بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

 

لو كان المهاتما غاندي حيٌا لتوجٌه اليوم إلى غزة

 

 

شبكة المنصور

نقولا ناصر / كاتب عربي من فلسطين

 

 السياسة مُصرٌة على أن تلعب مع الفقر في غزة لعبة "حافة الكارثة الإنسانية" حتى تصرخ غزة طالبة الرحمة ممن لا يرحمون)

 

(عواصم التدخل الخارجي في الشأن الفلسطيني تمٌثٌل الآن دور المُراقب المُتفرٌج للتعتيم على دورها في إيصال الوضع الفلسطيني إلى ما آل إليه الآن بتسليط الأضواء على الخلافات الفلسطينية – الفلسطينية)

 

(مجموعة من المؤشرات أظهرت المنظمة والسلطة كمن يقف سلبيٌا أو مُحايدا حيال محنة غزة مما لا يبعث بالرسالة المناسبة إلى المجتمع الدولي للتدخل بفعالية لمنع وقوع الكارثة)

 

(إن مليارات الدولارات المسحوبة من جيوب دافعي الضرائب في الدول المانحة التي قُدٌمت للفلسطينيين قد ذهبت هدرا لأنها لم تستطع بالرغم من ضخامتها أن تضمن إبقاء معبر واحد مفتوحا بين إسرائيل وبين القطاع)

 

تُواجه الوطنية الفلسطينية وحقوق الإنسان العالمية امتحانا حاسما في قطاع غزة حيث تطغى الأزمة الفلسطينية المستحكمة بين قيادتي فتح وحماس على الأزمة الاقتصادية الطاحنة خاطفة في إثارتها السياسية الأنظار بعيدا عن تحوٌل الأزمة الاقتصادية المُتفاقمة إلى كارثة إنسانية . وبلا رحمة يحرص كل "اللاعبين" السياسيين الرئيسيين المسؤولين عن حصار مليون ونصف المليون فلسطيني في أكثر مناطق العالم كثافة سكانية داخل سجن في الهواء الطلق مساحته لا تزيد على 360 كيلومترا مربعا على إبقاء الكارثة الوشيكة بعيدة عن الرأي العام العربي والعالمي ، لا بل إنهم يرون فيها "نافذة فرصة" سياسية للتخلص من حركة المقاومة الإسلامية "حماس" كتنظيم وتوجٌه سياسي قد تقود إلى اختراق في التسوية السياسية بين منظمة التحرير الفلسطينية وبين إسرائيل .

 

وكان الرئيس الأميركي جورج دبليو. بوش أول من رأوا في الكارثة الإنسانية المُحدقة بالقطاع الفلسطيني المُحاصر "نافذة فرصة" وبادروا إلى استغلالها سياسيا فخلق زخما في الحراك الدبلوماسي في الشرق الأوسط كان "كعب أخيل" الكامن وراءه هو "الافتراض بأنه يمكن إحراز تقدم نحو اتفاق دبلوماسي حول مستقبل الضفة الغربية مع (الرئيس الفلسطيني) محمود عباس وحكومة (سلام) فياض بينما يجري تجاهل التطورات في قطاع غزة" ، كما كتب الإسرائيلي يورام ميتال رئيس مركز حاييم هيرتزوغ لدراسات ودبلوماسية الشرق الأوسط بجامعة بن غوريون في يديعوت أحرونوت في السادس من الشهر الجاري . وفي 8 الجاري أكدت إسرائيل تأييدها ل"رؤية" بوش الجديدة عندما أعلنت وزيرة خارجيتها تزيبي ليفني بأن "غزة تخلق تهديدا أمنيا لنا بينما الجزء الآخر الذي تُسيطر عليه الحكومة الجديدة (في الضفة الغربية) يمكن أن تخلق فرصة" .

 

وقال بوش إن نجاح عباس في الضفة الغربية "سيُوضح لجميع الفلسطينيين أن رفض العنف هو الطريق المؤكد إلى الأمن وحياة أفضل" وعزٌز بوش رسالته بحزمة معونات وعد عباس بها الشهر الماضي قيمتها 270 مليون دولار منها 80 مليونا لدعم الأجهزة الأمنية ، و 140 مليونا مخصصة أصلا لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "أونروا" بينما تُشرف الوكالة الأميركية للتنمية الدولية "يوأس إيد" على "شروط" صرف ال 50 مليون دولار الباقية . وعلٌق دانييل ليفي مُفاوض السلام الإسرائيلي السابق والزميل حاليا في "سينتشري فاونديشن" بواشنطن: "يستمر الرئيس في دعم تعميق الانقسامات بين الفلسطينيين ويُصرٌ على الشروط المُسبقة لأيٌ حلٌ على أساس الدولتين ويُظهر عدم استعداد لتوضيح مُحدٌداته لأيٌ صفقة لنهاية اللعبة الإسرائيلية الفلسطينية" .

