بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

 

ثلاثية خيار بوش الإيراني

إن الاتفاق على إنشاء لجنة أمنية أميركية – إيرانية – عراقية مشتركة يمثل اعترافا متبادلا بين الأطراف الثلاثة التي تتقاسم حكم العراق بأدوار كل منها في إدارة الاحتلال

 

 

شبكة المنصور

بقلم نقولا ناصر

 

إن الأزمة السياسية التي تحاصر الإدارة الأميركية في واشنطن بسبب مأزقها العسكري والسياسي في العراق والأزمة التي شلت حكومة نوري كمال المالكي المحاصرة في المنطقة الخضراء ببغداد بسبب عجزها عن الوفاء بثمانية عشرة مطلبا أملتها عليها واشنطن ألجأت الطرفين إلى خيار الحوار مع إيران علنا حول الاعتراف بها شريكا في إدارة الاحتلال وإشراكها فعلا في جهد ثلاثي لضمان أمن الوضع السياسي المنبثق عنه .

فالرئيس الأميركي جورج دبليو. بوش المحاصر بفشل مشروعه للشرق الأوسط الكبير والجديد الذي يلفظ أنفاسه الأخيرة الآن على صخرة المقاومة الوطنية العراقية ، وبضيق الوقت الذي تبقيه له سلسلة من المواعيد آخرها موعد انتهاء ولايته في كانون الثاني / يناير 2009 ، وأولها موعد تقديم تقرير تقويم الوضع العسكري في العراق في 15 أيلول / سبتمبر المقبل ، مرورا بسلسلة المواعيد التي يحاصره بها خصومه الديموقراطيون عبر الكونغرس لإعادة نشر القوات الأميركية هناك كشرط لاستمرار الموافقة على تمويلها ، ناهيك عن الموعد الذي حدده لنفسه لنقل مسؤولية الأمن في العراق إلى "الحكومة العراقية" بحلول تشرين الأول / نوفمبر المقبل وذلك عندما أعلن إستراتيجيته "الجديدة" أوائل العام الجاري ، لجأ مؤخرا إلى "الخيار الإيراني" لينقذه من المستنقع المأساوي الذي أوقع نفسه فيه وأوقع معه الشعبان العراقي والأميركي .

والمفارقة المضحكة المبكية أن بوش سوغ اللجوء إلى هذا الخيار مثلما سوغت إيران الاستجابة له ب"طلب من الحكومة العراقية" ، التي يدرك الطرفان معا إدراكا تاما أنهما لم يتركا لها مجالا إلا لكي تستجيب للطلبات التي يمليانها عليها ، مما يذكر بموعد آخر حدده بوش لهذه الحكومة لكي تفي ب 18 مطلبا بحلول أيلول / سبتمبر المقبل ، في مقدمتها تمرير قانون النفط العراقي الجديد الذي إن أجيز فإنه سوف يقسم الثروة النفطية الوطنية على أسس طائفية وعرقية تكون قاعدة اقتصادية للتقسيم السياسي ومدخلا "قانونيا" مشرع الأبواب لإعادة السيطرة الأجنبية على هذه الثروة الحيوية . ومن هذه المطالب أيضا إجازة مشروع قانون لتعديل قانون اجتثاث البعث كمقدمة لمصالحة وطنية اعتمدها المالكي واحدة من ثلاثة أهداف لحكومته إضافة إلى إحلال الأمن وحل المليشيات ، وقد فشل حتى الآن في تحقيقها جميعها .

