بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

 

سياسة "المحورين" الأميركية تضع العرب أمام خيارات أحلاها مر

 

 

شبكة المنصور

بقلم نقولا ناصر / كاتب عربي من فلسطين

 

يجد العرب ، في الخليج بخاصة ، أنفسهم في مواجهة ضغوط عسكرية واقتصادية وسياسية تستهدف "تعريب" صراع أميركي – إيراني على الهيمنة الإقليمية لا ناقة ولا جمل للعرب فيه ، صراع تصعده واشنطن يوميا تصعيدا يضعهم في موقف حرج لم يعد ممكنا فيه "عدم الانحياز" إلى هذا الطرف أو ذاك من طرفي هذا الصراع ، أو التعاطي مع كليهما في الوقت نفسه ، تصعيدا لا يرحم فيه الطرفان من يقف على الحياد بينهما ، في أجواء وصفها مراقبون ب"حرب باردة" تكاد تزج المنطقة في "سباق للتسلح" إيراني – عربي وإيراني – إسرائيلي.

ومما يزيد في حرج الموقف العربي غياب التضامن والعمل المشترك وهي حالة أفسحت لكلا الخصمين المتصارعين ساحة عربية مفتوحة أتاحت لهما إدارة صراعهما على الأرض العربية وفي أجوائها وفوق مياها لا بل أتاحت لهما حتى استخدام وكلاء عرب في صراعهما ، وشجعت واشنطن على التجرؤ على طرح فكرة جبهة عربية – إسرائيلية ضد إيران تؤجل حسم الصراع العربي – الإسرائيلي سلما أو حربا إلى أمد غير منظور يعزز الهيمنة الأميركية ويجعل تراجع إسرائيل عن المكاسب الإقليمية التي أحرزتها خلال حروبها العدوانية وعودة جيوشها المحتلة إلى حدود الرابع من حزيران / يونيو 1967 أمرا "غير واقعي" ، كما تعهد الرئيس الأميركي جورج دبليو. بوش لرئيس الوزراء الإسرائيلي السابق المعلق حاليا بين الحياة والموت آرييل شارون في 14/4/2004 .

ومثلما كانت واشنطن ، خصوصا بعد الاحتلال الإسرائيلي لأراضي أربع دول عربية عام 1967 ، تلوح بعصاها الإسرائيلية لابتزاز العرب سياسيا للانخراط في مخططاتها الإستراتيجية في الشرق الأوسط أو اقتصاديا لتشغيل مصانع مجمع صناعاتها العسكرية ، فإنها الآن تلوح ب"الخطر الإيراني" مرة وبعصا إمكانية إحياء دور الشرطي الأميركي – الإيراني في الخليج مرة أخرى لتحقيق الأهداف نفسها إذا ما عجزت عن تغيير النظام في طهران كما فعلت في العراق .

في 29 تموز / يوليو الماضي كتب روبين رايت في الواشنطن بوست إن بوش يبعث بوزيري الدفاع والخارجية روبرتس غيتس وكوندوليزا رايس إلى الشرق الأوسط حاملين رسالة "بسيطة" إلى الأنظمة العربية: "ادعموا العراق كمنطقة عازلة ضد إيران أو واجهوا العيش في ظل طهران المتنامي ... لقد اتخذت الولايات المتحدة الآن الدور الذي كان يلعبه العراق تقليديا كموازن إقليمي لإيران" . واستدرك الكاتب أن رايس وغيتس "حول العراق سيقومان بعملية بيع صعبة" ، خصوصا في العربية السعودية حيث أثار العاهل السعودي الملك عبد الله بن عبد العزيز تلاسنا إعلاميا لم يطل بين البلدين عندما وصف الوجود الأميركي في العراق في آذار / مارس الماضي بأنه "احتلال أجنبي غير شرعي" ، واقتبس رايت من كينيث كاتزمان من خدمات أبحاث الكونغرس قوله إن "الخوف من إيران لن يكون كافيا للحصول على دعم السعوديين للعراق" لأنهم يعتقدون بأن حكومة نوري كمال المالكي في بغداد تتألف من المجموعات الطائفية المدعومة من إيران وتساعدها .

