بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

 

بعد انتظار البرابرة.. شكرا للبرابرة
(محاكاة نثرية)

 

 

شبكة المنصور

علي الصراف

 

ماذا كنا سنفعل، لو لم يأت البرابرة؟
ظلت بابل محاصرةً لأكثر من عشر سنوات،
وقد انهكتها الحروب.
الشعب جاع.
والأطفال كانوا يموتون من دون حساب.
وكان امبراطورنا يبدو مثل أسد أسطوري،
ولكنه فقد جناحيه،
والناس من حوله لا يعرفون ماذا سيحل بهم.
كانوا ينتظرون البرابرة.

كانت بابل قوية وغنية.
وكان زئير أسودها يخيف الضباع والذئاب،
ويعيد الثعابين الى جحورها،
فيبقيها بعيدة عن أسوار المدينة.
ولكن شيئا في قوة بابل كان يُضعفها،
شيء لم تعرفه المدينة، ولا فكرت فيه
وعندما قرر البرابرة ان يأتوا
لم يعد بوسعها ان تستبدل به ما كانت تعرفه
شد البابليون قوس الصبر وقالوا: سننتظر البرابرة.

انشد الشعراء آخر قصائدهم،
وغنى المغنون
ودّع الأطفال مدارسهم،
وأغلقت الحوانيت الفارغة أبوابها
والأمهات كن يبكين بدموع غزيرة،
لانهن بالغريزة كن يعرفن ماذا سيأتي.
وقف الجنود المدججون باليأس على الأسوار
شحذوا سيوفهم المنهكة، وتحت غيمة الموت العاري،
كانوا يقطعون حبال الوقت لينتظروا البرابرة.

تذكرت بابل مصير أثينا
وكان نصفها يقول: ماذا لو جاء البرابرة،
ونصفها الآخر يقول: ماذا لو لم يأتوا.
كل شيء في المدينة كان يهمس بذكر البرابرة
ضاربو الرمل يعدون الحصى ليروهم،
حجارة السقوف تسأل بعضها إن كان البرابرة قد جاءوا،
أعمدة النور ارتدت الظلمة لكي لا تنير لهم الطريق
وكانت مشكلةً لبابل ان يأتوا، ومشكلةً ألا يأتوا
وكل الضجيج والصمت كانا يدويان في انتظار البرابرة

الصوت كان صوت بابل،
والصدى كان صدى أثينا.
هنا صولجان التاريخ يلمع بحجاراته الثمينة،
وهنا التيجان تزهو بالرؤوس التي ترفعها
هنا زمرد العلم وياقوت الأدب يضيئآن اركان المدينة
وهنا البذخ والسلطان والأبهة
هنا كل ما يجعل القوة مجدا أثيلا
وهنا كل ما يجعل القوة سحرا مغريا وقاتلا
فكيف لا يأتي البرابرة.

(في عام 1898 كتب قسطنطين كفافي قصيدة "في انتظار البرارة" ليذكر أثينا عندما وجدت نفسها في مأزق، فقال:

"لماذا ننتظر كلنا، هنا في الميدان؟
لأن البرابرةّ يصلون اليوم".

"لماذا لا يحدث شيء في مجلس الشيوخ؟
كيف يجلس الشيوخ ولكنهم لا يسنون القوانين؟
لأن البرابرة يأتون اليوم.
فما معني أن يسنّ الشيوخ القوانينّ الآن؟
عندما يأتي البرابرة، سوف يضعون القوانين".

"لماذا صحا الإمبراطوْر مبكرا اليوم؟
ولماذا يجلس على عرشه، مزينا بالتاج، عند البوابة الرئيسية؟
لأن البرابرة يصلون اليوم
والإمبراطور ينتظر ليرحب بقائدهم،
وقد جهز كل شيء ليقدم له شهادة فخرية، مليئة بالألقاب والأسماء الهامة".

"لماذا ظهر قناصلنا وحكامنا اليوم
في مسوحهم الحمراء الموشاة؟
لماذا لبسوا أساور مرصعة بالجواهر، وخواتم.
من الزمرد البراق؟
ولماذا يمسكون فرحِين بالعصي
المشغولة بالفضة والذهب؟
لأن البرابرة يصلون اليوم
ومثل هذه العصي تخلب لّبٌّ البرابرة"

"أين خطباؤنا المفوهون
ليلقوا خطبهم مثل كل يوم؟
لأن البرابرة يأتون اليوم
وهم يملٌونّ الخطب وتضجرهم البلاغة"

"لماذا هذا الفزع والقلق الآن؟
(ترتسم علامات الجّدِ على وجوه الناس)
لماذا تقفر الميادين؟
لماذا يعود الجميع إلى بيوتهم
وقد استبد بهم الغم؟
لأن الليل قد أقبل ولم يأت البرابرة
ووصل بعض جنود الحدود وقالوا
انه ما عاد للبرابرة من وجود".

"والآن؟ وبدون البرابرة، ما الذي سيحدث لنا؟
لقد كانوا نوعا من الحل").


