بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

 

نعومي كلاين وصعود رأسمالية الكارثة : عقيدة الصدمة

 

 

شبكة المنصور

دجلـــة وحيـــد

 

شاهدت قبل عدة ايام مقابلة تلفزيونية مطولة مع الكاتبة والصحفية الإستقصائية الكندية نعومي كلاين حول كتابها الجديد عقيدة الصدمة: "صعود رأسمالية الكارثة" الذي تتحدث فيه عن تاريخ السوق الحرة المعاصر الذي كتب على شكل صدمات. تجادل نعومي كلاين بأن "البعض من إنتهاكات حقوق الإنسان الأكثر سوءا في السمعة التي أقترفت في السنوات الخمسة والثلاثون الماضية، التي أعتبرت كفعل سادي نفذت من قبل أنظمة مضادة للديموقراطية، في الحقيقة أنها أرتكبت إما بنية متعمدة لإرهاب الجمهور أو سخرت بشكل فعال لتهيئة الأرض لإدخال إصلاحات السوق الحرة الجذرية". ذكرت نعومي كلاين في حديثها البعض من هذه الأحداث والصدمات التي كان لها أثر تغييري كبير في العالم مثل إنقلاب أوغستو بينوشية الذي أدى الى إزاحة نظام سلفادور إيندي في تشيلي في 11/9/1973، مذبحة ساحة تيامين في العاصمة الصينية بكين عام 1989، إنهيار الإتحاد السوفيتي عام 1991،  أحداث الحادي عشر من سبتمبر/أيلول عام 2001، غزو وإحتلال العراق عام 2003، إعصار التسونامي الأسيوي في 2004، وإعصار كاتارينا الذي ضرب نيوأورلينس عام 2005. 

سبب كتابتي لهذا المقال هو نيتي نقل جوهر فكرة كتاب الكاتبة والصحفية الإستقصائية نعومي كلاين الى القارئ العربي، في أي مكان من وطننا العربي الكبير، ومحاولة ربط أفكارها بالأحداث والمتغيرات في ساحة وطننا المغتصب وعلاقة هذه المتغيرات بالتخطيط  المبدئي لإحتلال العراق وتغيير نظامه السياسي الوطني وبناه التحتية وإستبدال نظامه الإقتصادي ليناسب طموحات الشركات الإحتكارية الأمريكية كخطوة من خطوات نشر العولمة وهيمنة السوق الحرة في التعامل التجاري والسيطرة على العالم وبناء الإمبيراطورية الإقتصادية الأمريكية ونهب خيرات الشعوب المستعبدة.  

قال الإقتصادي المشهور ميلتون فريدمان الحائز على جائزة نوبل مرة بأن "الأزمة فقط تنتج تغيير حقيقي". عندما تحدث تلك الأزمة، فإن الأعمال أو الأفعال التي تنفذ خلالها تعتمد على الأفكار التي تنشر الكذب في كل مكان. نعومي كلاين تفحص البعض من هذه الأفكار التي تعتبرها أكثر خطورة في أفكار فريدمان الإقتصادية وتعري كيف أن أحداث الكوارث تكون مربحة جدا للشركات الإحتكارية الكبرى وفي نفس الوقت إيضا تسمح للحكومات الترويج الى ما دعته بـ "راسمالية الكارثة". 