وهذا الفشل لحكومتي بوش والمالكي ،الذي اعترف به بوش نفسه في حديثه الإذاعي الأسبوعي يوم 14 الجاري ، وفشل إيران في ترسيخ حكم في بغداد يكرس سيطرة الأحزاب والمليشيات الطائفية الموالية لها ، تحول إلى فشل ثلاثي أفشل المشروعين الأميركي والإيراني في العراق بسبب المقاومة الوطنية العراقية أولا ، لكن أيضا بسبب تكالب أطراف الفشل الثلاثة فيما بينهم على مغانم كل منهم من غزو العراق واحتلاله ، مما قادهم إلى الاستنتاج بأن الوقت قد حان لكي ينظموا فيما بينهم عملية اقتسام المغانم وتأجيل تنافسهم العنيف عليها إلى ما بعد حسم الحرب مع عدوهم المشترك: المقاومة ، ومن هنا انعقد "الحوار" الأميركي الإيراني الثاني على مستوى السفراء في بغداد يوم 24 الجاري الذي شاركت فيه حكومة المالكي هذه المرة بعد أن كان ثنائيا في جولته الأولى في 28 أيار / مايو الماضي .

والفشل "السياسي" في الأساس أميركي ، لأن فشل الطرفين الآخرين هو تحصيل حاصل لفشل الغزو الأميركي في تحويل الاحتلال العسكري إلى احتلال سياسي ، لأن دخولهما المعادلة العراقية أصلا كان تحصيل حاصل للنجاح الذي حققه الغزو الأميركي العسكري عام 2003 . وتأكد هذا الفشل الأميركي في تقرير من 23 صفحة أصدره مجلس الأمن القومي في 12 الجاري وخلص فيه إلى أن الاحتلال حقق "تقدما مرضيا" فقط في 8 من "المحددات" ال 18 التي حددها الكونغرس .

وبوش عندما يسوغ لجوءه إلى " الخيار الإيراني" بطلب عراقي وليس باستجابة منه لتوصيات تقرير جيمس بيكر – لي هاملتون العام الماضي ، الصادر عن مجموعة تمثل الحزبين الجمهوري والديموقراطي ، إنما يسعى إلى أن يمنح لحكومة أقامتها إدارته في بغداد لتقيم حكما فشل كلاهما في إقامته حتى الآن مصداقية تفتقدها هذه الحكومة حتى لدى إدارته نفسها ، ناهيك عن مصداقيتها لدى خصومه الديموقراطيين ولدى الرأي العام الأميركي ، وهو في ذلك مثله مثل الجاهلي الذي كان يصنع تمثالا من التمر لرب يعبده يقوله ما يريد قوله ويأكله عندما يجوع !

والتقطت حكومة المالكي حاجة بوش الماسة إلى مخرج مؤقت يكسبه بعض الوقت للمناورة والالتفاف حول سلسلة المواعيد التي تحاصره لكي تناور بدورها كسبا لوقت تأمل في أن يجعلها تتجاوز سالمة الموعد الذي حدده الرئيس الأميركي لها للوفاء ب"محدداته" خلال أقل من شهرين، فتصدرت الدعوة إلى عقد الجولة الثانية من الحوار الإيراني الأميركي باعتبارها "مطلبا عراقيا" ضاربة بذلك عصفورين بحجر واحد ، فهي أولا جنبت طرفي الحوار حرج المطالبة باستئنافه ثم هي ثانيا وفرت مناسبة دبلوماسية تأمل في أن تتمخض في الأقل عن تفاهم أميركي إيراني ربما يكون خشبة النجاة للعملية السياسية التي تتصدرها والتي يعتمد على نجاحها أو فشلها نجاح المشروعين الأميركي والإيراني في العراق وبالتالي بقاؤها هي نفسها في الحكم المحاصر في بغداد باعتبارها العنوان الظاهري لكلا المشروعين .