وليس للتحفظات السعودية علاقة بالاتهامات الأميركية للرياض بأنها لا تدعم واشنطن دعما كافيا في العراق أو ضد إيران بقدر علاقتها بإعادة انتشار عسكري أميركية احتمالاتها واقعية في العراق يمكن أن تتركه تحت سيطرة المليشيات والأحزاب الطائفية المدعومة من إيران ، مما سوف يعد الساحة العراقية حتما إما لتصعيد الصراع الطائفي فيه أو إلى تفكك العراق كوحدة إقليمية إلى كيانات طائفية وعرقية تحارب بعضها على النفط و"الحدود" حروبا تتسع عبر الحدود إلى جيرانها . وكان السفير الأميركي لدى الأمم المتحدة سلمان خليل زاد قد اتهم السعودية يوم الأحد الماضي: "وعددا من البلدان الأخرى بأنها لا تعمل كل ما تستطيع عمله لمساعدتنا في العراق (ونحن) نتوقع ونريد منهم مساعدتنا في هذه القضية الإستراتيجية أكثر مما يفعلون الآن" .

واشنطن تصر على "المحورين"

إن الخطة الأميركية لخلق محورين أحدهما للمعتدلين وآخر للمتطرفين في الشرق الأوسط وتأليب المحور الأول على الثاني وتعزيز الأول بحوالي 63 مليار دولار خلال السنوات العشر المقبلة (30 مليار دولار معونة عسكرية لإسرائيل بزيادة قدرها 25 في المائة على المعونات السابقة و 13 مليارا مثلها لمصر يدفعها دافع الضرائب الأميركي و 20 مليارا قيمة مبيعات عسكرية تشتريها دول مجلس التعاون الخليجي الست من فوائض مبيعاتها النفطية) لأن هذه الخطة ستعمق الانقسام الإقليمي وتطلق سباقا للتسلح على حساب التنمية في كلا المحورين وتعزز على الأرجح المحور الثاني شعبيا ، مما يصب عمليا في خدمة مبادئ وصف رامي خوري في الديلي ستار اللبنانية في الأول من آب / أغسطس الجاري الالتزام الأميركي بها ب"المقدس" وفي مقدمتها الحفاظ على التفوق الإسرائيلي العسكري على العرب مجتمعين والحفاظ على الضعف العربي كضمانة للوصول إلى نفط المنطقة ، مما يضيف "عنصر قلة حياء" إلى عقم هذه السياسات الأميركية ، كما قال خوري بحق ، لأن مثل هذه السياسة الخارجية الأميركية ما هي وصفة لتفاقم عدم الاستقرار وانعدام الأمن اللذين يعصفان بالمنطقة وشعوبها دون رحمة .

وإذا كان الحفاظ الأميركي على التفوق العسكري الإسرائيلي قد شجع الدولة العبرية على شن ستة حروب وصفتها تل أبيب بالوقائية والدفاعية والاستباقية إلى غير ذلك من مسوغات ما يصفه ضحايا هذه الحروب من العرب بالعدوان التوسعي فإن مبيعات السلاح الأميركي للعرب في مجملها لم تدفع عنهم عدوا ولم تحرر لهم أرضا محتلة وكان المستفيد الوحيد منها هو الصناعات العسكرية الأميركية . ولم تفت هذه الحقيقة على طهران في تحريضها العرب على الولايات المتحدة ، فالحكومة الأميركية: "تحاول خلق سباق تسلح زائف كي تبقي مصانع أسلحتها دائرة" كما قال مؤخرا وزير الدفاع الإيراني مصطفى محمد نجار .

وقد أعلنت واشنطن عن معوناتها ومبيعاتها العسكرية عشية الزيارة الأخيرة المشتركة لوزيري الدفاع والخارجية ، كوندوليزا رايس وروبرت غيتس ، إلى المنطقة لتسويق "سياسة المحورين" فكانت هذه المعونات والمبيعات ، بالإضافة إلى تسويق مؤتمر دولي اقترحه الرئيس جورج دبليو. بوش للسلام العربي الإسرائيلي في الخريف المقبل ، هي "الجزرة" التي حملها الوزيران ، بينما تمثلت "عصاهما" بعبور حاملة الطائرات الأميركية "إنتربرايز" قناة السويس في طريقها إلى الخليج العربي ، في تزامن مع زيارتهما كان رسالته واضحة ، لتنضم إلى حاملتي طائرات أخريين هناك حيث حشد السفن والطائرات الحربية الأميركية لا مثيل له منذ غزو العراق في سنة 2003 .

إن المؤتمر الدولي المقترح للسلام العربي الإسرائيلي لا يمثل مسعى أميركيا جادا لإحلال السلام الذي لم تفعل القوة الأميركية الأعظم أي شيء جاد لإحلاله طوال الستين عاما المنصرمة بقدر ما يمثل جهدا يندرج في سياق "سياسة المحورين" الأميركية وفي سياق مساعي واشنطن لبناء جبهة عربية إسرائيلية في مواجهة إيران . إن موافقة تل أبيب على بيع صواريخ جو – جو "ايم 9إكس" الأميركية لسلاحي الجو العربي السعودي والمصري ، في ضوء المعارضة الإسرائيلية القوية لصفقة صواريخ مماثلة وطائرات "أواكس" للرياض في ذروة الحرب العراقية – الإيرانية عام 1986 ، تلك المعارضة التي نجحت في تعديل بعض بنود تلك الصفقة ، مؤشر أكده رئيس الوزراء الإسرائيلي إيهود أولمرت حين قال: "إننا نفهم حاجة الولايات المتحدة إلى دعم الدول العربية المعتدلة وهناك حاجة إلى جبهة متحدة بين الولايات المتحدة وبيننا فيما يتعلق بإيران" .

