بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

 

تقرير الهزيمة
(
المسمار والنعش والتشييع )

 

 

شبكة المنصور

علي الصراف

 

سيقدم الجنرال ديفيد بيترايوس قائد القوات الامريكية في العراق والسفير رايان كروكر تقريرا امام الكونغرس منتصف الشهر المقبل، عما أُحرز ولم يُحرز وعما يمكن او لا يمكن إحرازه في المستقبل المنظور.

لا شيء في هذا التقرير لا تمكن رؤيته على أرض الواقع. فالعمليات التي تتعرض لها قوات الاحتلال في تصاعد مستمر. وينخرط فيها مسلحون جدد من مختلف المناطق في العراق.

في الجنوب، كما في الغرب والوسط والشمال، كما في بغداد، فان ثمة مؤشرات تقول ان المقاومة تتحول الى "عمل شعبي" حقيقي. رجال المقاومة في الجنوب يحاصرون القوات البريطانية في معقلها الأخير (مطار البصرة) ليجبروها على الانسحاب، خاصة وانها تبدو "الحلقة الأضعف" في سلسلة الاحتلال. ولن يمضي وقت طويل بعد تقرير منتصف سبتمبر- أيلول حتى تبدأ هذه القوات الانسحاب بالفعل. اما في الوسط والغرب وبغداد، فلا شيء أوضح من حقيقة ان زيادة عدد القوات الامريكية فشلت في تحقيق الهدف المنشود منها. وبرغم كل أعمال العزل والتهجير، ما تزال بغداد تقاوم كما كانت تقاوم، بل ان معدل العمليات التي تتعرض لها قوات الاحتلال ما يزال مرتفعا، خاصة اذا أضيف اليه انخراط مدن كانت تعد "هادئة" من قبل. وبرغم الدمار الهائل ما يزال "ثلثين الطق لأهل ديالى"، وفشلت جميع العمليات الأمنية التي شنتها قوات الاحتلال ومليشياتها في طرد المقاومين او كسر شوكتهم. ومحافظة الرمادي ما تزال، بكل مدنها، قلعة احرار كما كانت دائما. الاعتقاد السائد هو ان فصائل المقاومة تحرك مجموعات مسلحيها مثل كرات الزئبق، فهي تتجمع في مكان و"تتفتت" وتعود لتتجمع في أماكن أخرى. وفي مقابل كل خسارة تخسرها هنا، فان تكسب (من بين ضحايا الاحتلال الكثر) مقاتلين جددا هناك فتكبر كرة الزئبق. وثمة في كل مدينة من مدن العراق، وفي كل يوم، قصة ما للمقاومة وخبر ما عن عملية جديدة. وليس كل ما يقع يُنشر او يعلن عنه.

وكانت آخر إحصائيات البنتاغون التي نشرت الشهر الماضي، ذكرت ان قواتها وقوات عملائها تتعرض لما يزيد عن 5000 هجوم كل شهر، بمعدل يصل الى نحو 170 هجوما كل يوم. ولو كان كل ما يقع يُعلن، لكنا بحاجة الى 20 "سي. أن. أن" لتغطيتها. ولكن، لكي لا تتحول الحرب في العراق الى حرب أهلية في الولايات المتحدة فان المعلن من هذه الهجمات لا يتعدى هجوما واحدا او إثنين.

ويبدو الطلب العاجل لمركبات جديدة مؤشرا الى ان المقاومين العراقيين يصطادون من عربات قوات الاحتلال أكثر مما يصطادون السمك من نهري دجلة والفرات.