تربط نعومي كلاين أواصر علاقة التطور التكنولوجي في علوم طرق العلاجات الطبية في العقد الرابع من القرن الماضي - ومنها تطوير الأدوية والعقاقير وإستعمال الصدمة الكهربائية في علاج الأمراض النفسية والخلل العقلي عند المرضى - بإستخدام تلك الطرق العلاجية التيكنولوجية لغسل عقول المرضى وتطويعهم ومن ثم إعادة صياغة شخصياتهم للسيطرة على سلوكياتهم العامة. جذبت هذه التطورات التيكنولوجية في العقد الخامس من القرن الماضي إنتباه وكالة المخابرات المركزية الأمريكية التي مولت سلسلة من هذه التجارب والتي نتج عنها كتيب سري حول كيفية تحطيم إراد السجناء. الهدف الرئيسي لإستعمال طريقة الصدمة التي تسبب إرتداد الشخصية هو تحويل شخصية الشخص البالغ الى شخصية طفل التي يمكن خضوعها وتسيرها حسب الهدف المبتغى الذي يراد تحقيقه. إضافة الى ذلك، عندما يعتقل أي إنسان ويعزل فإنه يتحسس بمشاعر الصدمة الحادة، عدم الأمان وإجهاد نفسي، وكذلك عندما يوقض من نومه بوقاحة وعنف ويعصب ويقيد فورا فإنه يستمر بنفس الشعور. يجب أن تدام العزلة، جسديا ونفسيا، من لحظة مسك المعتقل وذلك لإضعاف قدرته على المقاومة بواسطة الإرباك.  تستعمل هذه الطرق لتليين المعتقل قبل إستجوابه وجوهر الفكرة هي منع المعتقل من الإرتياح والتعافي من الصدمة. الصدمة تنهك القوى النفسية والجسدية للمعتقل لكنها حالة مؤقتة وإن أفضل طريقة للبقاء متكيفا وفقا للظروف لمقاومة أثر الصدمة هي معرفة ما يجري ولماذا.  

التقنيات المستحدثة التي تؤثر على نفسية الإنسان لا تعمل فقط على الأفراد بل أيضا تستطيع التأثير على كل المجتمع، أمثلة على ذلك هي الأحداث التي تؤدي أو تسبب صدمة جماعية مثل الحروب والإنقلابات العسكرية، الكوارث الطبيعية أو هجوم إرهابي كبير يخلق حالة من الذعر العام في المجتمع. نتائج هذه الصدمات على المجتمع لها تأثير مشابه لما يعانيه السجين في غرفة الإستجواب حين تعرضه الى صدمة كهربائية أو تعذيب نفسي أو جسدي حيث أن المجتمع يصبح مثل الطفل أكثر ميولا لإتباع القادة الذين يدعون حماية المجتمع من المخاطر.  

تقول نعومي كلاين هناك شخص واحد فهم هذه الظاهرة مبكرا وهذا الشخص هو ميلتون فريدمان. فريدمان آمن برؤية راديكالية للمجتمع التي فيها الربح والسوق يقودان كل سمة من سمات الحياة، من المدارس الى الرعاية الصحية، حتى الجيش. دعا الى إلغاء كل الحمايات على التجارة، تحرير كل الأسعار وإضعاف الخدمات العامة. كانت هذه الأفكار دائما مكروهة جدا وغير مستحسنة لأنها تؤدي الى حدوث موجات البطالة، إرتفاع الأسعار وتجعل الحياة صعبة ومزعجة للملايين من الناس. كان فريدمان وأتباعه غير قادرين على إرتقاء أجنداتهم ديموقراطيا، فهم لذا إلتجئوا الى مبدأ قوة الصدمة.    

تقول نعومي كلاين، فهم فريدمان هذه العلاقة، وكما في حالة تليين السجناء والمعتقلين بواسطة المعاملة السيئة وأثر صدمة الإعتقال عليهم وهم في طريقهم الى غرفة الإستجواب فإن صدمة الكوارث الهائلة يمكن أن تليننا لتقبل ترويجه لحملته "السوق الحرة الراديكالية". نصح فريدمان السياسيون بأن بعد أي أزمة أو كارثة يجب عليهم تسويق كل أجندات سياساتهم المؤلمة حالا وفورا، قبل أن يتمكن الناس من إستعادة وعيهم وموطئ قدمهم. سمى هذه الطريقة "معالجة صدمة إقتصادية" بينما نعومي كلاين أطلقت عليها إسم "عقيدة الصدمة". هذا هو التاريخ السري للسوق الحرة. لم يولد في حضن الحرية والديموقراطية، لكنه ولد في خضم الصدمة.  