 

وهذا هو تحديدا السبب في أن أكثر من 10 مليارات قدمتها الدول المانحة لسلطة الحكم الذاتي الفلسطينية منذ عام 2000 وأكثر من 6 مليارات دولار من معونات دافع الضرائب الأوروبي بين عامي 1993 و 2004 وما بلغ في المتوسط 350 – 450 مليون دولار سنويا بين عامي 1994 و 2000  و 650 مليون دولار سنويا منذ عام 2000 إلى عام 2007 بحيث بلغت حصة الفرد الفلسطيني السنوية من المعونات أعلى نسبة في العالم باستثناء إسرائيل وقد فُشلت جميعها في منع الطريق المسدود الذي وصلت إليه عملية السلام وبالتالي منع الانهيار الاقتصادي والسياسي والمجتمعي الذي يعيشه الوضع الفلسطيني الراهن ومنع الأزمة التي تُهدد حاليا بكارثة إنسانية في غزة . وبالرغم من أن المعونات قد أثبتت كونها ضارة أكثر من نافعة بمعزل عن اتفاق سياسي واضح فإن بوش و"اللاعبين" معه لا يرعون عن مُواصلة الحرث في البحر .

 

رسالة إلى الفلسطينيين

      

ومع ذلك يستمر أولئك "اللاعبون" في تسليط الأضواء على حركتهم السياسية ، بحجج تتراوح بين عزل "الإرهاب" وبين الأمن والشرعية والسعي من أجل سلام موهوم ويُغمضون عيونهم ، غارقين في رطانة حججهم لاستثمار "نافذة الفرصة" المُتاحة ، عن مأساوية الأزمة الاقتصادية والكارثة الإنسانية الوشيكة بينما هم على أرض الواقع في القطاع المُحاصر يعزلون قنبلة موقوتة إن انفجرت ستُفجٌر معها كل شرعية ومصداقية سياسية للأطراف المشاركة في صنعها وتُفجٌر معها أيٌ احتمال واقعي لتدارك الأزمة السياسية الفلسطينية قبل أن تتحوٌل إلى انقسام لا رجعة عنه وأيٌ مصداقية للجهود التي تقول الأطراف المُشاركة في الحصار أنها تبذلها لإحياء عملية سلام عقيمة من المؤكد أن أيٌ انفجار إنساني في غزة لن يكون إلا رصاصة رحمة لها .

 

وبينما تستمر ساعة قنبلة غزة الموقوتة في الدوران ، تُغرق وسائل الإعلام الرأي العام في مُلاحقة تفاصيل التلاسن المقيت بين طرفي الأزمة السياسية الفلسطينية وفي تحليلات لا يقرأ معظمها أحد لجدوى ومضمون لقاءات القمة نصف الشهرية بين القيادتين الفلسطينية ولإسرائيلية ، ولمؤتمر العلاقات العامة الذي اقترحه الرئيس بوش بصورة غامضة في الخريف المُقبل لإحياء عملية السلام العربية الإسرائيلية ، وللزيارة التي قامت بها وزيرة خارجيته كوندوليزا رايس للمنطقة لتسويق اقتراحه ، والزيارة التي قام بها للمنطقة المبعوث الخاص للجنة الرباعية الدولية للسلام في الشرق الأوسط رئيس الوزراء البريطاني السابق توني بلير ، وكذلك الزيارة التي وُصفت بالتاريخية لأنها كانت الأولى من نوعها التي قام بها وزير الخارجية المصري أحمد أبو الغيط لإسرائيل لعرض "مبادرة السلام العربية" على قادتها .