لذلك قام الرئيس جلال طالباني بزيارة طهران أواخر حزيران / يونيو الماضي وبعد أن اجتمع مع الزعيم الروحي آية الله سيد علي خامنئي والرئيس محمود أحمدي نجاد ووزير الخارجية مانوشهر متقي أعلن "شكره" لإيران لأنها قبلت "المسعى" العراقي لاستئناف الحوار مع الولايات المتحدة ، وجاراه متقي بقوله لوكالة الأنباء الإيرانية "إيرنا" وهو يودعه في مطار طهران - مهرآباد الدولي: "قدم المسؤولون العراقيون الطلب وأكدنا لهم أننا سوف ندرس طلبهم بايجابية بعد أن ترد الولايات المتحدة عليه" ، لا بل إن المبالغة دفعت بوزير الخارجية العراقي هوشيار زيباري أن يقول لرويترز في الأول من تموز / يوليو الجاري إن حكومته كانت "تضغط" على البلدين لعقد جولة ثانية من المحادثات في بغداد ، أما سفيره في طهران ، محمد ماجد الشيخ ، فإنه كشف دون أن يقصد مدى لهفة طهران على هذا الحوار عندما شكر عبر وكالة أنباء "مهر" بعد يومين المسؤولين الإيرانيين لأنهم لم يضعوا "أي شرط مسبق" لاستئنافه .

وحرص واشنطن وطهران على تأكيد أنهما كانتا تستجيبان فقط لطلب عراقي بالكاد يخفي "تعففهما" الظاهر عن طلب استئناف الحوار بنفسيهما ، إذ تنكشف لهفة الأولى على الحوار بموافقتها حتى على عدم تضمين جدول أعمال الجولة الثانية من الحوار في بغداد ، التي امتدت لأكثر من تسع ساعات بين السفيرين رايان كروكر وحسن كاظمي قمي ، مصير أربعة أميركيين من أصل إيراني تحتجزهم طهران لأن "اجتماعات بغداد هي حول العراق فقط" كما قال الناطق بلسان الخارجية الأميركية سين ماكورماك .

إن اتفاق الأطراف الثلاثة التي تتقاسم حكم العراق تحت الاحتلال في جولة "حوار" بغداد الثانية على إنشاء لجنة ثلاثية من الخبراء الأمنيين ، اقترحتها طهران وقبلتها واشنطن ، يمثل اعترافا متبادلا بينها بأدوار كل منها في إدارة الاحتلال من ناحية ، وخطوة من ناحية أخرى نحو بحث ما قال كروكر إنه "طرق التقدم إلى الأمام" خلال ما قال زيباري إنه "الجولة التالية من المحادثات ... على مستوى أعلى" وهو المستوى الذي أعلن نظيره الإيراني متقي بعد يومين استعداد بلاده لبحثه .

وكان قد دار جدل ساخن داخل الإدارة الأميركية بعد جولة الحوار الأولى في أيار / مايو الماضي بين الداعين إلى "عمل عسكري" ضد إيران "قبل أن يترك بوش منصبه خلال 18 شهرا" كما قالت الغارديان البريطانية في 16 الجاري وبين دعاة الاشتباك الدبلوماسي معها بقيادة وزيرة الخارجية كوندوليزا رايس الذين نجحوا في دعوتهم كما يبدو من انعقاد جولة الحوار الثانية .

وقد أظهرت هذه الجولة اتفاق الأطراف الثلاثة على قاسمين مشتركين الأول أن الهدف المشترك لها جميعها هو استقرار النظام الذي تحاول ترسيخه في بغداد وتعترف جميعها به كممثل شرعي للشعب العراقي والثاني أن "الإرهاب" هو العدو المشترك الذي ركز عليه المالكي في بيانه الافتتاحي ودعا الأميركيين والإيرانيين إلى الوقوف بجانب العراق ضده ، وكان يعني المقاومة الوطنية للأطراف الثلاثة لا الإرهاب الفعلي الذي تمارسه المليشيات والأحزاب المتسترة بالطائفية والمستغلة لها والمشاركة في "العملية السياسية" التي انبثقت حكومته عنها والتي تدعمها إيران بعد أن فتح الاحتلال الأميركي لها كل الأبواب لتكون كما يأمل قيادة بديلة لأي نظام وطني عراقي يستشرف عمقه العربي وامتداده الإسلامي .

