بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

 

وطن غير قابل للقسمة - مخاطر المطالبة بكيانات إداريَّة

 

 

شبكة المنصور

سعد داود قرياقوس

 

ثمَّة مسلَّمة وطنيَّة لا يمكن تجاوزها دون الإخلال بالتزام الفرد أو المجموعة بالوطن. تقوم هذه المسلَّمة على وجود تقاطع كامل بين الالتزام بالوطن كشعب ورقعة جغرافيَّة أو موروث تاريخي وبين الولاء المطلق لدين أو طائفة أو حزب أو أيَّة رابطة أخرى. والجمع بين هذين الشعورين ينتج مواطنة مشوَّشة وناقصة، ويقود الفرد أو المجموعة إلى تبنِّ مواقف متعارضة مع متطلَّبات أو استحقاقات المواطنة السليمة.

لقد أفرز الاحتلال الإنكلو أمريكي للعراق وضعيَّة سياسية واجتماعية شاذَّة ساهمت في تعميق الخلط بين الالتزام بالموقف الوطني والولاء الضيِّق للمجموعة بشكل يهدِّد سيادة العراق ووحدته الوطنيَّة. إلى جانب بروز ظاهرة المطالبة بقيام كيانات سياسيَّة تستند على أسس ومعايير عرقيَّة وطائفيَّة.

ولم يكن بروز هذه الظاهرة الخطرة عفويًّا أو نتاج القراءة الخاطئة لتفاعلات الواقع السياسي في العراق كما قد يذهب إليه آخرون، بل نتيجة استثمار بعض الحركات السياسيَّة الظروف الشاذَّة التي يمرُّ بها العراق وغياب السلطة المركزية  في تحقيق مشاريعها الانفصاليَّة، عن طريق تغليفها بصيغ تمويهيَّة، كالمطالبة بإنشاء فدراليَّات هجينة التكوين أو المطالبة بإقامة مقاطعات إداريَّة كتلك التي طالبت بها مجموعة من المسيحيِّين العراقيِّين مؤخًّرًا إثر انعقاد ما أطلق عليه "المؤتمر القومي العام" (الكلداني السرياني الآشوري).

تضمَّن البيان الختامي للمؤتمر العديد من المطالب والتصوُّرات المتعلِّقة بدور المسيحيِّين العراقيِّين وحقوقهم الوطنيَّة. لعلَّ أهمُّها وأكثرها خطورة تلك المطالبة في منح المسيحيِّين العراقيِّين مقاطعة إداريَّة في شمال العراق - (سهل نينوى). وتضمين الدستور هويَّتهم ولغتهم، والمطالبة بالحقوق السياسيَّة والدينيَّة والثقافيَّة، بالإضافة إلى المطالبة في حقِّ التمثيل في السلطات التنفيذيَّة والتشريعيَّة والقضائيَّة. وأكَّد البيان أيضًا على ضرورة استخدام تسمية: "الكلدوآشوريين" كتسمية  قوميَّة موحِّدة للمسيحيِّين في العراق وتثبيت هذه التسمية في  دستور العراق.

لقد تناول عددٌ من الكتَّاب العراقيُّون المؤتمر ومقرَّراته بالتحليل والعرض والنقد. تركَّزت مساهمات معظمهم على جوانب قد تكون ثانويَّة الأهميَّة مثل، التساؤلات عن شرعيَّة المؤتمر والصفة التمثيليَّة للمشاركين، وحيثيَّات التسمية القوميَّة المبتكرة: "الكلدوآشوريِّن"، إلاَّ أن تلك المساهمات تجنَّبت التطرُّق إلى قضية المطالبة في تخصيص مقاطعة إداريَّة خاَّصة بالمسيحيَّين، تلك التي تمثِّل أهم مطالب المؤتمر وأكثرها خطورة على مستقبل العراق بشكل عام، ومستقبل المسيحيِّين العراقيِّين بشكل خاص! مطلبٌ لا يقلُّ خطورة عن مضمون  الأفكار الفدرالية  التي طرحها موفَّق الربيعي، عضو مجلس الحكم المؤقَّت قبل أسابيع .