 

من هو ميلتون فريدمان الذي تحاجج أفكاره نعومي كلاين؟

 

وصف ميلتون فريدمان - الذي توفي في العام الماضي - بصورة مسرفة على أنه من المحتمل أن يكون المثقف الأكثر أهمية لفترة ما بعد الحرب العالمية الثانية وليس فقط الإقتصادي الأكثر أهمية. من كتبه المشهورة جدا "الرأسمالية والحرية". درس في جامعة شيكاغو وبعدها أصبح أستاذا فيها وتدرب على يد أحد رواد السوق الحرة الراديكاليين الإقتصاديين في عصرنا وهو فريدريك فون هاييك. كان لميلتون فريدمان تأثير هائل في السياسة الإقتصادية الدولية ووصف بأنه كارل ماركس الرأسمالية. عمل كمستشار لرئيسة الوزراء البريطانية مارغريت ثاتشر، للرئيسين الأمريكيين الأسبقين ريتشارد نيكسون ورونالد ريغان وكذلك عمل مستشارا لإدارة المجرم جورج بوش الصغير. ميلتون فريدمان درس ودرب أيضا وزير الدفاع الأمريكي السابق المجرم دونالد رامسفيلد في أوائل مسيرته المهنيه وجورج شولتز وزير خارجية الولايات المتحدة في عهد الرئيس رونالد ريغان، وأعطى أيضا النصائح للديكتاتور التشيلي أوغستو بينوشية بعد الإطاحة بالرئيس سلفادور أيندي في بداية العقد السابع من القرن الماضي، وللحزب الشيوعي الصيني في فترة الإصلاحات الإقتصادية في أوائل ثمانينيات القرن العشرين. كان يمتلك رؤية خاصة للمجتمع التي فيها الدور الوحيد الذي يمكن أن تلعبه الدولة أو الحكومة هو أن تؤكد على فرض العقود وحماية الحدود، كل شيئ آخر يجب تركه بالكامل للسوق سواء كان ذلك التعليم، الحدائق العامة، دوائر البريد، كل شيئ يمكن أن يؤدي الى ربح يجب تركه الى السوق، وكان يعتقد بأن البيع والشراء هو شكل من أشكال السمات العليا للديموقراطية. 

تقول نعومي كلاين، كلنا عولجنا، بعد وفاة ميلتون فريدمان، لإعادة رواية النسخة الرسمية حول الكيفية التي من خلالها هيمنت أفكار السوق الحرة الراديكالية على العالم، كيف إكتسحت دول الإتحاد السوفيتي السابق، أمريكا اللاتينية وأفريقيا، وكيف إنتصرت هذه الأفكار خلال الخمس والثلاثون عاما الماضية. تقول كنت متعجبة لأننا لم نسمع أي شيئ عن العنف، ولم نسمع عن الأزمات ولم نسمع ابدا أي شيئ عن الرعب والصدمات. القصة الرسمية تقول بأن هذه الأفكار إنتصرت لأننا أردنا لها أن تنتصر. جدار برلين سقط وأخذ الناس يطالبون بقسطهم من همبوركر ماكدونالد الكبير (بيجماك) سوية مع ديموقراطيتهم. القصة الرسمية لصعود وإنتصار فكرة السوق الحرة تمر عبرة مقولة مارغريت ثاتشر "ليس هناك بديل" الى مقولة فرانسز فوكاياما "لقد إنتهى التاريخ، الراسمالية والحرية يسيران يد بيد". لكن في الحقيقة أن كل المدافعين ذوي المستوى العالي جدا والمروجين لإقتصاد السوق الحرة من أمثال ميلتون فريدمان وغيره إعترفوا - ليس علنا - بأن ما سبق لهم أن كانوا قادرين على إحداث تغيير سوق حرة جذري في غياب أزمة واسعة النطاق. بمعنى آخر أن الإسطورة المركزية في عصرنا هذا بأن الديموقراطية والرأسمالية تسيران يد بيد ماهي إلا  كذبة معروفة لنفس الناس الذين روجوا لها.  