 

ويستهدف هذا التدافع في الحركة الدبلوماسية نقل رسالة إلى الشعب الفلسطيني تحت الاحتلال خصوصا في قطاع غزة للمقارنة بين وضعه في غزة "المُحرٌرة" لكن المعزولة سياسيا ودبلوماسيا عن العالم وحتى عن جوارها "الشقيق" المُباشر والمُحاصرة بآلة الحرب الإسرائيلية التي تسدٌ كل منفذ لها إلى الخارج وبين وضعه في الضفة الغربية حيث يُمنح الأمل في تسهيل حياته اليومية عبر حواجز الاحتلال وفي مستقبل اقتصادي واعد بعد عودة أموال الدول المانحة إلى التدفٌق وحيث يُمنح "أفقا سياسيا" باستمرار الاتصال الدبلوماسي مع العالم "المتحضر" في الخارج . وربما تُمثٌل التقارير الإعلامية عن مدينة كبرى سيجري بناؤها بين مدينتي نابلس ورام الله ، لتكون ثاني أكبر مدينة يبنيها العرب في فلسطين بعد الرملة ، خير مثال للآمال التي يجري تسويقها لإيصال هذه الرسالة إلى الشعب المنكوب بالاحتلال منذ ستين عاما .

 

لو كان المهاتما غاندي حيٌا

 

وفي خضٌم هذه الحراك الدبلوماسي الذي لا بركة فيه حتى الآن لا يُحرٌك أحد ساكنا لتسليط ولو بعض الضوء على أزمة غزٌة الإنسانية سوى تحرٌك "حركة غزة الحرٌة"  أو "حريٌة الحركة لغزة" لتنبيه الرأي العام الإقليمي والدولي إلى التهديد الكامن في وضع غزة الراهن على أمل أن يستيقظ العالم لكي ينزع فتيل القنبلة الموقوتة التي تكاد تنفجر في القطاع ، أو في "المحافظات الجنوبية" لدولة فلسطين المرجوٌة وهو المُسمٌى الذي يتفق عليه طرفا الأزمة ويختلفون على كل ما عداه .

 

وكان حوالي مائة متطوع فلسطيني وإسرائيلي وأميركي وأوروبي وإفريقي وآسيوي ، منهم أئمٌة مسلمون وحاخامات يهود ورجال دين مسيحيون وبوذيون وبرلمانيون بريطانيون وفنانون مشهورون وصحفيون معروفون دوليا وناجون من "النكبة" الفلسطينية و"الهولوكوست" النازي ، قد قرروا اختراق الحصار الإسرائيلي بالإبحار من قبرص إلى غزة على عدد من الزوارق يحمل كل منها بين 12 و 60 راكبا في موعد كان تحدٌد مبدئيا في 15 آب / أغسطس الجاري في مهمٌة مُعلنة أهدافها: (1) فتح غزة أمام العالم دون قيود على طرق الوصول إليها أيٌ "السيادة الفلسطينية" (2) إظهار أن إسرائيل ما زالت تحتل غزة بالرغم من نفيها ذلك (3) إظهار التضامن الدولي مع الشعب الفلسطيني في غزة وفي بقية فلسطين (4) إظهار جدوى الوسائل السلمية غير العنيفة . وينتمي أكثر ن 35 من مُنظمي "المشروع" إلى 13 بلدا وقد طلبوا مشورة "السلام الأخضر" وغيرها من المنظمات الدولية للدعم اللوجستي لكي يتجنبوا مخاطر المُعيقات الأمنية الإسرائيلية المُتوقٌعة .

 

في الرابع من الشهر الجاري قالت صحيفة "ديلي إينديا" الهندية إن الزعيم الروحي للاعنف في العالم و"أبو الأمة الهندية" المهاتما غاندي لو كان حيٌا لتوجٌه اليوم إلى قطاع غزة ليقف "كتفا إلى كتف مع الفلسطينيين" ، كما قال حفيده من أصغر أبنائه راجموهان ديفداس غاندي ، 72 سنة . لكن لا أحد من وزن المهاتما أو ممٌن يقلٌون عنه شأنا ، بالرغم من كثرة حاملي جائزة نوبل للسلام ، فكٌر حتى بالتوجٌه إلى غزة ، غير أن العديد من الرجال والنساء المعروفين رفعوا أصواتهم مُحذٌرين للحيلولة دون وقوع الكارثة الإنسانية التي تتفاعل حاليا في القطاع المُحاصر ، منهم الأمين العام للأمم المتحدة بان كي – مون ونائبه للشؤون الإنسانية وإغاثة الطوارئ جون هولمس ومدير نشاطات البنك الدولي في مناطق السلطة الفلسطينية بالوكالة فارس حداد – زيفروس والمُفوٌضة العامة لوكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا) الأميركية كارين أبوزيد ومديرها في غزة جون غينغ ومُنسق الأمم المتحدة الإقليمي في الشرق الأوسط مايكل وليامز وغيرهم .