خيارات أحلاها مر

ويجد العرب أنفسهم في موقف الخاسر سواء اقتصر الصراع الأميركي – الإيراني على العراق أم اتسع ليشمل إيران نفسها ، وسواء تطور إلى مواجهة عسكرية أم إلى اشتباك دبلوماسي يقود إلى تفاهم سياسي أم بقي صراعهما في وضعه الراهن ، لكن في جميع الأحوال يتضح الآن أن التقاء أو تضارب المصالح الأميركية – الإيرانية في العراق يوفر لواشنطن "خيارا إيرانيا" إما باتجاه المواجهة العسكرية أو باتجاه تفاهم تكتيكي نحو إدارة مشتركة مؤقتة للاحتلال حتى يتم حسم حربهما ضد عدوهما المشترك المتمثل في المقاومة الوطنية التي يتفقان على وصفها ب"الصدامية" و"التكفيرية" و"الإرهابية" ، وهذا تفاهم تكتيكي ينطوي على أمكانية واقعية للتطور نحو تفاهم استراتيجي أوصت به لجنة جيمس بيكر – لي هاملتون حول العراق وتدفع باتجاهه ليس حركة السلام الأميركية المناهضة للحرب فقط بل وقوى نافذة صانعة للقرار في واشنطن مثل الحزب الديموقراطي المسيطر على الكونغرس .

وتلعب واشنطن وطهران أوراقهما العربية بقسوة لا رحمة فيها وكل منهما يضغط لكسب المزيد من هذه الأوراق لجذب المزيد من الحلفاء العرب إليه فالأولى تضغط عليهم بحشرهم بين خيارين أحلاهما مر ، فإما الانضمام إلى جبهة ضد إيران ، يتخلون فيها عن الصراع مع إسرائيل وهي ما تزال تحتل أرضهم ، وقد تنتهي بمواجهة عسكرية سيكونون الخاسر الأول فيها وإما التلويح لهم بتفاهم إقليمي يبدأ من العراق مع إيران يعيدهم إلى دور ثانوي كان لهم في أيام الشاة في أمن إقليمهم . ولم يعد أي دور ثانوي كهذا مجديا أو مقبولا لديهم ، في الأقل لأنه لا يتفق مع مساهماتهم نفطا ومالا ودعما لوجستيا حيويا في الترتيبات الأمنية الإقليمية السابقة والراهنة والمستقبلية ، ناهيك عن كونهم في النهاية هم القوة الديموغرافية الرئيسية والرصيد الجيوبوليتيكي الأكبر لأي خطط أمنية إقليمية والمساهم الأكبر فيها والخاسر الأول من فشلها ، فإذا لم يستطيعوا أن يكونوا السادة في هكذا ترتيبات فلا أقل من أن يكونوا شركاء أندادا فيها . إن إيلاء دور ثانوي لهم لن يخدم لا مصالحهم ولا مصالح أي شركاء لهم في الأمن الإقليمي .

لقد كان العرب وفي الخليج بخاصة واقعيين دائما لأخذ المصالح المشروعة لكلا الخصمين الأميركي والإيراني في الحسبان ومنذ القطيعة الأميركية الإيرانية بعد الثورة الاسلامية عام 1979 كانوا واسطة خير ودعاة حوار بين الجانبين ، وهم الآن الأعلى صوتا في الدعوة إلى الحوار وحل الصراع بين واشنطن وبين طهران بالطرق السلمية لأنه لم يعد في وسعهم تحمل حرب رابعة في الخليج خلال أقل من ثلاثين عاما ، لكن حوارا يشملهم ولا يستثنيهم .

