من مشروع سياسي ساهمت الإدارة الأمريكيَّة في بلورته خلال العامين المنصرمين كخيار يمكن تبنِّيه في حالة فشل خياراتها الأخرى. ما يستحقُّ الملاحظة، أنَّ معظم المطالبين بنقل ملفَّات العراق إلى مجلس الأمن، وتفويضه حقَّ تشكيل الحكومة العراقيَّة هم في الوقت نفسه من أكثر المتحمِّسين لفكرة تشكيل حكومة "تكنوقراط" مؤقَّتة، وأكثر مَن سعوا لتأسيس تجمُّعات سياسيَّة قدَّمت نفسها بديلاً عن فصائل المقاومة، وأكثر مَن نشطوا في عرض مبادرات تضمَّنت فقراتها تفريطًا بمصالح شعب العراق وسيادته. دوافع هذه الجهود واضحة، ونوايا أصحابها جليَّة. فإلى جانب الالتفاف على برنامج المقاومة الوطنيَّة العراقيَّة، ومصادرة جهود المقاومين وسرقة انتصارهم، هناك الطموحات الماليَّة والأحلام السياسيَّة وسراب حكم العراق بأيِّ ثمن، وإن كان بالاتِّفاق مع الدول مستبيحة شعبه، وعلى حساب مصالح أجياله القادمة. إنَّ المطالبة بإحالة ملفِّ العراق إلى مجلس الأمن تشكِّل خرقًا لثابت وطنيٍّ مهمٍّ، دعوات منحرفة لا يمكن التغافل عنها.

من المسلَّم به أنَّ تحرير شعب العراق لن يتحقَّق إلاَّ عبر تصعيد الجهد المقاوم واتِّساعه، ومن خلال تسخير كلِّ الجهود البشريَّة والماليَّة والسياسيَّة لتحقيق وحدة فصائل المقاومة، وإنشاء المرجعيَّة الوطنيَّة الشاملة وصولا إلى موقف وطنيٍّ موحَّد لمجابهة الاحتلال. كما أنَّ المستقبل السياسي للعراق وتركيبة حكومته المستقبليَّة لن تحدِّدها إلاَّ إرادة أبناء شعب العراق الصابرين المضحِّين بعيدًا عن هيمنة واشنطن ولندن ومجلس الأمن ووكلائهم. هذه مسلَّمات وثوابت وطنيَّة سيقاتل شعبنا أجيالاً لتحقيقها بصرف النظر عن ثمنَّ التحرير وتضحياته.

 

 

 

 

شبكة المنصور

الاحد /  01  ذي القعدة 1428 هـ  الموافق  11 / تشــريــن الثاني / 2007 م