وإنها حقا لمفارقة مثيرة للسخرية أن تدعي القوتان الأجنبيتان الرئيسيتان المسؤولتان طوال السنوات الأربع الماضية عن تدمير الدولة العراقية والتفتيت الطائفي والعرقي للمجتمع العراقي وانعدام الأمن للوطن والمواطن أنهما مصممتان مع امتداداتهما المحلية على البقاء في العراق بهدف إعادة الأمن والاستقرار فيه ، فمثل هذا الادعاء المتناقض في حد ذاته ليس له إلا تفسير واحد لا شك فيه وهو أن أدوار أطرافه الثلاثة التي كانت متكاملة ، تآمرا أو تواطؤا أو نتيجة لالتقاء المصالح ، منذ الغزو قد بدأت تفترق أو تتعارض أو تصطدم مما يستدعي "تحاورها" للحيلولة دون وصولها إلى حد الصراع العنيف فيما بينها على تقاسم مغانم الاحتلال ، في الأقل إلى حين حسم الصراع مع المقاومة ، عدوها المشترك الرئيسي .

وإذا كانت دوافع واشنطن وحكومة المالكي واضحة للتحاور وكانت أهدافهما المعلنة منه جلية في تناقضها فإن دوافع طهران وأهدافها ليست أقل وضوحا وتناقضا ، لكنها بالتأكيد أكثر إثارة للاستنكار العربي والإسلامي نتيجة للتأييد الواسع الذي استقبل به العرب والمسلمون الثورة الإسلامية لأنها على وجه التحديد استهدفت الهيمنة الأميركية ودعمها للمشروع الصهيوني في فلسطين ، أو هكذا قدمت نفسها لهم وما تزال ، كما ما يزال على تأييده لها قطاع كبير منهم .

إن حيثيات حوار طهران الراهن مع واشنطن يتناقض تماما مع كل أدبيات وإعلاميات الثورة الإسلامية ضد "الشيطان الأكبر" بعامة ، لكنه بصفة خاصة يتناقض تناقضا صارخا مع استمرار إعلانها معارضتها للاحتلال الأميركي للعراق ، لأن أي معارضة كهذه تستتبع بالضرورة معارضة العملية السياسية لترسيخ الاحتلال لا الانضمام إليها وتستتبع بالضرورة أيضا دعم المقاومة لا تبني تصنيف الاحتلال لها باعتبارها إرهابا ، وهذا هو بالتحديد الموقف المعلن لحليف حميم لإيران مثل حزب الله اللبناني وزعيمه السيد حسن نصر الله .

وتصبح مواقف طهران العراقية أكثر استهجانا عندما تختار "الحوار" مع القوة المحتلة في وقت عصيب لها ، ميدانيا في العراق نفسه وسياسيا في الداخل ، وتبحث فيه عن متنفس لها لكسب الوقت ، فتمنحها طهران المتنفس الذي تريده عن طيب خاطر بحجج متهافتة لا تقنع أحدا في العراق نفسه ، وفي وقت لا تخفي واشنطن أهدافها بأنها تسعى لكسب الوقت حتى تتيح لقوات احتلالها تحقيق أهدافها العسكرية في العراق .

فبعد جولة الحوار الثانية بأيام أعلن قائد قوات المارينز في واشنطن ومعه أكبر أربع قادة عسكريين في العراق معارضتهم للمطالبات الأميركية بسحب قواتهم من العراق وحثوا على توسيع الحرب حتى لو طال أمدها لسنوات . وفي اليوم نفسه الذي انعقدت فيه الجولة أعلن "صوت أميركا" عن خطة عسكرية معدلة لبقاء قوات الاحتلال في العراق لمدة عامين آخرين ، باسم "خطة الحملة المشتركة" ، وضعها القائد الأميركي في العراق ديفيد بيترايوس والسفير رايان كروكر نفسه ، الذي كان الإيرانيون "يتحاورون" معه في بغداد !


nicolanasser@yahoo.com

 

 

 

 

شبكة المنصور

الخميس / 02 / أب / 2007