بالنسبة لنعومي كلاين كان ميلتون فريدمان يمثل رمز للتاريخ الذي تحاول أن تتحداه. تقول أنها تحاول من خلال كتابها الجديد رواية القصة نفسها، أي تعيين نقاط الإتصال الرئيسية التي عملت فيها هذه الأيديولوجية أو العقيدة قفزاتها الى أمام، وفي نفس الوقت تعيد إدخال فترات العنف والصدمات لأن حسب إعتقادها بأن هناك علاقة بين المذابح، بين الأزمات، بين الصدمات الرئيسية والضربات القاضية الى البلدان والقدرة على فرض السياسات التي في الحقيقة رفضت من قبل الأغلبية العظمى لشعوب هذا الكوكب.  

ما هو مضمون وجوهر تعريف عقيدة الصدمة؟

 

بدأت نعومي كلاين كتابها بالنظر في مختبرين لعقيد الصدمة. تقول أنها نظرت الى أشكال مختلفة لممارسة الصدمة، واحدة منها "الصدمة الإقتصادية" مورست في مختبرات جامعة شيكاغو في العقد الخامس من القرن الماضي والأخرى "صدمة الجسم" التي تحدث عن طريق الصعقة الكهربائية والتي إحدى عوارضها الجانبية هي فقدان الذاكرة أو إستعمال العقاقير مثل الـ "إل.إس.دي" والـ "بي. إس.بي"  ....الخ والتي مورست في مختبرات جامعة ماكغيل الكندية في مونتريال بالتعاون مع وكالة المخابرات المركزية الأمريكية وذلك لفهم وإحداث طرق التعذيب الجسدية والنفسية التي تؤدي الى تدمير الشخصيات وإرتدادها الكلي - من شخصية رجل بالغ الى شخصية طفل - وذلك لخلق النافذة أو الفرصة السانحة التي يصبح فيها التأثير على الناس سهل جدا للسيطرة عليهم وغسل عقل الإنسان ونتج عن هذه الدراسة دليل طرق التعذيب التي مورست ضد معتقلي سجن غوانتانامو وسجن أبو غريب. هاتات النوعان من الصدمات ليسا متواجدتان دائما هناك، لكنهما يتواجدان في نقاط الإتصال الرئيسية ألا وهي "صدمة التعذيب".   

تقول نعومي كلاين أن عقيدة الصدمة مثل كل العقائد هي فلسفة القوة.  أنها فلسفة حول كيفية تحقيق الأهداف السياسية والإقتصادية. وهذه فلسفة  تتمسك بأن أفضل طريقة، افضل وقت، لترويج أفكار السوق الحرة الراديكالية هي في إثر أو مباشرة بعد حدوث صدمة رئيسية. يمكن أن تكون تلك الصدمة وكما ذكرنا أعلاه إنصهارا إقتصاديا، كارثة طبيعية، هجوم إرهابي واسع أو حرب شاملة. لكن الفكرة هي أن هذه الكوارث وهذه الصدمات تلين صلب كامل المجتمع أو المجتمعات وتشوشها. في خضم هذا التشويش يفقد الناس صلاتهم وإتجاهات علاقاتهم وتفتح نافذة مشابهة لنافذة غرفة الإستجواب ومن خلالها يمكن الترويج لما يسميه الإقتصاديون بـ "علاج صدمة إقتصادية".  هذا نوع من أنواع تغيير البلاد المتطرف. أنه كل شيئ في نفس الوقت، وليس إصلاح واحد هنا وإصلاح واحد هناك، لكنه نوع من التغيير الجذري مشابه للذي حصل في روسيا الإتحادية في العقد التاسع من القرن الماضي بعد سقوط الإتحاد السوفيتي، ومشابه للتغيرات الجذرية التي حصلت في تشيلي بعد الإنقلاب الدموي الذي قاده أوغستو بينوشية الذي أطاح بالرئيس المنتخب سلفادور أيندي وهو أيضا نوع التغيير الجذري الذي حاول الترويج له المجرم بول بريمير في العراق بعد الإحتلال في عام 2003 حينما كانت بغداد تحترق، حيث أنه مزق نسيج التركيب البنيوي للإقتصاد العراقي وحول العراق الى مختبر لتطبيق سياسات السوق الحرة الأكثر راديكالية، وهذه هي عقيدة الصدمة التي قصدتها أو تحدثت عنها نعومي كلاين والتي لا تدعي بأن اليمينيين في حاضرنا المعاصر هم وحدهم من إستغل ظروف أزمة معينة لتمرير أجنداتهم لأن فكرة إستغلال الأزمات ليست فريدة لهذه العقيدة الخاصة. الفاشيون طبقوها والشيوعيون في السلطة طبقوها، لكن هذه محاولة وكما تقول نعومي كلاين لفهم العقيدة التي نعايشها بشكل افضل، العقيدة المهيمنة في عصرنا، والتي هي إقتصاد سوق غير مقيد.  

