بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

 

مبروك لنا دمنا
مبروك عليهم عارهم

 

 

شبكة المنصور

علي الصراف

 

لم يذهب بعيدا.

وككل الشهداء الأحياء عند ربهم يرزقون، ما يزال ذلك المقدام الجسور حيا. تتغنى بتضحيته "آر.بي.جيات" المجاهدين، وتتحول صليات الرصاص إلى هلاهل عرس.

فالشهادة عرس.. ودم الشهداء مهر العروس: الحرية.
لم يمت.

صدام حسين المجيد، هذا، لم يمت. لم يلحظ الأوغاد المفارقة في إسمه الأخير. فقتلوه. فاذا بمجيده يعيش، وهم بالعار والخزي يغرقون.

المجيد هذا، لم يولد ليموت على فراش وثير، او كما يموت البعير، لم يولد لكي يبكي بكاء خالد بن الوليد. ولد ليذهب إلى موته باسم الثغر، منشرح النفس، وقّاد العزيمة، ثابت القدمين، وعلى رباط الحق مرابطا. في ساحة الوغى روحه، ولئن أمكن إلقاء القبض على بعض منها، فانها أفلتت من السجن بما شُبّه لهم. وهناك ظلت ترفرف حمامات المجيد، ليبقى. فقد ولد لكي يُشنق. لكي تُمتحن بسالته الإمتحان الأقصى، فارتقى ساخرا بجلاديه. كانت تلك هي حصته من الحياة، وكان ذلك هو نصيبه من الخلود. ولد لكي يُحلق في سماوات المجد أعلى من أعلى زعيم عرفه تاريخنا الحديث.

أرادوا له أن يموت، ولكن أسقط في يدهم. رآهم، من مطلق العهر جاءوا، فحاكمهم ليراهم إلى مطلق الخزي يذهبون. وما كان لخزيهم أن يحظى بنصر عليه، وإن قيدوه بمليون سلسلة من حديد.

يصيح بصوت، عالي الصوت، يمّه (يا أمة)

هذا الموت ما يمر الموت يمّه

جنات الخلد من بحره ويمّه

معقود المجد لأهل الحمية.

وكان يعرف انه هو الذي سيعيش في آخر مطاف المهزلة-المحاكمة، وقضاته سيهربون.

وبالعيش مدى الأيام، لا بالإعدام قد حَكموا.

فقلنا: مبروك لهم عارهم، إن جاروا وإن ظلموا، ومبروك لنا دمنا، إذ أشرقت في ظله الشيمُ. والفرق بيننا أننا نحن مَنْ نحن، وهمُ من هم. فلقيناه حيا. وقَتَلَته هم الذين ماتوا. يموت النسغُ في يدهم، وتحيا بشهدائنا الرممُ.

قال لهم متسائلا: "هيّ هاي المرجلة؟". فلم تكن هناك إلا مرجلته. وكان الوحيد.. الوحيد الذي يحيا بموته. وهم يموتون بحياتهم. وفي خارج مبنى موتهم، كان المخانيث يهتفون (بالمعنى العملي): "منصورة يا شيعة خيبر".

ومنصورةٌ خيبر، كما وجدت نفسها، في ظل دبابات العم صهيون، و"قرعانهم" المجوسي يقول: سبحان الذي أسرى بعمائمه ليلا، من المسجد الحيدري الى البيت الأبيض الذي بارك الصفويون من حوله. يقولون ما يقولون. ولحسابه يعملون، من بغداد الى كابول، فبأي آلاء ربكم تفتئتون.

ولكنهم مثلما لم يلحظوا المفارقة بين حيدر الإفتراض وخيبر الواقع، فانهم لم يلحظوا المفارقة التي أبقت المجيد مجيداً. فمات بين أيديهم ليولد من جديد.

وكل عراقي الغيرة مجيد.

وكل عراقي الضمير مجيد. لا يموت إلا ليُبعث حيا، بما تركت فيه الشهامة وأورثت جيلا بعد جيل، بعد جيل.

هذا بلد للشهداء. انه، ليس عن صدفة، "كعبة المجد والخلود". فالمجيدون فيه هم الغالبون، وحليبهم هو الذي يدلهم على الطريق. وهم الوارثون.

وهذا عراقٌ، ما من غزاة بقوا فيه. وما من متواطئين إلا وطأت جبهاتهم الحضيض. وشاهدنا التاريخ. شاهدنا الغيرة كما تفوح، كالقدّاح، بين أيدي وطنيين طالما افتدوا أنفسهم من اجل حريته وسيادته وإستقلاله. وشاهدنا طهر الحليب، الذي مثلما أسقط كل مؤامرات المستعمرين ومعاهداتهم، فانه سيُسقط مؤامرات المتوضئين عمالةً، والمتوطّئين نجاسة على باب خيبر، والراكبين مركب البرابرة الجدد.

والعراق عراق أحرار فقط. وهو عراق ما برحت تبعثه الأقداسُ والقيمُ. فلا تسأل: كم قمة زالت على أسواره وكم دالت به أممُ. لانه، حرا يعود وسيدا وإن بادوا وإن هدموا. من هولاكو الى بلير وبوش. ومن كل مغولي الى كل مستعمر الى كل الوحوش الذين مروا على تاريخه، فانه حرا يعود. ويعود ابناء الحرة ليبنوه.

وسنحج اليه حج الأحرار، ذات يوم. ليس لأن نساءه تنافس رجاله في البسالة والتضحية، وليس لأن أطفاله يقاتلون فحسب، بل لأن مجاهديه يولدون من نُطفة غيرة وشهامة، ومن حليب حرة يرضعون. فلا ينامون على ضيم. ولا يباعون ولا يُشترون.

