بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

 

قرار " مجلس الشيوخ الاميركي"

لتقسيم العراق ... مقدمات ونتائج

 

 

شبكة المنصور

بقلم المحامي حسن بيان

 

ـ من المعروف في العلم والفقه الدستوريين،ان المجالس التشريعية،البسيط منها والمركب تنحصر صلاحياتها بصلاحيتين رئيسيتين،تشريعية،ورقابية،وفي بعض الدول تتحول المجالس التشريعية الى هيئات ناخبة اذا كانت دساتير هذه الدول تنص على ان رؤوساء الدول يُنتخبون من المجالس التشريعية، كما تمارس المجالس في بعض الدول صلاحيات قضائية اذا نصت دساتيرها على محاكمة روؤساء وغيرهم من المسؤولين امام محاكم خاصة يكون المجلس التشريعي ماثلاً فيها ادعاء وتحقيقاً وحاكماً.

ـ اما ان تتصدى المجالس التشريعية في بعض الدول لمهمات تتعدى الشأن الداخلي للدول ان في مجال التشريع والرقابة والانتخاب والقضاء،فهذا يشكل تطوراً جديداً،لا بل ملفتاً للنظر،في تجاوز التدخل في الشؤون الداخلية للدولة،نطاق السلطات التنفيذية الى الهيئات المشرعة.

ـ واذا كانت دساتير الدول تنص في مقدماتها على عدم جواز التدخل في الشؤون الداخلية للدول الاخرى،وان هذا المبدأ فضلاً عن كونه مكرساً بالنص في كل دساتير العالم،فإن الهيئات الدولية وخاصة الامم المتحدة تنص على احترام سيادة الدول وعدم جواز التدخل في شؤون الدول الاخرى،وان الحالة الوحيدة التي تجيز فيها الامم المتحدة عير هيئاتها التنفيذية التدخل فهي عندما نرى ان هناك اوضاعاً سياسية في بعض المناطق والدول تهدد السلام العالمي.وان هذا التدخل يجب ان يكون تحت مظلة الشرعية الدولية وفق ضوابط محددة.

ـ اما ان يفلت الحبل على غاربه، وتصبح عملية التدخل،مستباحة لكل من اعتبر نفسه قادراً على التدخل في شؤون الاخرين وان يتجاوز هذا التدخل اطار عمل السلطات التنفيذية الى السلطات التشريعية كما حصل في ما صدر عن مجلس الشيوخ الاميركي من قرار يريد ان يحوله الى قانون وهو تقسيم العراق،ففي هذا بداية تطور جديد وخطير في أشكال التدخل في شؤون الدول الاخرى.

ـ ان "القرار"الذي أصدره مجلس الشيوخ الاميركي،وان اعتبر غير ملزم،الا ان خطورته ليست في كونه ملزماً أو غير ملزم،بل الخطورة في أنه يؤشر الى تطورجديد في التفكير السياسي لمراكز القرار الاميركي حول التعامل مع الازمات الدولية وخاصة تلك التي تكون اميركا طرفاً اساسياً في أسبابها وفي تلقي نتائجها.

ـ ومن يعرف آلية اتخاذ القرارات المهمة في الادارة الاميركية،يعرف ان ما أقدم عليه مجلس الشيوخ مؤخراً بالدعوة الى تقسيم العراق لم يكن مجرد اقتراح طرحه احد الشيوخ وجرت مناقشته ومن ثم اقراره بأغلبية كبيرة،اذ لا بد انه مر أولاً بمراكز الابحاث والدراسات التي تتولى عادة اعداد المادة الاولية لأي قرار يتخذ على مستوى الادارة الحاكمة وتكون له أبعاد استراتيجية.

ـ هذا الذي أقره مجلس الشيوخ الاميركي كأحد مجلسي الكونغرس هل كان ابن ساعته واملته التطورات السياسية والامنية في العراق وحيث باتت اميركا تواجه مأزقاً بعدما تعثرت اندفاعة مشروعها في السيطرة على العراق واحتوائه مع ابقائه موحداً؟