بناء على ما ذكر أعلاه قسمت نعومي كلاين عقيدة الصدمة الى ثلاثة أنواع. الصدمة الأولى هي "صدمة الكارثة"، الصدمة التي تصيب كامل البلدان أو البلد والمدن. الصدمة الثانية هي "علاج صدمة إقتصادية"، الصدمة التي تصيب الإقتصاد وأما الشكل الثالث للصدمة فهو "صدمة التعذيب" التي تأتي سوية معا لفرض تلك السياسات.  

عقيدة الصدمة والرهبة، علاج الصدمة الإقتصادية وتدمير العراق

 

هناك العديد من التشابهات عزيزي القارئ بين نقاط التقاطع لأزمة مصطنعة وفرض علاج الصدمة الإقتصادي الراديكالي أو الجذري. لو نظرنا الى الوضع أثناء وبعد الإنقلاب في تشيلي فسنرى العراق وما عمله المجرم بول بريمر أثناء حكمه هناك، كيف أنه مزق البنية التحتية للإقتصاد العراقي بصورة كاملة في حين بغداد كانت تحترق، وحول العراق الى حقل تجارب لإختبار سياسات السوق الحرة الراديكالية.    

تقول نعومي كلاين، أثناء الإنقلاب العسكري في تشيلي في الحادي عشر من أيلول عام 1973 وبينما كانت الدبابات تجوب شوارع سانتياغو وقصر الرئاسة كان يحترق وجثمان الرئيس سلفادور أيندي المنتخب ديموقراطيا كانت ملقاة على الأرض فيه، إجتمعت مجموعة من الإقتصاديين التشيليين المدعوة بـ  **"شيكاغو بويز/أولاد أو شباب شيكاغو" لإستنساخ - طوال ليلة ذلك اليوم - وثيقة إسمها "الطابوقة" تحتوي على البرنامج الإقتصادي الجديد لحكومة قائد الإنقلاب العسكري الديكتاتور أوغستو بينوشية والذي كان له الكثير من التشابهات المميزة لإستراتيجية المجرم جورج بوش للإنتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة عام 2000. هذه المميزات تتحدث عن مجتمع الملكية، خصخصة الضمان الإجتماعي ...الخ وهذه بلا تردد أفكار ميلتون فريدمان. كما هو معروف عزيزي القاري أن نظام الديكتاتور أغيستو بينوشية إنتهك حقوق الإنسان في تشيلي وقتل وشرد عشرات الألوف من المواطنين التشيليين من بلادهم وفي نفس الوقت طبق مبدأ السوق الحرة قسرا ومن خلال القمع الإستثنائي أحدث كثيرا من التحسينات في الإقتصاد التشيلي، كل هذا طبعا كان على حساب تدهور حقوق الإنسان وتهديم الديموقرطية في تشيلي.  

ترى نعومي كلاين أن صيغة سياسة الصدمة الثلاثية والتعذيب التي نفذت في تشيلي مشابهة لصيغة الصدمة الثلاثية التي طبقت وتطبق الأن في العراق. تقول:  

الأول كان الإحتلال، الصدمة والروعة للغزو العسكري. قراءة الدليل العسكري توضح نظرية الصدمة والروعة. الكثير من الناس يعتبرونها مجرد الكثير من القنابل والكثير من القذائف الصاروخية، لكنها في الحقيقة عقيدة سايكولوجية أو نفسية والتي في حد ذاتها جريمة حرب لأنها تقول وبشكل صريح جدا "بأن الهدف أثناء حرب الخليج الأولى كان الهجوم على البناء التحتي العسكري لصدام، لكن أثناء حملة الصدمة والروعة الهدف كان المجتمع بصورة عامة". هذا كان إقتباس من عقيدة الصدمة والروعة. 