 

تحذيرات وآذان صماء

 

وقد حذٌر هؤلاء من "الآثار الإنسانية القاسية" ل"الأزمة الاقتصادية" التي تتفاقم في القطاع ومن "خطر انهيار لا رجعة عنه عمليا لأساسات اقتصاد غزة" وأعلنت أبوزيد أن "اقتصاد غزة سوف ينهار ما لم تُفتح معابرها للصادرات وليس للواردات فقط" . ولاحظ غينغ أن 1.1 مليون فلسطيني هناك يعتمدون الآن على المعونات الدولية وأن موارد الأمم المتحدة يمكن أن تعجز عن مواجهة "الأزمة الإنسانية الوشيكة" وأن الهيئة الأممية علٌقت مشاريع حيوية لبناء المدارس والمساكن ومعالجة مياه الصرف الصحي بقيمة 93 مليون دولار أميركي لأن الإسمنت وغيره من مواد البناء قد نفذت من القطاع ، وأشار إلى أن هذه المشاريع تُشغٌل 121 ألف فلسطيني في منطقة لا يزيد دخل الفرد بين 80 في المائة من سكانها على دولارين في اليوم ، بينما اقتبس وليامز من بيانات البنك الدولي ليُبلٌغ مجلس الأمن الدولي مؤخرا أن 75 في المائة من مصانع القطاع قد أغلقت وأن 68 ألف وظيفة قد ضاعت منذ حزيران / يونيو الماضي . أما برنامج الغذاء العالمي التابع للأمم المتحدة فلاحظ "نُموٌا في انعدام الأمن الغذائي" في غزة بعد أن ألغت إسرائيل الكود التجاري للقطاع واحتجزت أكثر من 1300 حاوية في موانئها ممٌا قاد إلى نقص في حليب الأطفال والزيوت النباتية والإمدادات الطبية .

 

وانضمت منظمات إغاثة أيضا إلى التحذير من الكارثة الوشيكة ، مثل "أوكسفام" التي حذرت من "اليأس المتزايد للغزازوة حيث وردت تقارير عن نقص في الوقود والمياه والغذاء" وحيث "سيواجه آلاف من اللاجئين عبر غزة قطعا وشيكا للمياه وخدمات الصرف الصحي إذا لم يتم التزود بالوقود خلال الأيام والأسابيع المُقبلة" . وكانت  منظمة حقوق الإنسان الإسرائيلية "بيتسيلم" قد وجهت "نداء عاجلا من جماعات حقوق الإنسان الإسرائيلية إلى وزير الدفاع الإسرائيلي" جاء فيه: "أفتحوا حدود غزة لمنع أزمة إنسانية" . أما ليز سامس من منظمة "كير" الدولية فحذرت بأن برامج المعونات الدولية ستظل "حلما" طالما ظلت حدود القطاع مُغلقة . وفي الثالث من الشهر الجاري ذكر تقرير لمكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية في الأراضي المحتلة أن الأغلبية الساحقة من الصناعات التي تعتمد على الاستيراد قد أغلقت ولم يبق منها إلا عشرة في المائة تعمل جزئيا . وحذر هولمس ، نائب كي – مون: "إننا بحاجة لنرى جميع المعابر تعمل على الأقل كما كانت قبل 9 حزيران / يونيو وإلا فإننا نخاطر بمواجهة مصاعب اجتماعية واقتصادية وإنسانية خطيرة" .

 

وقد خلص المركز القانوني الإسرائيلي لحرية الحركة "غيشا" في تقرير له عن الوضع السائد في القطاع منذ شهرين إلى أن سياسة الحصار "تُدمٌر قطاع الأعمال وتخلق نظاما جديدا للرعاية الاجتماعية في غزة وتُحوٌل أعدادا متنامية من سكان القطاع إلى عالة على وكالات الرعاية الدولية والجمعيات الخيرية الدينية ، حيث يعيش 87 في المائة منهم اليوم تحت خط الفقر ، بينما تختفي الفرصة للعيش بكرامة وبناء مجتمع يعمل بطريقة سليمة ." واقتبست "غيشا" من رئيس اتحاد الصناعيين الإسرائيليين شراغا بروش قوله إن "المقاطعة الاقتصادية المفروضة على قطاع غزة ... سوف تقود في النتيجة إلى كارثة إنسانية وتُغذٌي ألسنة اللهب وتقود إلى تدهور الوضع الأمني ، ... وضع سيكون مُدمٌرا للاقتصاد الإسرائيلي" . 