قد يكون من الأسلم بدءًا القول بأن لا خلاف لنا مع كلِّ المطالب المتعلِّقة بحريَّة ممارسة الحقوق الثقافيَّة والدينيَّة والسياسيَّة، وحقِّ المساهمة في الوظائف القضائيَّة والتنفيذيَّة والتشريعيَّة، على الرغم من قناعتنا في أنَّ طرح مثل هذه المطالب بالصيغة التي طرحها المؤتمر سيساهم في تكريس ظاهرة تبنَّي المعايير الحصصيَّة. وإيماننا بأنَّ إسناد الوظائف العامَّة يجب أن يستند على الكفاءة المقرونة بالإخلاص للوطن. لقد كان الأحرى بالذين أعطوا أنفسهم حقَّ القيادة المسيحيَّة في العراق طرح مطالبهم وتصوراتهم كمطالب واستحقاقات وطنيَّة عامَّة بدلاً من طرحها كمطالب فئويَّة ساعية للحصول على حصص وظيفيَّة واستحقاقات ثقافيَّة أو دينيَّة بمعزل عن البرنامج الوطني الشامل.

لا جدال في أنَّ المؤتمر أخطأ بشكل كبير في تبنيه تسمية "الكلدوآشوريين" تسمية قوميَّة لوصف المسيحيِّين العراقيِّين. فالتسمية أوَّلاً لا تسندها أيَّة معطيات تاريخيَّة، بل هي فكرة اقترحها أحد الكهنة الكلدان في الولايات المتَّحدة للسلطات الأمريكيَّة لاستخدامها في بيانات الإحصاء السكَّاني  فيها، وكمحاولة مقبولة لخلق كتلة مسيحيَّة عراقيَّة مميَّزة في المجتمع الأمريكي، كما اقترحها آخرون كنقطة توفيقيَّة ولتقريب الكنيستين النسطوريَّة الآشوريَّة والكاثوليكيَّة الكلدانيَّة. ولا شكَّ في أنَّ المؤتمر يفتقر إلى القوَّة التمثيليَّة (الشرعيَّة الانتخابيَّة) لاقتراح مثل هذه التسمية الغريبة والمشوِّشة التي لن نجازف إذا ما ادَّعينا كونها لا تحظى بتأييد غالبيَّة الآشوريِّين أو الكلدانيِّين، وإن اختلفت أسباب ذلك.

جلَّ خلافنا مع مقرَّرات المؤتمر المذكور يقوم على المطالبة في "إقامة مقاطعة إداريَّة للمسيحيِّين في شمال العراق، وتحديدًا فيما أطلق عليه "سهل نينوى". هذا المطلب  الخاطئ واللامسؤول يشكِّل حلقة أخرى من حلقات محاولة تفتيت وحدة العراق الذي تسعى لتحقيقه إدارة الاحتلال بمساهمة أطراف ما تزال تصرُّ على إطلاق صفة العراقيَّة على  نفسها. اعتراضنا على هذا المطلب، يقوم على جملة من الأسباب:

1.         استناد هذا المطلب على أسباب واهية، وعدم وضوح هوية المقاطعة المقترحة !  هنالك خلط واضح بين كونه مطلبًا دينيًّا مسيحيَّا، أو مطلبًا قوميًّا "كلدوآشوريَّا"! فما هي هويَّة الكيان المقترح؟ وفي كلِّ الأحوال، فإنَّ إقامة مثل هذه الكيانات يشكل تهديدًا حقيقيًّا لوحدة العراق التاريخية وامن وسلامة شعبه.

2.       من غير المعقول إن يسعى المسيحيُّون العراقيُّون الذين يعترف جميع العراقيِّين بهويَّتهم العراقيَّة الأصيلة ، وبكونهم الورثة الشرعيين لحضارة وادي الرافدين  إلى  وحصر وجودهم السكَّاني والإداري في منطقة جغرافيَّة ضيَّقة، في الوقت الذي كان العراق  الكبير مركزا  لهم ، وكانت مدنه وما تزال مفتوحة لهم للعيش فيها في حريَّة وأمان وممارسة كافَّة حقوقهم وفعَّاليَّاتهم الإنسانيَّة والدينيَّة بدون قيود أو عوائق. من غير المعقول أيضًّا أن يغامر نفرٌ ويضحي في اختيار العراق الكبير وطنًا ليتقوقع في هيكل مسخٍ لا تتوفَّر فيه أبسط مقوِّمات الديمومة والرفاه!  إنَّ هدف المسيحيِّين العراقيِّين يجب أن ينصبَّ على المطالبة في الحفاظ على العراق الكبير ككيان موحد ومستقل يجمع وبشكل رائع    مسلميه ومسيحيِّيه وأبناءه  من الطوائف والأقليَّات الأخرى، والحيلولة دون تحويله إلى دولة مدن الطوائف.