إستهداف المجتمع بشكل عام هو عقاب جماعي، وهو جريمة حرب. لم يسمح للجيوش إستهداف المجتمع بشكل عام بل يسمح لهم إستهداف الأهداف العسكرية فقط. هذه العقيدة مدهشة للغاية لأنها تتحدث عن الحرمان العصبي الحسي على مقياس جماعي. تتحدث عن الإعماء، قطع الأحاسيس لكل السكان. وكما شوهد أثناء الغزو قطعت الإضاءة أو الإنارة الكهربائية، قطعت كل الإتصالات والمواصلات وعطلت التلفونات، وبعد ذلك حدث النهب، وحرقت المكتبات العامة ونهبت المتاحف  بعد الإحتلال رغم أن حماية هذه المرافق هي من مسؤولية قوات الإحتلال لكن لم يتخذ اي إجراء بذلك. وجاء التعليق المخزي لمجرم الحرب دونالد رامسفيلد على تلك الإحداث المقرفة "أشياء تحدث" - ستاف هابنز.  وهذه هي الفكرة من شن الحرب "تدمير العراق" وكما صاغها الصحفي الصهيوني  توماس فريدمان المعلق في صحيفة الـ نيويورك تايمز في عبارته المشهورة ليس بناء دولة لكن "خلق دولة" والتي هي بحد ذاتها فكرة عنيفة جدا وجريمة كبرى. لو توقفنا وفكرنا بشأن ما يعني بـ "خلق دولة" في دولة موجودة حاليا. هذا يعني أن شيئ ما سيحدث لدولة موجودة حاليا لها ثقافة عمرها عمر الحضارة الإنسانية.  

هذه الفكرة الكاذبة التي تحمل في طياتها الصدى الإستعماري صورت في أغلب الأحيان في أجهزة الإعلام الأمريكي المتصهين على أنها فكرة مثالية لبناء دولة نموذجية في قلب العالم العربي التي ستنشر عدواها الى البلدان المجاورة وتؤدي الى الإنفتاح. وطبعا لا يمكن إقامة مثل هذه الدولة بدون نوع من أنواع التطهير ولهذا سمح للنهب والتدمير أن يحدث وذلك لمحو تاريخ العراق لأنهم يريدون بدأ "البناء" من الخدش وكما يقول المثل العراقي من الصفر. لذا فإن أي شيئ كان موجود هناك سيكون عائق في طريق البناء وعليه يجب تحميل الشاحنات بموجودات العراق ونقلها الى خارج وبيعها لأن عملية النقل ستخلق أيضا فرص عمل للعراقيين العاطلين عن العمل!!!   

إستهداف العراق عسكريا وإحتلاله، وإرهاب وصدم وترويع شعبه أثناء وبعد الإحتلال جعل المسؤوليين الأمريكان التنظر في كيفية قولبته وتسيره حسب المبتغى حيث أن المجرم ريتشارد ارميتاج مساعد وزير الخارجية السابق أثناء الغزو والإحتلال قال بأن العراقيين سيكونون مشوشين وفي حيرة بسبب الحرب وسقوط نظام الشهيد صدام حسين وهذا سيسهل قيادتهم من نقطة أليف الى نقطة باء. وعندما أصبح المجرم بول بريمر الحاكم الفعلي للعراق وعمل تغييراته الراديكالية فيه من خلال حل الجيش العراقي وطرد الموظفين المدنيين العراقيين بالإضافة إلى تعطل معظم إن لم نقل كل الخدمات الإجتماعية العامة أعلن فتح العراق للتجارة حيث أغرقت الأسواق العراقية بإستيراد السلع الرخيصة من الخارج. لهذا لم يكن بإستطاعة الأعمال التجارية العراقية والسلع المنتجة محليا التنافس مع الإستيرادات الرخيصة في الظرف الإقتصادي الجديد الذي فرضه على العراقيين المجرم بول بريمر وعليه  إزدادت البطالة والعنف وخرجت في الصيف الأول بعد الإحتلال أعداد ضخمة من العراقيين في تجمعات إحتجاجية سلمية خارج المنطقة الخضراء ومن خلال ذلك تبين أنه لا يمكن إستحوان العراقيين وتسييرهم من نقطة أليف الى نقطة باء بسهولة.