ديفيد بيترايوس لن يقول للكونغرس: اننا نحرز تقدما بتعرضنا لـ 4000 هجوم هذا الشهر فقط. واننا نتوقع التعرض لـ 3000 هجوم الشهر المقبل. مهزلة كهذه لن تحصل. أعضاء الكونغرس سيخلعون احذيتهم ليضربوه بها اذا قال لهم انه يحرز "تقدما" بتعرضه لهذا العدد "المنخفض" من الهجمات. ولكنه سيكون مضطرا الى الإعتراف بالفشل. ومثل كل "ادارة علاقات عامة" فانه بدلا من القول "هُزمنا"، فانه سيقول اننا بحاجة الى "استراتيجية جديدة" (من قبيل اعادة تجميع القوات، أو الانسحاب من المدن...). في ظل هذه "الاستراتيجية" سوف تجد القوات البريطانية، أوه..، انه لم يعد لها مكان، فتنسحب (وطبعا سيقال: "انتصرنا" بتحقيق انسحاب مشرف و... "لن نتخلى عن الشعب العراقي"). وفي ظل هذه الاستراتيجية سوف تتخلى القوات الامريكية عن المدن والمواقع الساخنة لتنأى بنفسها بعيدا عن المواجهات اليومية، تاركة هذه المهمة لمليشيات حكومة العملاء وحدها، ولتكتفي بتقديم غطاء جوي ودعم لوجستي مما ستتركه لهم في مواقعها القديمة.
هذه الاستراتيجية ستكون هي المسمار الأخير.

السفير كروكر، إذا أتيح له ان يحكي، فانه سيتحدث عن فشل "العملية السياسية" (بعبارات أخرى تبدو وكأنها ما تزال على قيد الحياة). وهي العملية التي كان هو الذي يحرك خيوطها.

والحال، فان "العملية السياسية" فشلت، لان "العملية العسكرية" فشلت. وعلى أساس هذا الفشل، تُدفع بعض أطراف "العملية" للخروج منها. وذلك في محاولة لصنع خلطة جديدة تلائم خلطة الفوضى المنتظرة بالاعلان عن انسحاب القوات الامريكية من الشوارع.

ما تريده قوات الاحتلال هو ان تترك جميع عملائها ليواجهوا مصيرهم. وبعد ان زودتهم بكل يمكنهم حمله من أسلحة ومعدات (رديئة وتليق بمقامهم)، فانها تنتظر منهم أن يدافعوا عن أنفسهم.

الانشقاقات واعادة تركيب التحالفات هما ما تتطلع الولايات المتحدة لرؤية نتائجه. وفي حين سيجلب عملاء ايران قوات إيرانية للتدخل لصالحهم، فان الآخرين سيبحثون عن دعم من هنا وهناك. وسيعرض بعض اطراف "العملية السياسية" السابقون خدماتهم لهذا الطرف أو ذاك لضمان حصة في "خلطة" المستقبل.

ما تريد الولايات المتحدة ان تفعله هو: ترك المتنازعين على السلطة يتحاربون فيما بينهم، الى أن يظهر منتصر. فتتعامل معه إما على انه القوة التي يمكن دعمها، وإما على انه الطرف الذي يمكن التفاوض معه على "مصير القواعد" وبالتالي شؤون وعلاقات ومصالح المستقبل.

ولكن حتى إذا لم يظهر منتصر، وحتى إذا استغرق ما يفترض انها ستكون حربا أهلية عشر سنوات أخرى، فان القوات الامريكية (الجالسة على مفاتيح النفط) ستقصر تدخلاتها على دعم هنا، ومساعدة هناك، للغالب والمغلوب في آن معا.

وسيكون من المفيد للولايات المتحدة ان ترى إيران تغرق في المستنقع الذي خرجت هي منه لتقف على أطرافه.
كعب أخيل هذه الاستراتيجية بسيط بساطة الكعب نفسه. وهو ان ايران، قد تقدم الدعم، إلا انها لن تندفع الى المستنقع لتغرق فيه. هذا واحد. عملاؤها لن يحاربوا طويلا. فبعد ان نهبوا ما نهبوا من أموال فانهم سيتطلعون الى الاستمتاع بها على الأقل، وهم لم يُخلقوا كعملاء لكي يتحول كل منهم الى "غرين دايزر". البطولات شيء لا يتوافق مع العمالة. هذا إثنين. وحيث ان كلا منهم يلطم على حسينه الخاص، ولحساب مرجعيته الخاصة، فانهم سيتلاطمون فيما بينهم. كما هو حاصل منذ الآن في مدن البصرة والديوانية والناصرية. هذا ثلاثة. ولكن جرائمهم وضحاياهم من الكثرة بحيث انهم سيواجهون طوفانا من طلاب الثأر.