ـ انه مما لا شك فيه ولا جدال حوله،ان المأزق الاميركي في العراق أصبح جزءاً من السجال السياسي الداخلي في اميركا وان قضية احتلال العراق وما رتبه هذا الاحتلال من اعباء على القوى المحتلة وخاصة اميركا التي لم تتحسب للنتائج التي ترتبت على احتلالها باتت تشكل قضية محورية في الاهتمام السياسي والشعبي في الداخل الاميركي،وهذا ما حدا بإحدى الصحف الاميركية الكبرى،لأن تعتبر ان احتلال العراق وما ترتب عليه حتى الان من تبعات واعباء وخسائر وبالتالي نتائج سياسية قد أحدث تحولاً استراتجياً وعميقاً في المزاج الشعبي الاميركي،وفي التطور النوعي الحاصل في أولويات المواطن الاميركي.فالمواطن الاميركي الذي عرف عنه انه لا يعير اهتماماً كبيراً للقضايا الخارجية وحتى التي تكون دولته ذات علاقة بها سلباً أو ايجاباً،بات اليوم ينشد في اهتماماته اليومية الى القضايا السياسية الخارجية بعد ما أصبح الوجود الاميركي في العراق مادة دائم الحضور لدى قطاعات شعبية واسعة.

ـ ولهذا فإن اقدام مجلس الشيوخ الاميركي على اصدار قرار يدعو لتقسيم العراق،فإنه يعبر بأحد جوانبه عن مدى التحول في أولويات الاهتمام لدى المواطن الاميركي،الا ان هذا المواطن،لم يعدّل في سلم اهتمامه واولوياته من الاهتمام بالشأن الداخلي الى الشأن الخارجي،الا لأن هذه الحرب التي شنتها اميركا على العراق باتت عبئاً ضاغطاً عليه على المستوى المعيشي ونظراً للتكلفة البشرية بعدما وصلت الخسائر لدى الجيش الاميركي والمؤسسات المتربطة والعاملة بتوجهاته الى حدود لم يكن يتوقعها منظرو ومقررو ومنفذو غزو العراق واحتلاله.

ـ اما ان يقدم مجلس الشيوخ على اصدارقرار يدعو لتقسيم العراق الى ثلاث كيانات كحل لما يسميه أزمة العراق والوجود الاميركي،فهو وان كان يستفيد من الحالة الشعبية التي تريد حلاً وانسحاباً اميركياً،لكنه في الوقت ذاته يستحضر في ما يعتبره لحظة سانحة حقيقة المشروع الاصلي التي تنفذه الادارة الاميركية الحالية في اطار استراتجية ثابتة لأميركا تتباين حيالها وجهات نظر الديمقراطيين والجمهوريين شكلاً لكنها تتوافق في الجوهر.حيث ان الخلاف بين الديمقراطيين والجمهوريين ليس على مبدأ السيطرة والاحتواء للعالم وادارته من موقع القطب الواحد بل في طريقة ادارة هذه السيطرة وطريقة الاحتواء.

واذا كان من خلاف بين الحزبين يدور حول موضوع العراق،فهذا الخلاف يراد توظيفه في سياق احتدام المعركة السياسية الداخلية على أبواب قرب الانتخابات الرئاسية وبعدما أثمر توظيف هذا السجال السياسي في انتخابات الكونغرس الاميركي.

ـ فلو كان الديمقراطيون يعارضون جوهرياً استراتجية الادارة الجمهورية حيال العراق،فهل كانوا يطرحون مخرجاً للحل عبر مجلس الشيوخ الذي تسيطر عليه اغلبية ديمقراطية يتجاوز على الاقل حدود المعلن من الاهداف الاميركية التي ترفعها الادارة الحالية؟

ـ ان هذا يدفعنا الى القول بأن الخطة الاميركية حيال العراق ليست من بنات افكار الادارة الحالية وان كانت قد وضعت قيد التنفيذ في ظل حكمها.بل هي سياسة ثابتة يتناوب على تنفيذها من يصل الى مركز القرار في هرم الادارة الحاكمة.

ـ من هنا،فإن ما صدر عن مجلس الشيوخ الاميركي،لم يكن صاعقة في سماء صافية بل جاء في سياق الوضوح التدريجي للاهداف الاميركية الثابتة حيال العراق،وايضاً حيال كثير من المواقع التي تريد اميركا السيطرة عليها احتلالاُ واحتواء لأحكام قبضتها على العالم وخاصة مواطن الثروات الطبيعية فيه والنفط أولها لأطول فترة ممكنة. وطالما لم يتوفر حتى الان بديل جدي وعملي واقتصادي للطاقة ولهذا فإنه لا يجب التوقف كثيراً عند ما أعلنه الرئيس الاميركي بأن القرار ليس ملزماً فهذا التصريح جاء في سياق "التلطيف"السياسي للاعلان وليس من باب الاعتراض عليه.والكل يعرف انه قبل غزو العراق أقر الكونغرس قانون تحرير العراق،عام 1998 .