 

خصخصة الحروب وصدمة التعذيب

 

عندما إنطلق شرارة المقاومة العراقية المسلحة الباسلة مباشرة بعد دخول قوات الإحتلال الى بغداد العاصية إنتقلت الحرب أيضا الى السجون وظهرت جرائم التعذيب والقتل والإغتصاب للأسرى العراقيين في سجن أبو غريب وسجون الإحتلال الأخرى المنتشرة في جميع أنحاء وطننا المغتصب. وتبين فيما بعد أن أوامر ممارسة وسائل التعذيب المختلفة التي طورت في مختبرات وكالة المخابرات المركزية الأمريكية صدرت من أعلى القمة الهرمية لإدارة المجرم بوش خصوصا من المجرم الدموي دونالد رامسفيلد الذي وكما ذكرنا أعلاه درس وتدرب تحت إشراف الإقتصادي ميلتون فريدمان وعمل في التجارة - لمدة عقدين من الزمن قبل أن يصبح وزيرا للدفاع -  تصرف وكأنه أي مدير تنفيذي في أي شركة حيث أنه وبسبب النقص في عدد جنوده المتوزعين في سجون الإحتلال إستأجر مرتزقة وسفاحين من شركات تجنيد المرتزقة التجارية المتخصصة بوسائل القمع والتعذيب.  إعتقد المجرم دونالد رامسفيلد وكعادته الخطأ في التقديرات الصارمة بأن الشعب سينصاع ويتصرف بأحلى السلوكية ويتقبل الإحتلال وعلاج الصدمة الإقتصادية ونهب خيراته النفطية. لذا عندما إشتدت المقاومة تبين له أنه لا يستطيع إخمادها في الشوارع لأن ببساطة لم تكن هناك قوة الشخص موجودة. لذا القي القبض على الكثير من العراقيين الأبرياء وجلبوا الى السجون وأستعملت مختلف الأنواع من طرق التعذيب فيها ضدهم كما أستعملت في أمريكا اللاتينية سابقا وذلك لإرسال رسالة الى االشعب بأكمله. التعذيب بغض النظر عن من يقترفه له تأثير خاص وتأثير عام، لأن إذا استعمل التعذيب كأداة للإرهاب الرسمي أو إرهاب الدولة فإنه ليست مسألة بين المستجوب والسجين فقط بل أيضا حول إرسال الرسالة الى عامة الشعب والمجتمع.  

خصخصة حرب وإحتلال العراق لم تتوقف عند حد إستئجار الجلادين المحترفين لسد الحاجة في سجون الإحتلال بل إمتد أيضا الى تجنيد جيش جرار من المرتزقة الأخصائيين بمختلف النشاطات العسكرية والأمنية بلباس مدني وقد فاق عدد المرتزقة عدد الجيش الأمريكي النظامي لأنه وكما إعترف ديفيد بيترييوس قائد قوات الإحتلال الأمريكي في العراق بأن وجود جيش المرتزقة في العراق مهم جدا لإدامة الإحتلال.  

فكرة غزو وإحتلال العراق لم تكن عملا أنيا ومرتجلا بل أنها جاءت نتيجة دراسة وتخطيط مسهب قديم يمتد تاريخه الى أكثر من ثلاثة عقود، وإختمر تطبيق هذه الفكرة بفعل نتيجة الظروف المحزنة التي مر بها العراق وشعبه والتي سببت إضعافه عسكريا وسياسيا وإقتصاديا نتيجة التأمر الدولي والعربي والإسلامي عليه وعلى نظامه الشرعي السابق، والحصار الظالم الذي دام ثلاث عشرة سنة الذي فرض عليه من قبل مجلس الأمن الدولي التابع للعصابات المتحدة المسيرة من قبل وزارة الخارجية الأمريكية. المتغيرات التي حصلت في وطننا المغتصب تشمل التدمير الكامل لجميع بناه التحتية، إذلال وإغتصاب شعبه ونهب خيراته والتخطيط لشرعنه نهبه الى الأبد وتقسيمة الى كيانات هزيلة. هذه المتغيرات المدمرة لها علاقة طردية بغاية التخطيط المبدئي لإحتلاله التي تعتمد على إضعافه وتقسيمه والسيطرة على خيراته النفطية وبناء القواعد العسكرية الدائمية فيه كخطوة من الخطوات الأولى لبناء الإمبيراطورية الإقتصادية الأمريكية العالمية التي يلعب فيها رأس المال الصهيوني دورا كبيرا في نشر العولمة وهيمنة السوق الحرة الراديكالية في التعامل التجاري الدولي وذلك لإدامة الهيمنة الصهيو – أمريكية الكونية على العالم.  

