بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

 

اجتياز الخط ..
بضع كلمات عن هيفاء زنكنة

 

 

شبكة المنصور

علي الصراف

 

لم نلتق، ولا صادف أن تبادلنا كلمة، رغم أننا نعيش ونعمل في محيط مدينة واحدة. ولهذا السبب، فانها لا تتوقع أن أكتب فيها وعنها سطرا واحدا. وأكثر من ذلك، فليس من مألوف العادات بين المثقفين أن يكتبوا بإعجاب ومودة، عن بعضهم البعض. هذا النوع من الأخلاقيات لم يدخل رحاب "ثقافتنا" بعد. وما لم تكن هناك "اخوانيات"، تقتفي أثر ترضيات وتسويات و"علاقات عامة"، فالكتّاب لا يكتبون عن بعضهم البعض عادة، إللهم إلا إذا... ماتوا. ساعتها، يصبح غيابهم نوعا من الإحتفال بأثر. وحتى هذا الاحتفال، فانه قد لا يخلو من مناجاة ذاتية ترى في الغائب ما يرثه الباقي وهو يتأمل في مرآة نفسه.

لماذا اكتب الآن عن هيفاء زنكنة؟

أولاً، من هي هيفاء زنكنة؟

انها واحدة من آخر من بقي لدينا من روائيات. لغتها الشفافة، وعيها الملفت للمقومات الفنية للعمل الروائي، والعمق الروحي الذي تجسده شخصياتها، يؤكد انها واحدة من أفضلهن أيضا.

وهي تعرف ذلك. ولكنها لا تقوله. بدلا منه، فانها تكتب عن الأخريات اللواتي خضن غمار المغامرة. وفي مقدمة روايتها الأخيرة، تضع نفسها، من دون كلمات، في سياق مشروع روائي عراقي، كان بحد ذاته تجريبيا. وبينما هو يبحث عن مقومات، فانه كان (وما يزال بالأحرى) يحاول ان يرسي شرعية في بيئة أدب يغلب عليها الشعر. وككل وجوه الأدب في عالمنا، ما يزال المشروع الروائي يتقلب بين ضفاف تجريبية وأخرى، ساعيا لأداء وظيفة تنخرط به في لجة إنقلابات لا حصر لها في المسافة بين عالم السياسة والثقافة.

ربما أسهمت ثقافتها الانجليزية بالكثير في جعلها تتقن مقومات "الصنعة" الروائية. وهذا أمر ليس قليل الأهمية. فبالرغم من اننا لم نفتقر (في الماضي على الأقل) لترجمات قدمت لنا جانبا مهما من كلاسيكيات هذا الأدب، وبعض مختارات متفرقة من حديثه، إلا ان "التثقف" بثقافة لغة أخرى، ما يزال عاملا مهما للتحرر من اللفظيات المزيفة للكثير من مشاغل الرواية، بل الكثير من أنماط الكتابة العربية أيضا.
التزويق اللفظي، وخلل البناء، والعبارات الطويلة التي لا تفضي الى فكرة واضحة، و"جعمرة" اللغة التي تُقدَّم كتعبير عن مستوى "الثقافة"، كثيرا ما كانت هي "اللغة" السائدة في بيئة السرد. والتحرر منها يتطلب معجزة.

ولكني لن أغرق في التعبير عن الإعجاب بلغتها الرشيقة، ولا بشخصياتها (وهن خمس نساء) ولا حتى بالرواية نفسها: "نساء على سفر بين بغداد ولندن" (صدرت مترجمة الى الانجليزية عن "سلسلة الشرق الأوسط لتراجم الأدب الحديث" وهي الرابعة بعد: "في أروقة الذاكرة"، "مفاتيح مدينة" و"ثمة آخر"). إعجابي سيذهب الى الكاتبة التي لم تكتب كلمة واحدة في عمل روائي جديد منذ أن أصبح العراق خاضعا للاحتلال ومحطما.