لقد كان الخصمان وما زالا هما المصدر الرئيسي لعدم الاستقرار وانعدام الأمن في المنطقة ولم يترددا في الماضي القريب في تصعيد النزاعات والصراعات الإقليمية إلى حروب ، فهل تحتاج إلى توثيق الحقيقة التي أصبحت معروفة الآن بأن إيران كانت المستفيد الرئيسي من تورط خصميها العراقي والأميركي في حرب الكويت عامي 1990 – 1991 أو أنها كانت المنتفع الأكبر من الغزو الأميركي للعراق عام 2003 ؟ أم هل تحتاج إلى توثيق حقيقة أن الولايات المتحدة راهنت على العداء الإيراني لنظام البعث في العراق وبالتالي راهنت على تواطؤ إيراني مع غزوها للعراق عندما أدخلت مع دبابتها وقواتها الغازية المليشيات والأحزاب المدعومة من إيران وسلمتها دفة حكم العراق تحت الاحتلال لتكون طهران أول المعترفين بهذا الحكم وبشرعيته وما تزال حتى الآن أقوى حتى من واشنطن في المطالبة بدعمه ؟

إن جولة غيتس ورايس في المنطقة وكذلك التصريحات الإيرانية الرسمية الرافضة للتفاوض حول الجزر الإماراتية الثلاث التي تحتلها وشبه الرسمية المطالبة بالبحرين كجزء من إيران تندرج في سياق هذا الصراع الأميركي – الإيراني على "الأوراق العربية" . ولا يسع العرب الذين لا يثقون في إيران تفسير تصريحاتها تلك إلا أنها مقصودة في حد ذاتها وهم الأكثرية ، غير أن قلة منهم تتعاطف مع طهران تفسرها بحسن نية كمناورة سياسية تستهدف حفز العرب على عدم تأييد أي مغامرات عسكرية ضد إيران .

ومما لا شك فيه أن تقاطع المصالح الأميركية – الإيرانية وتكاملها في العراق في إطار حافة الحرب التي تنتهجها واشنطن إنما تضع إيران في موقف المستفيد من الوضع الراهن وهو وضع يمكن أن ينقلب عليها فقط إذا اندلعت الحرب وهذا احتمال يستبعده معظم المراقبين حتى الآن . يقول نعوم تشومسكي في كتابه الجديد "تدخلات" الذي صدر خلال الشهر الماضي: "بالرغم من قرع طبول الحرب فإنني أعتقد أن إدارة بوش لن تهاجم إيران على الأرجح" لأن العالم و 75 في المائة من الأميركيين والمؤسسة العسكرية والاستخباراتية الأميركية يعارضون أي هجوم" . هكذا لا يبقى أمام الخصمين سوى الحوار .

وإيران أكثر من منفتحة على الحوار مع "شيطانها الأكبر" ، إذ ليس سرا أنها مستعدة لمبادلة وضعها المتميز الراهن في العراق ، الذي ما كانت لتحوزه لولا فضل واشنطن عليها ، وكذلك نفوذها الإقليمي ، بتفاهم مع الغرب وخصوصا مع الولايات المتحدة لأن تحقيق مثل هذا التفاهم سيكون الجائزة الأكبر للثورة الإسلامية ستضمن اعتراف الغرب وزعيمته الأميركية بالنظام الإسلامي في طهران وبشرعيته وتنهي عداء أكبر خصومه له .

وخلال جولة نادرة استغرقت 12 يوما اختتمها مؤخرا في إيران وفد "شعبي" أميركي يضم خمسة من مناهضي الحرب ، منهم فيل وايلتو وتوم بالومبو وتايلا ماديسون وآرت باربر وجيوف ميلارد ، وشملت لقاءات مع 300 من أعضاء الحرس الثوري وأئمة وطلاب ، خلص الوفد إلى استنتاجين أولهما أنه لا يوجد في إيران ما يشير إل "محور الشر المرعب" الذي تصوره وسائل الإعلام الأميركية وثانيهما أنه لا يوجد ما يشير إلى أن القيادة الإيرانية تهيئ شعبها للحرب .

صحيح أن إحساس عرب الخليج بخاصة بعدم الأمان من "سياسة المحورين" الأميركية ومن الصراع الأميركي – الإيراني لم يرق حتى الآن إلى حد الإحساس بخطر يدفعهم إلى التفكير جديا في إعادة النظر في صداقات وتحالفات عمرها عقود من الزمن مع واشنطن ، وصحيح أيضا أنه من السابق لأوانه الاستنتاج بأن المقدمات الموضوعية قد نضجت لتفاهم أميركي – إيراني استراتيجي في المنطقة ، غير أن جولتين من "الحوار" الأميركي – ألإيراني في 28 أيار / مايو و 24 تموز / يوليو الماضيين وكذلك تقاطع المصالح بين الجانبين وتكامل الأدوار بينهما في العراق طيلة السنوات الأربع المنصرمة كانت مؤشرات أضاءت الأنوار الحمراء في كثير من العواصم العربية .