السؤال الذي يطرح نفسه آنيا هو هل أن الإحتلال ومرتزقته وعملائه وتجارب المجرم بول بريمر الإقتصادية أحدث تقدما ملموسا في العراق وعلى غرار ما حدث في تشيلي بعد نجاح إنقلاب أوغستو بينوشية؟!!!  

الجواب طبعا لا والعكس هو صحيح حيث أن الإقتصاد العراقي دمر تدميرا كاملا وإن الشعب العراقي يعاني من شحة الماء والكهرباء وقلة الخدمات الصحية والإجتماعية ونقص في الطاقة وإرتفاع أسعار المواد الغذائية والإستهلاكية الأخرى وإنعدام الأمن والأمان. هناك سببان مهمان رئيسيان لفشل تطبيق ونجاح خطة بريمر رغم أن ظروف الإحتلال تقع ضمن تعريف نعومي كلاين لعقيدة الصدمة التي تساعد على تمرير أجندات السوق الحرة الراديكالية. السبب الأول هو أن العراق ليس كما الحالة في تشيلي حيث أنه أحتل بصورة غير شرعية وغير قانونية من قبل قوات أجنبية ولم يتعرض الى إنقلاب داخلي. السبب الثاني والمهم يرجع الى رفض الشعب العراقي وقواه الوطنية ومقاومته المسلحة الباسلة للإحتلال وللتغيرات التي يحاول هو وعملاءه فرضها على المجمع العراقي. إضافة الى ذلك أن البنية التركيبية للمجتمع العراقي والعرف والعادات والتقاليد الإجتماعية المختلفة، وتأثير الثقافة الدينية والتجارب التاريخية المكتسبة، وطبيعة نفسية الإنسان العراقي الرافضة والمتمردة أصلا على كل شيئ  تعرقل فرض قوانين السوق الحرة الراديكالية في وطننا المغتصب على المدى القريب أو البعيد.  

**لمعلوماتك عزيزي القارئ أن "شيكاغو بويز" كانت مجموعة من الطلبة التشيليين الذين درسوا سابقا في جامعة شيكاغو على حساب الحكومة الأمريكية كجزء من إستراتيجية مدروسة "مشروع التحويل الإيديولوجي المتعمد" لتحويل المسار السياسي في أمريكا اللاتينية الى اليمين بعد تصاعد نشاط المد اليساري هناك. هدف ذلك المشروع كان تلقين الطلبة في صنف من أصناف الإقتصاد الذي كان هامشي في الولايات المتحدة في ذلك الحين وبعد ذلك إرسالهم الى بلادهم كمحاربين أيديولوجيين. أخفقت هذه المجوعة في إقناع التشيلين على تحويل المسار السياسي والإقتصادي في النقاشات الديموقراطية المفتوحة أثناء الحكم الديموقراطي للرئيس سلفادور أيندي لكن وجدت فرصتها لتطبيق ما تعلمته في الولايات المتحدة وما طلبت منهم المخابرات المركزية الأمريكية عمله بعد نجاح الإنقلاب الذي خطط له المجرم الصهيوني هنري كيسنجر وقام به الديكتاتور الجنرال أوغستو بينوشية.

 

 

 

 

شبكة المنصور

السبت /  10 رمضان 1428 هـ  الموافق  22 / أيلول / 2007 م