***

لقد اهتزت هذه المرأة. كيانها كله تعرض لزلزال مدمر. كل بقعة كل دم تسيل في العراق كانت تحرمها القدرة على ان تعيش حياتها كأديبة. فخرجت لتقاتل.

لا أحد منا، قدم تضحية مماثلة. بعض الشعراء ظلوا يقولون ما لا يفعلون، ويتبعهم الغاوون. ومثلهم فعل الكتاب والصحافيون. إلا هذه المرأة. لقد سرقوا منها وطنا. فأصبحت تبدو وكأنها في العراء. وفي العراء قد تُكتب بعض فصول المعركة ضد الجريمة، بقلم يسيل دما، إلا ان الروايات (على الأقل من وجهة نظر هيفاء) لا تُكتب هكذا. الرواية تتطلب استقرارا خلاقا، يسمح بتوطين أرواح ومعان حياتية جديدة، لا فوضى خلاقة، تهجر الملايين وتدمر كل معنى من معاني الحياة. وكما يوحي سردها لمسيرة القصة والرواية العراقية، فانها كانت تريد لقلمها ان يشق طريقا آخر، او في الأقل، ألا يجد نفسه مجرد انعكاس وصفي، او مواعظي، او وجداني، او أيديولوجي، لما يجري في الواقع.

ما فعله الغزاة هو انهم نسفوا الواقع. فدمروا كل شيء في البيئة الاجتماعية التي كانت تشكل العراق، ليحلوا فوقها زريبة خنازير ترتع في منطقة خضراء وتعيث في العراق نهبا وقتلا وتدميرا.
لا أحد كان يمكنه ان يلوم هيفاء زنكنة ان تضع يدها على الخيار المخملي لروائي ينتظر ان تلهمه المأساة رواية من نوع ما.

هيفاء اختارت ان تقاتل. شهرت قلمها لتتحول الى واحدة من اكثر كتاب المقاومة بسالة؛ والى واحدة من اكثر الوطنيين وطنية، لتدافع عن العراق، وعن حق شعبه بالحرية. ولتفضح، باللغتين، مزاعم الغزاة وأباطيلهم عن الديمقراطية وأسلحة الدمار الشامل ومكافحة الإرهاب.
أسمها صار ينتقل من صحيفة الى أخرى، ومن موقع الكتروني الى آخر، ككاتبة سياسية لا كروائية، وكمناضلة لا كأديبة.

لقد سرقوا منها عراقا. وكانت استعادته هي المعركة. وهم سرقوا الروائية من عالمها. ولكن تلك لم تكن هي التضحية الوحيدة.

سألت نفسي، انا الذي رأيت صورة لها في مكان ما، هل كان يمكن ان أقف أمامها لأقول: انا... فلان. هل تعرفيني؟

في الواقع، كانت الرغبة هي ان أسرق منها دهشة المفاجأة، ولكي أنظر في عمق عينيها عن تلك الشراكة التي جمعتنا على حطام، لنبكي وطنا ضاع.

ولكن شكرا للملائكة، ان تلك الرغبة لم تتحقق. فالعراق لم يضع. وأنا لم أراها. ولكني رأيت الخط الذي اجتازته، فصار من اللازم أن انحنى احتراما، ليس للأديبة، هذه المرة، ولا للكاتبة السياسية، وانما للعراقية التي فيها من ملح العراق وروحه ما يجعل استعادته للملايين من أمثالها، عملا يستحق عناءه.

***

هيفاء زنكنة، كردية.

ولكنها وضعت العراق أولا. شيء من شموخ الكرامة الوطنية والقومية كان يقول لها ان كردستان لا تُبنى على حطام العراق. وانه إذا كان للأكراد في وطنهم حق، فانهم يستحقون أن يأخذوه منه، لا من الغزاة. وهو حق، إذا كانت تجب حمايته، فبتضامن العراقيين، لا بدبابات المحتلين. والاحتلال في آخر المطاف زائل، بينما العراق باق. فأي "حق" سيبقى إذا كان حماته لصوصا ومجرمين وقتلة أطفال؟

الرهان على دمار العراق لا يبني شيئا حقيقيا في كردستان. وهو رهان خاسر.