ـ ذلك القانون صدر في ظل الادارة الديمقراطية،وجرى غزو العراق واحتلاله في ظل الادراة الجمهورية وهذا ان دل على شيء فإنما يدل بأن الاهداف الاستراتجية والكبرى لأميركا تتحكم بها ثوابت السياسة الاميركية القائمة حالياً على ادارة النظام الدولي وفق مقتضيات المصالح الاميركية.

ـ من هنا،فإن "قرار تقسيم العراق"وان جاء في سياق البحث عن مخارج لتعثر المشروع الاميركي في العراق الا انه في حقيقة ابعاده يشكل خطوة متقدمة في تظهير المخطط الجديد الذي تنفذه اميركا للسيطرة على العالم بقواها الذاتية أولاً وبالاستناد الى مرتكزات وقوى اقليمية ومحلية ومناطقية.

وهذا يعني ان الموقع المقرر في النظام الدولي الجديد يمارس سياسة استعماريةلم تعد أهدافها خافية على أحد وان الجديد في هذه الخطة لإدارة النظام الدولي،ان اميركا التي أصبحت لها اليد الطولى في التقرير في ميدان السياسة الدولية بعد سقوط نظام ثنائية الاستقطاب الدولي،تتصرف مع العالم،بأنها مركز القرار،وان عاصمتها هي عاصمة العالم،وان ادارتها ورئيسها هي ادارة العالم ورئيسها.

ـ وعندما تتحكم هذه الرؤيا بالاداء السياسي للحاكم الاميركي،يصبح العالم كله بالنسبة لاميركا بمثابة الداخل الاميركي وعندها تعتبر انه يحق لها ان تسن التشريعات التي تتلاءم مصالحها.

ـ فعندما تعتبر اميركا،ان امن النفط هو من امنها القومي،فهي تتدخل في مواقع هذا النفط وفق ما تعتبره حماية لهذا الامن القومي.

ـ وعلى هذا الاساس،فإن اقدام مجالسها التشريعية على سن تشريعات تتجاوز حدود الكيان الاميركي،كما حصل في العديد من الحالات التي أقدمت هذه المجالس على سن قوانين كما"قانون تحرير العراق"وقانون محاسبة سوريا،واخيراً قرار تقسيم العراق الذي سيتحول لاحقاً الى قانون، فإنها تتصرف وكأنها تتعامل مع شأن داخلي.وانه ضمن هذا السياق جاءت خطوة مجلس الشيوخ الاخيرة.

ـ ان هذا القرار الذي وصل الى مرحلة متقدمة في طريقه للاقرار ومن ثم وضع الاليات التنفيذية له،كانت مقدماته القريبة فيما أفصح عنه في الوثائق السياسية التي أعدت قبل احتلال العراق وكان آخرها مؤتمر لندن ومن بعدها مؤتمر اربيل ومقدماتها البعيدة هي في الوثائق الاستعمارية بدءاً من وثيقة باترمان عام 1907 والتي دعت الى تقسيم الوطن العربي ومروراً بالوثائق الصهيونية التي دعت الى تقسيم المنطقة العربية الى كيانات حدودها ،حدود المذاهب والطوائف والاعراق.

ـ وما أكثر ما احتوته الوثائق الصهيونية من دعوات للتقسيم واعادة صياغة اوضاع المنطقة على الاسس المشار اليها.وتكفي الاشارة الى ما طرحه "أويدنيون"وهو كان مستشاراً لبيغن عام 1980  وباحثاً في مركز الابحاث الصهيونية في القدس المحتلة،وهو ان امن"اسرائيل"لا يتحقق عملياً،بما تحوز عليه من قدرات عسكرية رادعة بل من خلال تقسيم المنطقة العربية وكياناتها الراهنة الى دويلات طائفية ومذهبية تحكمها التناقضات والعدائية ،وانه من ضمن ما طرحه تقسيم العراق الى ثلاث كيانات : كيان كردي في اشمال وكيان شيعي في الجنوب وكيان سني في الوسط.

ـ ومن يقارن مضمون الوثائق الصهيونية وما أقره مجلس الشيوخ الاميركي،يرى التطابق بين التوجهين الصهيوني من جهة والموقع المقرر في النظام الاستعماري والذي يتجسد اليوم بالموقع الاميركي من جهة ثانية.