 

وتسيطر إسرائيل سيطرة كاملة على أجواء غزة ومياهها الإقليمية وتدير غزة تجارتها الخارجية عبر الموانئ الإسرائيلية فقط من خلال خمسة معابر برية يديرها جيش الاحتلال تُعرف بأسمائها العبرية أكثر من العربية وهي إيرز وكارني وناحال عوز وصوفا وكرم سالم وقد أغلقت جميعها منذ العاشر من حزيران / يونيو الماضي بينما يعتمد 95 في المائة من صناعات غزة على المواد الخام المستوردة . وفي السادس والعشرين من الشهر الماضي طالب المجلس الاقتصادي والاجتماعي التابع للأمم المتحدة (إيكوسوك) في قرار له بعد انعقاده بجنيف إسرائيل أن تلتزم بالبروتوكول الاقتصادي المُوقٌع بين حكومتها وبين منظمة التحرير الفلسطينية .

 

أما معبر رفح بين القطاع وبين مصر ، المنفذ الوحيد لغزة إلى العالم ، فإن الأطراف الخمسة المُوقٌعة على اتفاقية فتحه العام الماضي ، وهي إسرائيل ومصر والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة وسلطة الحكم الذاتي الفلسطينية ، فقد خصصته للناس لا للتجارة ومنحت إسرائيل الدور "الأمني" كشريك خامس في إدارته وقد أُغلق بدوره مع المعابر التجارية الخمسة مما قاد إلى المأساة الإنسانية المستمرة لاحتجاز أكثر من ستة آلاف فلسطيني على الجانب المصري أغلبهم من المرضى والنساء والأطفال والمسنين مات منهم 31 إنسانا قبل أن تتفق الأطراف الخمسة على عودة بضع مئات منهم عبر معبر كرم سالم المصري – الإسرائيلي .

 

في الأول من الشهر الجاري كتب السفير الأميركي المُخضرم في المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية دنيس روس في "نيو ريبابليك" الأميركية: "لا نستطيع أن نتجاهل أن توفير المساعدات لغزة يتطلب الآن شخصا ما للتعامل مع حماس ولا حاجة لأن نكون نحن من يفعل ذلك ، لكن العزل والقطع الكامل يُمكن أن يُنتج كارثة إنسانية وإذا كنا لا نريد آخرين في المجتمع الدولي أن يشعروا بأنهم مُضٌطرين لإقامة علاقات عادية مع حماس فإننا بحاجة إلى صياغة إجماع دولي حول كيفية التعامل مع الوقائع في غزة . إن هناك حاجة لتجنب أزمة إنسانية وربما هناك حاجة للسماح في الأقل ببعض التجارة المحدودة لمنع حدوث انهيار اقتصادي كامل" .

 

غير أن كل هذه التحذيرات كما يبدو لا تقع إلا على آذان صماء أميركية وأوروبية أولا وثانيا وثالثا ثمٌ رابعا إسرائيلية وخامسا عربية وسادسا فلسطينية . وعلى سبيل المثال لم نسمع حتى الآن أي كلمة من "المقرر الخاص للحق في الغذاء" الذي عينه مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة ، السويسرية جين زيغلر ، ربما بانتظار أن تتحوٌل الأزمة الاقتصادية فعلا إلى كارثة إنسانية أو ربما  في انتظار طلب "رسمي" من دولة عضو ، أو من سلطة الحكم الذاتي الفلسطينية ، بينما يعرف المجلس مُسبقا أن السياسة مُصرٌة على أن تلعب مع الفقر في غزة لعبة "حافة الكارثة الإنسانية" حتى تصرخ غزة طالبة الرحمة ممن لا يرحمون لكي تُعلن جهة ما "حالة الطوارئ" في القطاع لإنقاذه من كارثة مُحدقة . إن الموقف السلبي للسلطة الفلسطينية التي أعلنت حالة الطوارئ لأسباب "سياسية" قبل حوالي شهرين يمنح كما يبدو المجلس وغيره من المنظمات الإنسانية عذرا كافيا لكي تبقى "غير معنية !