فلئن استشهد فيهم واحد، أينعت أشجار الغيرة والضمير واحدا غيره. وشهداؤنا بخير كلهم، وكل عام عامهم يعمُ. أقوى من الموت وفوقهم أعلى من عوده العلمُ. أفئدة الفادين تقوى بهم، وبقاماتهم تسمو الهممُ. ولا ينامون على ظلم، ولا ينتصر فيهم الظالمون، إلا لحين. وجولة الظالم بينهم، تجول في آخرها عليه.

وفي محكمة التاريخ، فان دم الأحرار شاهد. من أول معركة للحرية شاهد. "ثورة العشرين" شاهد. جسر الأحرار شاهد. "وثبة كانون" شاهد. سقوط "معاهدة بورتسموث" شاهد. وسقوط "حلف بغداد" شاهد. وكل المشانق التي علّقها الغزاة القدامى شاهد. فما بال الحمير يكررون ما يعرفون آخره؟

لا تسأل: بماذا مات نوري السعيد، على قلة ما فعل؟ ولا بماذا تقطعت أوصال عبد الإله؟ ولا بماذا سيُسحل معراج العمائم وإسراء المتوضئين بدم ملايين الابرياء على قبلة العم سام وعلى أبواب خيبر، على كثرة ما يفعلون؟ ولكن اسأل: هل تركوا مكانا لرأفة في قلب أم؟

فقل لهم: جهزوا أكبادكم، لتشرب منها أمهات يموتنّ كل يوم على أبناء لا يعرفن في أي مشرحة سينامون؟ والدم، في آخر المطاف دم. ودمنا الرايات ما بردت، راحاته ولا هدأت حممُ. فهذا عراقٌ لا يضيع له ثأر ولا تُستبدل في محرابه الحُرَمُ.

هذا عراقٌ. وقد صار جرحا مفتوحا ينزف على مجرى نهرين.

جرحٌ يستنطقه الردى، وفمٌ يستفيض به العدمُ. فليس كثيرا ان تعود الى الجواهري لتأخذ منه درسا وتسألهم:

"أتعلمُ أم أنت لا تعلمُ،

بأن جراح الضحايا فمُ"

"فمٌ ليس كالمدعي قولةً،

وليس كآخر يسترحمُ"

"أتعلم أن جراح الشهيد،

تظلُ عن الثأر تستفهمُ"

"يقولون من هم أولاء الرعاع،

فإفهمهم بدم من همُ"

ولئن جعلوا الدم هو المعيار، فبدم سنفهمهم من نحن، والى أي جحيم سيأخذهم الدمُ.

فعلقوا المشانق، علقوا

لمليون شهيد آخر.

لمئات الآلاف من الأبرياء في سجونكم.

وجوعوا ثمانية ملايين.

وهجّروا خمسة، او عشرة، إذا شئتم.

وانهبوا.

واجعلوا من النصب حكومةً.

ومن الإمعات دولة.

"لكْ" إنهبوا، ولا تقصّروا.

واحصلوا على أوسمة عما تغتصبون من النساء.

وبدم توضأوا

وأخّروا العيد يومين أو ثلاثة لكي يناسب مواقيت المجوس

وتعمدوا في محراب صهاينة

وتناكحوا بالمتعة خلف دبابات خيبر.

وعلقوا المشانق.

"فبها يوما ستتعلقوا".

فهذا عراقٌ لا يضيع به دمٌ، ولا يستسقي الدمَ في مجاريه إلا الدمُ.

هل مات أحد من الشهداء قبل المجيد ليموت المجيد؟ هل رأيتم بسالته؟ هل سألتم من أين جاءت؟ وما الذي صنع وقفته، كالنخلة شامخا، على عتبة الأبدية؟

يا حادي الدار لأهل الدار وصلي

قدام العرش لأشهد وأصلّي

عراق الخير مقصودي ووصلي

يحلى الموت لو مر بأذية.

في تلك المحاكمة-المهزلة، كان التاريخُ شاهدَه. وكان الغزاةُ شاهدَكم. هو على قيد حرية، وأنتم على قيد عمالة.

هو على ناصية شرف، وانتم على ناصية إنحطاط. هو بإسم العراق يلهج، وانتم بإسم الطائفية.

فكان هو الذي سرق عشبة الخلود من فم الثعبان، لا العكس. فضاعت عليكم. "طيّح الله حظكم". وفي مواجهة تلك الثنائيات العصيبة، كان يكمن الفارق كله. ومن هذا الفارق، لنا من سيل الشهداء ما لا تكفي له مشانقكم.

فعلقوها، علقوا.

وارفعوا أعوادها عاليا عاليا حتى لتقطع رأس من يتأرجحون بحبالها.

فكل هذا دمٌ. لزجٌ، دبقُ. وحسنا تفعلون إذ تسبحون به. فمن دونه، بأي حق كان سيكون لنا مبرر لطلبه نهرا؟

ها أعوادها ها.

ارفعوها، وعلقوا.

فلنا في رفعها ألقٌ،

ولكم في لحدها غرقُ.

والشهيد لا يموت. يختار بنفسه ما كان من حظه ومن نصيبه. ويذهب اليه راضيا، باسما، مرضيا. وإذ يرى انه واحد من كثيرين في سوح الفداء، فيعرف ان دمه بينهم مهرٌ وموقدٌ وهلهولة، فيكون عرسا. وتكون حرية.

تطيّب جروح فوق جروح روحه

ترف بفرح بجيّته وبروحه

أحلى من العسل موته وروحه

تطلب ثار للثوار من أهل الرديّة.

 

Alialsarraf@hotmail.com

 

 

 

 

شبكة المنصور

الأحد /14 ذو الحجة 1428 هـ  الموافق 23 / كانون الأول / 2007 م