قواسم مشتركة للحوار الأميركي – الإيراني

لقد انفتحت مؤخرا عدة قنوات اتصال بين واشنطن وبين طهران وكان نظام الحكم الذي تحاول الإدارة الأميركية إقامته في بغداد القناة الأولى غير المباشرة ، حيث تنقل ويتنقل رجالاته وفي مقدمتهم الرئيس جلال طالباني ورئيس الوزراء المالكي وعبد العزيز الحكيم بين العاصمتين لأسباب شتى ، وكانت لقاءات دول جوار العراق التي يحضرها مسؤولون أميركيون وإيرانيون القناة شبه المباشرة ، وكانت جولتا الحوار على مستوى السفراء في بغداد هي القناة الثالثة العلنية المباشرة . والواقعية السياسية تفترض وجود قناة سرية رابعة .

إن عقد الجولة الثانية من "الحوار" بين السفيرين رايان كروكر وحسن كاظمي قمي والتي انضم لها طرف "عراقي" ثالث هذه المرة تعني نجاحا للجولة الأولى وقد أظهرت هذه الجولة اتفاق الأطراف الثلاثة على قاسمين مشتركين الأول أن الهدف المشترك لها جميعها هو استقرار النظام الذي تحاول ترسيخه في بغداد وتعترف جميعها به كممثل شرعي للشعب العراقي والثاني أن "الإرهاب" هو العدو المشترك الذي ركز عليه المالكي في بيانه الافتتاحي ودعا الأميركيين والإيرانيين إلى الوقوف بجانب العراق ضده ، وكان يعني المقاومة الوطنية للأطراف الثلاثة لا الإرهاب الفعلي الذي تمارسه المليشيات والأحزاب المتسترة بالطائفية والمستغلة لها والمشاركة في "العملية السياسية" التي انبثقت حكومته عنها والتي تدعمها إيران بعد أن فتح الاحتلال الأميركي لها كل الأبواب لتكون كما يأمل قيادة بديلة لأي نظام وطني عراقي يستشرف عمقه العربي وامتداده الإسلامي .

كما أن اتفاق الأطراف الثلاثة التي تتقاسم حكم العراق تحت الاحتلال في جولة "حوار" بغداد الثانية على إنشاء لجنة ثلاثية من الخبراء الأمنيين ، اقترحتها طهران وقبلتها واشنطن ، يمثل اعترافا متبادلا بينها بأدوار كل منها في إدارة الاحتلال من ناحية ، وخطوة من ناحية أخرى نحو بحث ما قال كروكر إنه "طرق التقدم إلى الأمام" خلال ما قال وزير الخارجية العراقي هوشيار زيباري إنه "الجولة التالية من المحادثات ... على مستوى أعلى" وهو المستوى الذي أعلن نظيره الإيراني مانوشهر متقي بعد يومين استعداد بلاده لبحثه لكن الناطق بلسان الخارجية الأميركية سين ماكورماك استبعده "في الوقت الراهن" .

إن الأزمة السياسية التي تحاصر الإدارة الأميركية في واشنطن بسبب مأزقها العسكري والسياسي في العراق والأزمة التي شلت حكومة نوري كمال المالكي المحاصرة في المنطقة الخضراء ببغداد بسبب عجزها عن الوفاء بثمانية عشرة مطلبا أملتها عليها واشنطن ألجأت الطرفين إلى خيار الحوار مع إيران علنا حول الاعتراف بها شريكا في إدارة الاحتلال وإشراكها فعلا في جهد ثلاثي لضمان أمن الوضع السياسي المنبثق عنه .

فالرئيس الأميركي بوش المحاصر بفشل مشروعه للشرق الأوسط الكبير والجديد الذي يلفظ أنفاسه الأخيرة الآن على صخرة المقاومة الوطنية العراقية ، وبضيق الوقت الذي تبقيه له سلسلة من المواعيد آخرها موعد انتهاء ولايته في كانون الثاني / يناير 2009 ، وأولها موعد تقديم تقرير تقويم الوضع العسكري في العراق في 15 أيلول / سبتمبر المقبل ، مرورا بسلسلة المواعيد التي يحاصره بها خصومه الديموقراطيون عبر الكونغرس لإعادة نشر القوات الأميركية هناك كشرط لاستمرار الموافقة على تمويلها ، ناهيك عن الموعد الذي حدده لنفسه لنقل مسؤولية الأمن في العراق إلى "الحكومة العراقية" بحلول تشرين الأول / نوفمبر المقبل وذلك عندما أعلن إستراتيجيته "الجديدة" أوائل العام الجاري ، لجأ مؤخرا إلى "الخيار الإيراني" لينقذه من المستنقع المأساوي الذي أوقع نفسه فيه وأوقع معه الشعبان العراقي والأميركي .