 

مُؤشرات سلبية تُشجٌع الاتهام بالتواطؤ

 

إن التدخل الخارجي الأميركي والأوروبي الذي تبنٌى الشروط الإسرائيلية لتوصيف من هو شريك السلام الفلسطيني قد عمٌق الانقسام الفلسطيني وحال دون نجاح حكومة الوحدة الوطنية وأجهض اتفاق مكة لتشجيع الانقلاب السياسي على نتائج الانتخابات التشريعية أوائل عام 2006 . لقد ساعدت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي بخاصة "بأقوالهما وأفعالهما" في إقناع "عناصر هامة" فلسطينية بأن "حكومة الوحدة كانت ظاهرة مؤقتة" غير أن "المفارقة تكمن في أنه كلما كانت استراتيجية تقوية عباس أكثر نجاحا كلما كان دافع حماس لإحباطها أكبر" ، طبقا لتحليل ل"مجموعة الأزمات الدولية" في الثاني من الشهر الجاري: "إنهم يأملون في إرغام حماس على الخروج أو على الاستسلام بإحراز تقدم في الضفة الغربية وبالجمود في غزة وبالضغط المتزايد من الفلسطينيين ، لكنهم مخطئون ... فطالما استمر الانقسام الفلسطيني سيظل أيٌ تقدم على أرض مُهتزٌة ، فالأمن وأيٌ عملية سلام لها مصداقية يعتمدان على حد أدنى من التوافق الفلسطيني الداخلي" .  

 

وعواصم هذا التدخل الخارجي في الشأن الفلسطيني تُمثل الآن دور المراقب المتفرج للتعتيم على دورها في إيصال الوضع الفلسطيني إلى ما آل إليه الآن بتسليط الأضواء على الخلافات الفلسطينية – الفلسطينية باعتبارها المسؤولة الأولى . وإذا كان منطقيا تحميل طرفي الخلاف مسؤولية مشتركة عن "الأزمة السياسية" التي تعذٌر حلها حتى الآن فإن تحميل حماس المسؤولية عن الأزمة الاقتصادية التي تتطور حاليا إلى كارثة إنسانية منطق مُبالغ يُجافي الحقيقة بينما عدم منح منظمة التحرير وسلطة الحكم الذاتي الأولوية لفك الحصار عن غزة لا يُعفيهما من المسؤولية أيضا .

 

قال معاون كبير لعباس هو كبير المفاوضين صائب عريقات إنه سيكون من "قصر النظر" محاولة استثمار إغلاق غزة لتحقيق كسب سياسي: "لا أحد يفكر بهذه الطريقة في مكتب عباس" ، غير أن مجموعة من المؤشرات أظهرت المنظمة والسلطة كمن يقف سلبيا أو محايدا حيال محنة غزة ، مما شجٌع بعض قيادات حماس هناك مثل وزير الخارجية السابق محمود الزهار على اتهامهما بالتواطؤ مع الحصار في تصريحات سلبية بدورها لأنها تُساهم في تأجيج التناقض الثانوي الداخلي على حساب التناقض الرئيسي مع القوة المحتلة وراعيها الأميركي . ومن هذه المؤشرات مثلا مسايرة السلطة في رام الله لإصرار إسرائيل على عدم حلٌ مأساة العالقين على معبر رفح إلا عبر معبر كرم سالم المصري الإسرائيلي بحجة حدوث سابقة لذلك قبل سيطرة حماس على غزة وعدم إعلان السلطة موقفا قاطعا وواضحا  بضرورة فتح معبر رفح .

 

وكان أحدث المؤشرات مُعارضة السلطة لمشروع بيان من مجلس الأمن الدولي يطالب إسرائيل بفتح معابر غزة صاغته قطر وإندونيسيا بحجة أن البلدين لم يستشيرا الجانب الفلسطيني مُسبقا ، في تخبط دبلوماسي أتاح أولا لوسائل الإعلام أن تُلاحظ وقوف المندوبين الفلسطيني والإسرائيلي جنبا إلى جنب في معارضة المشروع ووضعت الدبلوماسية الفلسطينية ثانيا في موقف حرج مع دولتين صديقتين اضطرت فيه إلى احتواء مضاعفات تلك المعارضة . فبينما اكتفت الدبلوماسية الفلسطينية بتصريح لناطق رسمي لتأكيد العلاقات المتينة مع قطر فإنها أرسلت وزير الخارجية السابق نبيل شعث مبعوثا خاصا للرئيس محمود عباس إلى جاكارتا حيث ناشد المجتمع الدولي المساعدة في رفع حصار غزة لأنه كما قال يدفع الفلسطينيين هناك نحو المجاعة . ماذا كان سيُضير السلطة لو احتجت لدى الدولتين على عدم استشارتها مسبقا دون ضجة ثم أيٌدت طرح المشروع لمنع تحويل معارضتها المُعلنة إلى ذريعة للمُطالبين بسحبه ؟

 