والرهان على أهل ذلك الرهان، خاسر أيضا، لأنهم راحلون بما نهبوا، تاركين وراءهم شعبا مهزوما مرتين: مرة، حيال شراكة دمروها في وطن كان يمكن بناؤه على حرية ومساواة وعدل. ومرة، حيال غزاة يستخدمونهم كمطية لأطماع ومصالح، وما أن ينتهوا منها حتى يتم ركلهم.

وهيفاء زنكنة كانت قد تعرضت للتعذيب في وقت ما مضى. الجرح قد يكون او لا يكون شفي تماما، إلا انه دخل (كما تدل كتاباتها) في مساحة التسامح الإنساني والوطني من اجل مقدس أقدس.

فهي، إذا كانت عارضت نظاما، فانها لم تعارض العراق. هذا هو خط التجاوز. لم تضع آلامها فوق العراق، او تبيعها على حسابه. شيء من شموخ الروح، هو ما يصنع الفارق بين معارضة نظام لتغيير بعض مسالكه او خياراته، وبين معارضة الوطن لتدميره وتحويله الى مقبرة جماعية موحدة، والى مخيم لاجئين بالجملة، والى غابة قتل ونهب ومليشيات طائفية.

هذا هو الخط الذي لم يره كل أولئك الذين يتخذون من "الحقد الشخصي" على النظام السابق ذريعة للحقد على العراق نفسه.

والحقد، لاحظوا، هو كل ما يحركهم. لا دين، لا قيم، لا مقومات، ولا شيء يمكن الوثوق به في الواقع العملي غير أعمال الحقد. حتى حولوا العراق الى مسلخ ومستنقع كراهية. وبه سيغرقون، عندما ينقلب السحر على الساحر.

الشخصي شيء، والعام شيء آخر. قد يوصل هذا لذاك، وقد يعني شيء من هذا شيئا من ذاك، ولكن الخط الفاصل بين الإثنين يجب ان يظل واضحا. انه خط شرف وضمير وإنصاف أيضا.

بموجب كل المعايير والأعراف والقوانين والدساتير والقيم، فان التعرض للتعذيب جريمة تستحق العقاب. ولكن بيع الوطن والتواطؤ مع غزوه واحتلاله ودماره خيانة عظمى تستوجب عقابا أشد.
لا نقاش، لا تنظير، ولا جدل، لأن الوطن قيمة أعلى وأسمى.

الأحرار فقط هم الذين يعرفون الفارق، على حقيقته، بين الأنا والوطن.
والأحرار فقط هم الذين يتسامون على جراحهم من اجل شيء أعم وأبقى وأنبل.
ومنذ اللحظة التي أصبح فيها العراق محتلا، لم تعد هناك "أنا". صارت مقاومة الغزاة هي الأنا الوحيدة الجديرة بالإعتبار.

هذه هي الوطنية. ولدينا ملايين (نعم، بالعدة والعدد) التعريفات للوطنية. وأحدها: هيفاء زنكنة.
وشسع نعال عراقية مثلها أشرف من آلاف الرؤوس والعمائم تستخذي دبابات الغزاة او تحتمي بهم. فكيف، إذن، بيدها؟ وكيف إذن، بقلمها؟ وكيف، إذن، بروحها وكرامتها ووطنيتها؟
وها هي مثل الجحيم على أكاذيبهم. وها هي مثل غضب الله على جرائمهم.
وها هي، فوق ذلك، تهدي كتابها للمقاومة.

وسأطلب إذنا مؤقتا، من اخوتنا حملة السلاح ضد الغزاة، لكي أقول لها، بالنيابة عنهم: شكراً.
من اجلك، كما من أجل الملايين من أمثالك، يستحق هذا العراق ان يكون تحت جلودنا دماً وروحاً وملحاً.
فشكراً.

 

 

 

 

شبكة المنصور

السبت /  30 شــــوال 1428 هـ  الموافق  10 / تشــريــن الثاني / 2007 م