وهذا هو النعش. وسيكون نعش العملاء هو نعش الجريمة التي سفكوا بها دماء أكثر من مليون ضحية وهجروا بها أربعة ملايين نسمة وحولوا ثمانية ملايين انسان من مواطنيهم (حسب "اوكسفام") الى شعب من الجياع والمشردين والشحاذين.

وسيكون لكل واحد من هؤلاء "حوبة" (إنتقام) وأي "حوبة".
وسننتظر من فصائل المقاومة أن تلملم قوة كل هؤلاء الضحايا ليحول نصرهم الى نصر للحق والعدل والانصاف والرحمة، لا نصر للفوضى.

إذا كان الاحتلال وعملاؤه سيهزمون، فانهم سيهزمون بما ارتكبوه من جرائم. لقد صنعوا هزيمتهم بأنفسهم.
كل نظام في الدنيا يفعل ما يجعل معارضته أمرا مفهوما وطبيعيا. اختلاف المشاريع والرؤى، واختلاف النظرة للأولويات والمخاطر، تجعل حتى المواجهة العنيفة أمرا مفهوما وطبيعيا أيضا.
ولكن بمقدار ما كان يجري تصوير هذا النظام او ذاك على انه نظام قمع واستبداد وقهر، فان معارضته تكسب شرعيتها، ومبرر وجودها، فقط من فعل العكس.
إذا كان هناك قهر، يكون تسامح.
وإذا كان هناك ظلم، يكون عدل.
واذا كان هناك تمييز، تكون مساواة.
وإذا كان هناك استبداد، تكون حرية.
وإذا كان هناك قتل، يكون عفو.
وإذا كان هناك تعذيب، يكون تحريم.
وإذا كانت هناك قسوة، تكون رحمة.

هكذا فقط يصلح لكل نظام ان تكون له معارضة، ويصلح له، ولو بالقوة، ان يتغير.
فماذا فعل عملاء الاحتلال ومأجوروه ممن ركبوا ظهور دباباته واستمرأوا النذالة "لتغيير النظام السابق"؟
لقد قتلوا، وعذبوا وشردوا وأفقروا وجوعوا وهدموا منازل أبرياء ومساجد وأهانوا الملايين من أبناء شعبهم. وإناء إنحطاطهم الأخلاقي والذهني ظل ينضح ما فيه، حتى حولوا سلطتهم الى كارثة عصفت ليس بكل مؤسسة ومبنى فحسب، بل وبكل قيمة من قيم التآخي والمواطنة والشرف أيضا.
وكان من حسن حظنا انهم فعلوا كل ما فعلوه.

فالانحطاط الأخلاقي، والطائفية السياسية، والعمالة للأجنبي، لو كانت (بقسوة من أقدار الزمان) فعلت شيئا واحدا يستحق البقاء، لكان الشرف والوطنية قد عانا الأمرين، ولضَعُفَ الكثير من مبررات المقاومة.
ولكنهم اكتفوا بالجريمة، وبالغوا فيها، حتى صارت الجثث لا تُرفع إلا وتعلوها جثث.
طالت أو قصرت، فان المعركة من اجل الاستقلال والحرية، ستكنس كل ما فعلوا.

العراق، في ظل نظامه الجديد، سيُشيّع الخيانة والعمالة والجريمة الى الأبد. لن يقبل العراقيون نظاما يقتل ويعذب ويقسو. لن يقبلوا نظاما لا يحترم حقوق مواطنيه، كأفراد أحرار ومتساوين لا كطوائف. سيحترمون الاختلاف ويحفظون حقوقه ولكنهم لن يقبلوا أي مظهر من مظاهر الطائفية او العرقية. لن يقبلوا دولة بلا قانون. ولن يقبلوا قانونا في غابة. ولن يقبلوا نهب ثروات بلدهم. ولن يقبلوا منح شركات الغزاة أي امتيازات. وسيلاحقون مجرمي الحرب الى يوم الدين.
وسنُشيّع الجريمة. سنُشيّع الجريمة.

Alialsarraf@hotmail.com

 

 

 

 

شبكة المنصور

السبت / 11 / أب / 2007