ثم إن مجمل الإجراءات التي اتخذتها السلطة في غزة لم تساعد في تخفيف معاناة الناس هناك بل زادت الطين بلٌة . فقد أوقفت عمل النائب العام وأمرت الشرطة بالتوقف عن العمل تحت إمرة حماس فتعطل تنفيذ أحكام القضاء ومنعت المحاكم المدنية من تحصيل الرسوم فتعطلت بدورها: "لماذا أمرت حكومة فياض شرطتها بعدم الالتحاق بوحداتها وهدٌدت من يقومون بواجباتهم بقطع رواتبهم ؟ إنهم يُحطٌمون القضاء" كما قال مدير المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان في غزة المحامي راجي الصوراني ل"الأهرام ويكلي" المصرية . ولم يقتصر الأمر على الشرطة ، فقد أمرت السلطة جميع موظفيها بالتوقف عن العمل مع ضمان حقوقهم وهدٌدت باتهام من يُخالف "بخرق القانون واتخاذ إجراءات قانونية وإدارية حكومية" بحقهم كما جاء في تعميم أصدرته وزارة المواصلات .

 

وقال تقرير ل"الأهرام ويكلي" بتاريخ 2 – 8 آب / أغسطس الجاري إن هذه الإجراءات وصلت "حدود العبث" . فقد غيٌرت حكومة فياض العطلة لأسبوعية إلى يومي الجمعة والسبت وظلٌت غزة تعطل يومي الخميس والجمعة ، وأربكت القطاع الصحي الحكومي عندما أمرت المستشفيات والعيادات الصحية في القطاع بعدم استيفاء رسوم خدمات من المرضى المراجعين لها حتى لا تذهب إلى خزينة حكومة اسماعيل هنية المُقالة ، التي طلبت من المرضى دفع الرسوم ، ويزيد في ارتباك الخدمات الصحية تعيين كل من الحكومتين مدراء مختلفين لكل منها يجلسون في المكتب نفسه كما هو الحال في مستشفى الشفاء بغزة مثلا . وربما لا يستطيع أهل غزة أداء فريضة الحج إلى بيت الله الحرام هذا العام لأن الحكومة في رام الله تُصرٌ على تنظيم الحجيج عبرها . كما أصبح في وسع أهالي غزة أن يقودوا سياراتهم دون ترخيص لها ولهم لأن الحكومة في رام الله أمرت بإغلاق جميع مكاتب الترخيص في القطاع . وكانت امتحانات الثانوية العامة (التوجيهي) آخر مناسبة لكي يصل العبث مداه ، فقد تأخر إعلان النتائج لأنها أُعلنت في غزة قبل الضفة دون تنسيق لاعتمادها من وزارة التربية في حكومة فياض ، مما دفع رئيس الوزراء إلى التهديد بعدم الاعتراف بها لأن حكومة هنية لا تملك الحق في إعلانها كونها حكومة "غير شرعية" ، وهذه تهمة مُتبادلة على كل حال وقد أعلنت وزيرة التربية لميس العلمي فعلا أنها لن تعترف بها ما لم تقدمها حماس لوزارتها وهو ما ترفضه الحركة الإسلامية حتى الآن .

 

إن هذه المؤشرات وغيرها لا تبعث بالرسالة المناسبة إلى المجتمع الدولي للتدخل بفعالية لمنع وقوع الكارثة في غزة لا بل إنها تبعث برسالة معاكسة إذا اقترنت بتصريحات تحريضية مثل الربط بين حماس وبين القاعدة كما فعل الرئيس عباس عندما قال دون أن يُقدم أي دليل للتلفاز الإيطالي "راي" في 10 تموز / يوليو الماضي: "نعم عبر حماس دخلت القاعدة غزة ومن خلال حماس تجري حماية القاعدة" ، أو مثلما فعل عندما أصدر مرسوما بحظر الجناح أو الأجنحة العسكرية لحماس باعتبارها تنظيمات "إرهابية" ، أو مثلما فعل عندما استخدم هذه المُقدمات مُسوٌغات للمُطالبة بنشر قوة دولية في قطاع غزة للسماح بإدخال معونات إنسانية إليه ، وكأنما حماس هي التي تمنع إدخال معونات كهذه .