والمفارقة المضحكة المبكية أن بوش سوغ اللجوء إلى هذا الخيار مثلما سوغت إيران الاستجابة له ب"طلب من الحكومة العراقية" ، التي يدرك الطرفان معا إدراكا تاما أنهما لم يتركا لها مجالا إلا لكي تستجيب للطلبات التي يمليانها عليها ، مما يذكر بموعد آخر حدده بوش لهذه الحكومة لكي تفي ب 18 مطلبا بحلول أيلول / سبتمبر المقبل ، في مقدمتها تمرير قانون النفط العراقي الجديد الذي إن أجيز فإنه سوف يقسم الثروة النفطية الوطنية على أسس طائفية وعرقية تكون قاعدة اقتصادية للتقسيم السياسي ومدخلا "قانونيا" مشرع الأبواب لإعادة السيطرة الأجنبية على هذه الثروة الحيوية . ومن هذه المطالب أيضا إجازة مشروع قانون لتعديل قانون اجتثاث البعث كمقدمة لمصالحة وطنية اعتمدها المالكي واحدة من ثلاثة أهداف لحكومته إضافة إلى إحلال الأمن وحل المليشيات ، وقد فشل حتى الآن في تحقيقها جميعها .

وهذا الفشل لحكومتي بوش والمالكي ،الذي اعترف به بوش نفسه في حديثه الإذاعي الأسبوعي يوم 14 الجاري ، وفشل إيران في ترسيخ حكم في بغداد يكرس سيطرة الأحزاب والمليشيات الطائفية الموالية لها ، تحول إلى فشل ثلاثي أفشل المشروعين الأميركي والإيراني في العراق بسبب المقاومة الوطنية العراقية أولا ، لكن أيضا بسبب تكالب أطراف الفشل الثلاثة فيما بينهم على مغانم كل منهم من غزو العراق واحتلاله ، مما قادهم إلى الاستنتاج بأن الوقت قد حان لكي ينظموا فيما بينهم عملية اقتسام المغانم وتأجيل تنافسهم العنيف عليها إلى ما بعد حسم الحرب مع عدوهم المشترك: المقاومة ، ومن هنا انعقد "الحوار" الأميركي الإيراني الثاني على مستوى السفراء .

والفشل "السياسي" في الأساس أميركي ، لأن فشل الطرفين الآخرين هو تحصيل حاصل لفشل الغزو الأميركي في تحويل الاحتلال العسكري إلى احتلال سياسي ، لأن دخولهما المعادلة العراقية أصلا كان تحصيل حاصل للنجاح الذي حققه الغزو الأميركي العسكري عام 2003 . وتأكد هذا الفشل الأميركي في تقرير من 23 صفحة أصدره مجلس الأمن القومي في 12 الجاري وخلص فيه إلى أن الاحتلال حقق "تقدما مرضيا" فقط في 8 من "المحددات" ال 18 التي حددها الكونغرس .

وبوش عندما يسوغ لجوءه إلى " الخيار الإيراني" بطلب عراقي وليس باستجابة منه لتوصيات تقرير جيمس بيكر – لي هاملتون العام الماضي ، الصادر عن مجموعة تمثل الحزبين الجمهوري والديموقراطي ، إنما يسعى إلى أن يمنح لحكومة أقامتها إدارته في بغداد لتقيم حكما فشل كلاهما في إقامته حتى الآن مصداقية تفتقدها هذه الحكومة حتى لدى إدارته نفسها ، ناهيك عن مصداقيتها لدى خصومه الديموقراطيين ولدى الرأي العام الأميركي ، وهو في ذلك مثله مثل الجاهلي الذي كان يصنع تمثالا من التمر لرب يعبده يقوله ما يريد قوله ويأكله عندما يجوع !

وحرص واشنطن وطهران على تأكيد أنهما كانتا تستجيبان فقط لطلب عراقي بالكاد يخفي "تعففهما" الظاهر عن طلب استئناف الحوار بنفسيهما ، إذ تنكشف لهفة الأولى على الحوار بموافقتها حتى على عدم تضمين جدول أعمال الجولة الثانية من الحوار في بغداد ، التي امتدت لأكثر من تسع ساعات بين السفيرين كروكر وقمي ، مصير أربعة أميركيين من أصل إيراني تحتجزهم طهران لأن "اجتماعات بغداد هي حول العراق فقط" كما قال ماكورماك .

وكان قد دار جدل ساخن داخل الإدارة الأميركية بعد جولة الحوار الأولى في أيار / مايو الماضي بين الداعين إلى "عمل عسكري" ضد إيران "قبل أن يترك بوش منصبه خلال 18 شهرا" كما قالت الغارديان البريطانية في 16 الجاري وبين دعاة الاشتباك الدبلوماسي معها بقيادة وزيرة الخارجية كوندوليزا رايس الذين نجحوا في دعوتهم كما يبدو من انعقاد جولة الحوار الثانية .