ـ ان اميركا التي تسن مؤسساتها التشريعية قوانين تتناول أوضاعاً خارج حدود الدولة الاميركية،وتقوم هيئاتها القضائية بمقاضاة افراد وهيئات غير اميركية،وتقيم مراكز اعتقال في العديد من دول العالم وتحت اشراف اجهزتها الامنية والمخابراتية،لا تكتفي بهذا التدخل بشؤون العالم،بل تعمل "لتشريع"قراراتها واجراءاتها عبر تغطية دولية وخاصة عبر هيئات الامم المتحدة ومجلس امنها بالنظر الى الهيمنة التي تمارسها على هذه الهيئة.

ـ ان الدعوة الاميركية لدور أكثر فاعلية لهيئات الامم المتحدة في العراق،لا يراد لها ان تصل في الوقت الحاضر الى مستوى اخلاء الساحة لدور ولحضور دولي متوازن وفعال،بل كل ما تريده،تغطية دولية لدورها وحضورها،وما لم تحظ به عندما قررت شن الحرب على العراق تريد الحصول عليه وهي تبدأ البحث في استراتجية الانسحاب.وهي ان كانت حتى الان لم تصل الى مستوى وضع الالية التنفيذية للانسحاب،الا انها بدأت الاعداد لخلق وقائع على الارض تهمد لانسحابها عسكرياً وبقائها سياسياً.

وان افضل الصيغ لهذا الخيار الاميركي هو وجود عراق موحد شكلاً مقسم واقعاً وهذا لم يعد بحاجة لأدلة لإثباته، بعد اصدار قرار تقسيم العراق والذي ستقدمه اميركا للامم المتحدة ومجلس امنها،باعتباره أفضل الصيغ لحل ازمة العراق بعدما استفحل بنظرها الصراع المذهبي والطائفي والعرقي،وبعدما أصبحت الارض شبه ممهدة في الداخل العراقي،وبعد ما توفرت لهذا المشروع الارضية الدستورية العراقية عبر مشروع الدستور الذي يقر بقيام فدرالية في العراق عبر تقسيمه الى ثلاث كيانات.

ـ هذا المخطط الاميركي الذي تتضح معالمه يوماً بعد يوم ويتم تظهيره بأسرع مما يتصور البعض بسبب حدة المأزق الاميركي،فإنه وان كان يلاقي المخطط الصهيوني في موقع عربي مهم،الا انه يجد مساعداً أساسياً له ممثلاً بشكل أساسي بالدور الايراني الطامع برؤية عراق ضعيف ومقسم،ويجد ادوات تنفيذية محلية له جاءت على رافعة الاحتلال،ولا تجد فرصة لبقائها الا اذا حقق الاحتلال كامل أهدافه الاستراتجية بتقسم العراق واول الغيث،تشريع دستوري داخلي يلاقيه تشريع اميركي يأخذ طريقه الى ان يصبح مشروعاً دولياً.

ـ هذا المشروع على خطورته،هل يكفي ادراك خطورته وحسب،والتعبير عن المخاوف والاستنكار فقط؟ ان هذا وان كان مطلوباً،الا ان المطلوب هو أفعال لا أقوال وذلك بإتخاذ المواقف والاجراءات العملية التي تحول دون تمريره وتنفيذه.وان لا سبيل الى ذلك ،الا بإسقاط الاحتلال وكل ما أفرزه من نتائج سياسية،وهذه الامكانية ليست مستحيلة وليست معدومة،بل هي ممكنة،وعنوانها واضح جداً،الا وهو اعتبار المقاومة هي الممثل الشرعي الوطني لشعب العراق،وان دعمها واحتضانها وتوفير الدعم السياسي والمادي والقاعدة الخلفية لها هو أقصر الطرق لتحرير العراق وبالتالي اسقاط مشاريع التقسيم سواء قدمت عبر مشاريع دستورية عراقية صيغت في ظل الاحتلال،او عبرقرارات و مشاريع قوانين اميركية يراد لها ان تأخذ طريقها الى الاقرار الدولي بضغط اميركي.

ـ اما اذا لم يصبح خيار دعم المقاومة العراقية خيار كل الذين يرون خطورة في قرار مجلس الشيوخ الاميركي فإنه لن يطول الوضع كثيراً ليروا قراراً اميركياً اخر يتناول قطراً عربياً آخر ،

الم تقل الحكمة:
                      أكلت يوم أكل الثور الابيض

 

 

 

 

شبكة المنصور

الجمعة /  23 رمضان 1428 هـ  الموافق  05 / تشــريــن الاول / 2007 م