3.  ما طالب به المؤتمر، يشكِّل سابقة خطرة، ولا سيَّما على الكلدانيِّين العراقيَّين الذين لم تعرف لهم مطالب انفصاليَّة من قبل. ولا شكَّ في أنَّ هذه السابقة قد تدفع الطوائف والأقلِّيات الأخرى كالصابئة واليزيديِّين والتركمان وغيرهم إلى المطالبة بإقامة مقاطعات إداريَّة أسوة بتلك التي يطالب بها المسيحيُّون، مما يؤدِّي إلى تقسيم العراق إلى مقاطعات صغيرة ضعيفة مجهولة التاريخ والمستقبل! فهل هذه هي ملامح العراق الحر والديمقراطي! العراق النموذج الذي تتبجَّح به سلطات الاحتلال وأنصارها ! وطن الكيانات المصطنعة والمهترئة!

4. شكَّل المؤتمر وقراراته عمليَّة التفاف مكشوفة من قبل بعض الحركات السياسيَّة الآشوريَّة للسيطرة على الخيار المسيحي وترويضه بالشكل الذي يخدم أهدافها الانفصاليَّة .

ِلا اعتراض لدينا على قيام تلك الحركات  في طرح  طموحاتها وأهدافها  السياسيَّة والقوميَّة،

 طالما كانت المطالبة واضحة وشجاعة وغير ملتوية، كما هو الحال في صيغة عقد المؤتمر  وقراراته. لقد نجح معدي المؤتمر في اختطاف القرار المسيحي والكلداني بشكل خاص  بسبب غياب القيادة الكلدانية  القوية والواعية. التمعن في التركيبة السياسية  والاجتماعية  للمسيحيين العراقيين  سيقود إلى ملاحظة الحضور السياسي الآشوري الواضح وغياب التمثيل السياسي الكلداني , هذا التباين في الحضور السياسي  لا ينسجم مع التفوق العددي الكبير للكلدانين .

 ومن هنا فان انعقاد المؤتمر وتبنيه التسمية  "الكلدواشورية " سيساعد الحركة السياسية الآشورية المتعاونة مع سلطات الاحتلال على احتكار القرار المسيحي  وتوفير الشرعية التمثيلية  التي لا تتمتع بها حاليا  وتعزيز مواقعها  انتظارا للانتخابات العامة المقبلة !

5. مقرَّرات المؤتمر لا تعبِّر عن إرادة أغلبيَّة الشعبين الكلداني والآشوري، بل إنَّها تعبير عن البرنامج  السياسي للمجموعة الآشوريَّة التي يقودها مرشَّح الحركات الكرديَّة لعضويَّة مجلس الحكم الانتقالي، يونادم كنا. وهي تحاول عبثًا بالتنسيق مع مسوِّقي البرامج الفدراليَّة الهدَّامة خلق الظروف الملائمة لتقسيم الوطن غير قابل للقسمة.

  في هذه الظروف الاستثنائيَّة التي يمرُّ بها العراق، يتوجب على المسيحيِّين العراقيِّين الذين برهنوا على قدراتهم الفذَّة في حماية وحدة بلاد ما بين النهرين العظيمة خلال القرون الماضية، الاستمرار  في تحمُّل مسؤوليَّاتهم والتزاماتهم الوطنيَّة، والعمل على الحفاظ على وحدة العراق والمساهمة مع إخوانهم وأبناء عمومتهم من المسلمين وأبناء الطوائف الأخرى بقَّوة لطرد قوَّات الاحتلال  واستعادة العراق الحر الموحَّد، والتصدِّي بقوَّة لمحاولات الوصاية التي يحاول بعض عشَّاق المحتلَّين فرضها على أبناء شعبنا العراقي المسيحي لتحقيق زعامات هزيلة، ولتحقيق أحلام  انفصاليَّة وهميَّة. وليتذكَّر المسيحيُّون العراقيُّون أنَّ  قنابل الحقد التي أطلقتها مدافع المحتلِّين الديمقراطيِّين، والقنابل الذكيَّة الهمجيَّة التي أسقطتها طائرات المتحضِّرين الإنسانيَّين على مدن العراق وقصباته لم تفرِّق أبدًا بين طفل مسلم وطفل مسيحي. ولنتذكَّر جميعًا أنَّ أجيالنا القادمة  وتاريخ وطننا لن ترحم من لم يسعَ للمحافظة على وحدة شعبه وسيادته.

15/11/2003

 

 

 

 

شبكة المنصور

الاربعاء /  27 شــــوال 1428 هـ  الموافق  07 / تشــريــن الثاني / 2007 م