وإنها حقا لمفارقة مثيرة للسخرية أن تدعي القوتان الأجنبيتان الرئيسيتان المسؤولتان طوال السنوات الأربع الماضية عن تدمير الدولة العراقية والتفتيت الطائفي والعرقي للمجتمع العراقي وانعدام الأمن للوطن والمواطن أنهما مصممتان مع امتداداتهما المحلية على البقاء في العراق بهدف إعادة الأمن والاستقرار فيه ، فمثل هذا الادعاء المتناقض في حد ذاته ليس له إلا تفسير واحد لا شك فيه وهو أن أدوار أطرافه الثلاثة التي كانت متكاملة ، تآمرا أو تواطؤا أو نتيجة لالتقاء المصالح ، منذ الغزو قد بدأت تفترق أو تتعارض أو تصطدم مما يستدعي "تحاورها" للحيلولة دون وصولها إلى حد الصراع العنيف فيما بينها على تقاسم مغانم الاحتلال ، في الأقل إلى حين حسم الصراع مع المقاومة ، عدوها المشترك الرئيسي .

استبعاد مطلوب وابتعاد غير مبرر

وإذا كانت دوافع واشنطن وحكومة المالكي واضحة للتحاور وكانت أهدافهما المعلنة منه جلية في تناقضها فإن دوافع طهران وأهدافها ليست أقل وضوحا وتناقضا ، لكنها بالتأكيد أكثر إثارة للاستنكار العربي والإسلامي نتيجة للتأييد الواسع الذي استقبل به العرب والمسلمون الثورة الإسلامية لأنها على وجه التحديد استهدفت الهيمنة الأميركية ودعمها للمشروع الصهيوني في فلسطين ، أو هكذا قدمت نفسها لهم وما تزال ، كما ما يزال على تأييده لها قطاع كبير منهم .

إن حيثيات حوار طهران الراهن مع واشنطن يتناقض تماما مع كل أدبيات وإعلاميات الثورة الإسلامية ضد "الشيطان الأكبر" بعامة ، لكنه بصفة خاصة يتناقض تناقضا صارخا مع استمرار إعلانها معارضتها للاحتلال الأميركي للعراق ، لأن أي معارضة كهذه تستتبع بالضرورة معارضة العملية السياسية لترسيخ الاحتلال لا الانضمام إليها وتستتبع بالضرورة أيضا دعم المقاومة لا تبني تصنيف الاحتلال لها باعتبارها إرهابا ، وهذا هو بالتحديد الموقف المعلن لحليف حميم لإيران مثل حزب الله اللبناني وزعيمه السيد حسن نصر الله .

وتصبح مواقف طهران العراقية أكثر استهجانا عندما تختار "الحوار" مع القوة المحتلة في وقت عصيب لها ، ميدانيا في العراق نفسه وسياسيا في الداخل ، وتبحث فيه عن متنفس لها لكسب الوقت ، فتمنحها طهران المتنفس الذي تريده عن طيب خاطر بحجج متهافتة لا تقنع أحدا في العراق نفسه ، وفي وقت لا تخفي واشنطن أهدافها بأنها تسعى لكسب الوقت حتى تتيح لقوات احتلالها تحقيق أهدافها العسكرية في العراق .

فبعد جولة الحوار الثانية بأيام أعلن قائد قوات المارينز في واشنطن ومعه أكبر أربع قادة عسكريين في العراق معارضتهم للمطالبات الأميركية بسحب قواتهم من العراق وحثوا على توسيع الحرب حتى لو طال أمدها لسنوات . وفي اليوم نفسه الذي انعقدت فيه الجولة أعلن "صوت أميركا" عن خطة عسكرية معدلة لبقاء قوات الاحتلال في العراق لمدة عامين آخرين ، باسم "خطة الحملة المشتركة" ، وضعها القائد الأميركي في العراق ديفيد بيترايوس والسفير رايان كروكر نفسه ، الذي كان الإيرانيون "يتحاورون" معه في بغداد ، ليجري بعد اكتمال الخطة في منتصف عام 2009 ضمان الوضع الراهن الناجم عنها بقواعد أميركية دائمة كما ذكر "صوت أميركا" في 24 الشهر الماضي ، في نفس يوم انعقاد جولة "الحوار" الثانية ، نقلا عن تقرير للنيويورك تايمز .