 

ولو كانت مُطالبة عباس بتدخل إنساني لا عسكري دولي عبر الأمم المتحدة أو إحدى وكالاتها لمنع الكارثة الإنسانية المُحدقة بغزة فإنها ستكون أكثر جدوى في إنقاذ القطاع من ناحية وفي توفير قضية مشتركة قد تكون مدخلا لعمل فلسطيني مشترك يُعيد ما انقطع من اللحمة الوطنية ، في الأقل على أساس إنساني ، من ناحية ثانية ، كما أنها ستكون من ناحية ثالثة مُطالبة أكثر إقناعا ومُمكنة عمليٌا أكثر من مُطالبته التي تبنتها إسرائيل لاستقدام قوات أجنبية مثيرة للجدل دوليا وتوجد معارضة واسعة لها وطنيا ، إذ ستكون الأزمة الاقتصادية قد تطوٌرت إلى كارثة إنسانية قبل أن يتم أيٌ اتفاق على إرسالها بعد فوات الأوان.

 

حصار أقدم من سيطرة حماس

 

والحصار الحالي المُحكم المفروض على القطاع أقدم كثيرا من سيطرة حماس عليه وكان جزءا من الحصار الشامل على الفلسطينيين تحت الاحتلال في القطاع والضفة معا  لذلك فإنه خطأ سياسي وإعلامي الاستمرار في التجاذب بين طرفي الأزمة الفلسطينية بشكل يحجب هذه الحقيقة عن وعي الرأي العام . ففي شهر كانون الأول / ديسمبر 2006 وجهت 12 وكالة تابعة للأمم المتحدة مع 14 منظمة غير حكومية عاملة في الأراضي المحتلة نداء طوارئ لجمع مبلغ يزيد على 450 مليون دولار لمواجهة الاحتياجات الإنسانية الفلسطينية المتزايدة خلال عام 2007 .

 

لقد أحبطت إسرائيل وإدارة بوش ، خصوصا إيليوت أبرامز ، مهمة أوكلتها اللجنة الرباعية الدولية لموفدها الخاص جيمس وولفنسون قبل أشهر من "خطة الانفصال" التي أعاد رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق آرييل شلرون بموجبها انتشار قوات الاحتلال ومستوطنيه إلى خارج قطاع غزة أواسط عام 2005 بعد أن أعدٌ وولفنسون خطة لتنمية غزة لتكون نموذجا اقتصاديا للدولة الفلسطينية الموعودة وجمع لهذا الغرض ثماني مليارات دولار بل واستثمر بضعة ملايين من ماله الخاص في الدفيئات الزراعية التي خلفها المستوطنون من المستعمرات التي أخلوها في القطاع قبل أن تخذله واشنطن وتل أبيب ليستقيل "مُهانا" ، كما قال ناشط السلام الإسرائيلي يوري أفنيري في مقال له تعليقا على مقابلة لوولفنسون مع صحيفة هآرتس الشهر الماضي . وكان فتح منافذ غزة البرية مع إسرائيل ومصر وفتح ممرٌ حيوي بين غزة وبين الضفة الغربية حجر الأساس في خطته . وقال أفنيري إن الهدف من المقابلة التي منحها لهآرتس كان تحذير الإسرائيليين من أن "الزمن لا يعمل لصالحنا ، فالساعة الديموغرافية تدق" . واتهم وولفنسون ، وهو يهودي ، أبرامز علنا بإحباط خطته وحمل اللاعبين الكبار مسؤولية صعود حماس .

 

إن مليارات الدولارات المسحوبة من جيوب دافعي الضرائب في الدول المانحة التي قُدٌمت للفلسطينيين قد ذهبت هدرا لأنها لم تستطع بالرغم من ضخامتها أن تضمن إبقاء معبر واحد بين إسرائيل وبين القطاع هو كارني ، الشريان التجاري الحيوي للقطاع ، مفتوحا ، لتتحول هذه المليارات إلى أداة بيد الاحتلال لضمان تهدئة الشعب الرازح تحت الاحتلال منذ عام 1967 ولكسب الوقت لمضاعفة عدد مستعمراتها الاستيطانية وزيادة عدد مستوطنيها إلى أكثر من 450 ألفا في "المحافظات الشمالية" الفلسطينية .

 

في مقال لها نشره موقع "أونلاين جورنال" الإلكتروني في الثاني من آب / أغسطس الجاري علٌقت ليندا هيرد على المعونات الأميركية للعرب باقتباس مثل قديم يقول: "احذروا اليونانيين عندما يحملون هدايا" قائلة إن المثل يعود في أصوله إلى مسرحية فيرجيل عن حصان طروادة وأضافت إننا إذا استبدلنا كلمة "اليونانيين" في المثل القديم بكلمة "الأميركيين" فإن التحذير الذي ينطوي عليه يصبح صالحا اليوم .

 

nicolanasser@yahoo.com

 

 

 

 

شبكة المنصور

السبت / 18 / أب / 2007