حظ بابل كان أفضل من حظ أثينا
فقد جاء البرابرة
وشكرا لهم لأنهم جاءوا.
فقد كانوا نوعا من الحل.
كسروا حلقة الانتظار، وأسقطوا الغيمة
وبرغم الظلمة في الطرقات والمنازل،
انفرجت الظلمة في النفوس
واشرقت شمس، لم تشرق في سمائها من قبل.
كانت هي اللغز الذي لم تعرف بابل كيف تعرفه،
قوة أم قوة؟
الجياع ارخوا حبال القوة، ليمسكوا بالعروة الوثقى.
جاء البرابرة.
شكرا لأنهم جاءوا.

الأطفال لم يعودوا يبيتون على الطوى،
لم يعودوا يموتون مجانا،
صاروا يبيتون على قنابل وفي بطونهم رصاصات البرابرة
وشهداء يموتون.
وأمهاتهم اللواتي كن يبكين،
صرن يبكين ويزغردن.

والأسد الهصور إستعاد جناحيه
وبهما حلق عاليا، عاليا،
اهمل زمرد المجد وياقوته ليرتدي كفنا
ورأت بابل في معدنه ما لم يكن بوسعها ان تراه
وكان معدناً لا يضاهيه معدن
فشكرا للبربراة، إذ دمروا بابل
وشكرا إذ صنعوا لبابل مجدا.

جاء البرابرة،
وشكرا لأنهم جاءوا،
لنرى كيف يكونون برارةً،
كيف يقتلون ويعذبون ويهدمون ويغتصبون
ولنرى كيف يشربون من دماء ضحاياهم
وكيف يأكلون من أمخاخهم (بالملاعق)
وكيف ينشرون الذعر بين الأطفال في المنازل الآمنة

جاء البرابرة،
وشكرا لأنهم جاءوا
ليحملوا معهم عملاء وأمعات ومخانيث
يستقوون بالبرابرة، ويحتمون خلف دباباتهم
وخلفها يأكلون ويتناكحون ويبولون ويناقشون المعضلة،
ويبولون ويأكلون ويُتناكح بهم لحل المعضلة.

جاء البرابرة،
وشكرا لأنهم جاءوا
لنرى كيف يكون برابرةً عضاريطُ البرابرة
كيف يغتصبون نساء بلدهم، ليحملوا الأوسمة
وكيف ينهبون أموال شعب جوعوه بالجملة،
وكيف حولوا الملايين الى مشردين،
وكيف تضيع المليارات من الخزينة
وكيف تصبح الدولة نهبا للصوص والقتلة
وكيف تُلقى الجثث فوق المزابل
(... وكيف يكون التعذيب بالمثاقب الكهربائية، وكيف تسلخ الجلود، وكيف يُغتصب اليتامى في الملاجئ، وكيف يُختطف الأبرياء ليُعدموا على الهوية، وكيف تُحرق مساجد الله وتهدم، وكيف يُدمر البلد، قريةً قرية وبلدةً بلدة. وكيف تصمت عمائم الدعارة على الدعارة ذات الأصول "المرجعية"، وكيف يكون العهر دينا يجمع بين مفاخذة الاحتلال وبين "مفاخذة الرضيعة"، وكيف يكون المذهب قوادة شرعية مع الغزاة، وكيف يتحول آيات الله الى آيات شياطين، وكيف يمزقون مجتمعا متآخيا بين سنة وشيعة ليتقاتلا، وكيف تتحول المستشفيات والجامعات الى مراكز طائفية، وكيف يُقتل العلماء والخبراء والاطباء والأساتذة، وكيف تُحرق المكتبة الوطنية وتُنهب آثار سبعة آلاف عام، وكيف يُطاح برأس هارون الرشيد تنكيلا بتاريخ أمة، وكيف يُعتقل مئات الآلاف ويختفون من دون سجلات لتُحرق قلوب الذين ينتظرونهم الى الأبد، و... كيف يموت بلد.
وما كانت بابل (بغداد، البصرة، الموصل، كركوك، الديوانية، الرمادي، الناصرية، دهوك، أربيل، السليمانية، الكوت، ديالى، الحلة، العمارة) لتعرف كل ما تعرف الآن، لو لم يأت البرابرة...).

جاء البرابرة،
وشكرا لأنهم جاءوا،
فمن دون البرابرة، كيف كانت ستكون لنا مقاومة تُمسك بالعروة الوثقى؟
ولو ان البرابرة فعلوا عكس ما يفعلون الآن،
فماذا كنا سنفعل؟
صنع البرابرةُ كارثةً.
ولكنهم لو لم يصنعوا كارثة، لكانت الكارثة أكبر. ولسقطت خيمة الشرف والخير والتلاحم والبناء والعدالة والوطنية.
ومن دون البرابرة، فكيف كنا سنكتشف معادن الرجال، ونُمنّي النفوس بمعدن المعدن؟
وماذا كنا سنفعل؟
...
جاء البرابرة،
وشكرا لأنهم جاءوا،
"فقد كانوا نوعا من الحل".
 

alialsarraf@hotmail.com

 

 

 

 

شبكة المنصور

السبت / 18 / أب / 2007