واستخدم بوش سيطرة إيران والقاعدة على العراق إذا حدث "انسحاب متهور" لقوات الاحتلال الأميركي مسوغا لاستمرار الوجود العسكري ألأميركي وعزز حججه لذلك بخلاصة "ألعاب حربية" أجراها لصالح الجيش الأميركي الجنرال المتقاعد غاري أندرسون ونشرت مقتطفات منها الواشنطن بوست يوم 17 الشهر الماضي: "إذا انسحبت القوات الحربية الأميركية من العراق في المستقبل القريب سيقود ذلك إلى ثلاث تطورات على الأرجح: سوف تهجر الأغلبية الشيعية السنة من المناطق المختلطة عرقيا (المقصود "المختلطة طائفيا" لأن شيعة العراق وسنته عربا) غربا نحو محافظة الأنبار ، وستندلع حرب أهلية بين المجموعات الشيعية في الجنوب العراقي ، وسيعزز الشمال الكردي حدوده ويدعو قوات أميركية إلى هناك . بإيجاز ، سيتحول العراق إلى ثلاث دول منفصلة عن بعضها" .

وتسوق إيران حججا مماثلة لاستمرار دورها القيادي في العراق المحتل وتضيف إليها أن سحب "نفوذها" منه سيأتي بنظام أكثر تهديدا لجيرانه من نظام البعث الذي كان يقوده الراحل صدام حسين . ومن الواضح أن طهران استظلت بالاحتلال الأميركي لمواصلة الحرب العراقية الإيرانية ، التي أوقف قرار لمجلس الأمن الدولي القتال فيها عام 1988 لكن البلدين لم يوقعا حتى الآن أي اتفاق للسلام بينهما ، حتى تحقق أجندتها الخاصة بإقامة نظام "صديق" لها في بغداد .

ومن المنطقي تماما أن يقود استبعاد العرب عن "الحوار" حول مستقبل العراق إلى تخوفهم من أن يقود أي تفاهم إيراني أميركي هناك إلى تفاهم إقليمي أوسع بمعزل عنهم يعيد إحياء دور الشرطي الأميركي – الإيراني المشترك في الخليج الذي كان قائما في عهد الشاه قبل أن تحوله الثورة الإسلامية ومعه الشاة إلى تاريخ . وإذا كانت واشنطن لا تريد أي شركاء لها في المنطقة بكاملها وليس في الخليج فقط فإن طهران تبدو متلهفة على شراكة كهذه . ففي الثلاثين من حزيران / يونيو الماضي نقلت آسيا تايمز عن محمد جواد لاريجاني ، شقيق رئيس المجلس الأعلى للأمن الوطني علي لاريجاني قوله: "يجب ألا نتفاوض حول العراق فقط" ودعوته إلى توسيع "الحوار" مع الأميركيين ليشمل قضايا أوسع مثل أفغانستان وأمن "الخليج الفارسي" والتوترات في الشرق الأوسط . لكن وكالة أنبا "فارس" في 22 الشهر الماضي نقلت عن مسؤول في الخارجية رفض إيران لبحث أفغانستان في جولة "الحوار" الثانية كما طالب سلمان خليل زاد سفير واشنطن لدى الأمم المتحدة .

لكن بالرغم من هذه المخاوف العربية فإن وزراء الخارجية العرب بعد اجتماعهم الأخير مع نظيرتهم الأميركية رايس تعففوا عن "التدخل" في العراق ودعوا غيرهم ممن يتدخلون أن يكفوا عن تدخلهم ، بينما كان وزير خارجية الحكومة التي تطالبهم واشنطن بدعمها في بغداد ، زيباري ، يدافع عن التدخل الإيراني هناك بقوله للإينديبندنت البريطانية عشية جولة الحوار الثانية إن"إيران لاعب في العراق" وينبغي أن تشارك في الحوار . ولم يسبق أن صدر عن حكومة المالكي أي تصريح مماثل يمنح دورا ولو ندا للدور الإيراني لأي دولة عربية مجاورة أو غير مجاورة .

وربما ينبغي على الجيران العرب أن يؤهلوا أنفسهم أكثر لكي يكونوا لاعبين ، على الطريقة الإيرانية ، في العراق ، في الأقل حتى يتقوا شرور مضاعفات التطورات العراقية عليهم ، إن لم يكن لأن البلد الشقيق المحتل عضو مؤسس للجامعة التي تضم دولهم ولأن شعبه في أغلبيته الساحقة جزء من الأمة التي ينتمون إليها . أما استبعادهم أو الابتعاد بأنفسهم عن تقرير مستقبل العراق إلا فيما يتعلق ب"دعم" الوضع الراهن فيه فإنه يلبي أولا مطلبا أميركيا وآخر إيرانيا وثالثا ما يطالب به المستفيدون من غيابهم والمتضررون من حضورهم .

nicolanasser@yahoo.com

 

 

 

 

شبكة المنصور

الاحد / 05 / أب / 2007