البعث والمقاومة: من حزب سلطة الى حزب جهاد
شبكة المنصور
علي الصراف

مرجلة الرئيس الشهيد أمام الموت لم تكن إلا تتويجاً وشهادةً بالدم، أمام مرجلة الموقف الباسل تجاه الاحتلال وكلابه وكل ما جاءوا به. وكله باطل. ولا تصح مع الباطل ألاعيب ولا مناورات.

إذا كان يجوز لأي وطني شريف ان يحتفظ بحقه في انتقاد تجربة حزب البعث العربي الاشتراكي في السلطة في العراق، فأنا أتخلى عن هذا الحق اليوم. وإذا نجح المجاهدون البعثيون في أداء قسطهم الوطني في تحرير العراق، فسأتخلى عن هذا الحق غدا وبعد غد أيضا.

فالوقت ليس وقت إنتقادات ولا حتى مراجعات. والجرح النازف في العراق لم يعد يبقي مكاناً لترف المجادلات بشأن ما كان يمكن عمله في الماضي. ملايين الضحايا والمعذبين والمشردين تحت سنابك الاحتلال يستجيرون بالوطنيين أن يستعيدوا لهم حريتهم وأمنهم ورخاءهم واستقلال وسيادة بلدهم. هذه هي المهمة. ومنها يتحدد المعيار. وحيال وحشية غزاة وعملاء فاقت كل تصور وتجاوزت كل حد، فان أي انتقاد لتجربة بعث العراق لن يفعل سوى ان يصب الماء في طاحونة هذه الوحشية ويخفف من وطأتها ويبحث لها عن مبررات.
لا شيء يبرر، أو يمكنه أن يبرر، الجرائم التي يرتكبها الغزاة. لأنها من القبح بحيث أنها تستحق أن تصنف في قاموس خاص، وتوضع شواهدها في متحف خاص.

ولا شيء يخفف، أو يمكنه أن يخفف، وَقْعَ ما يفعله الجلادون من العملاء الطائفيين، بعمائمهم النجسة، وبمرجعياتهم السافلة، وبدناءآتهم التي تدفعهم الى نهب وطنهم وتدميره وتمزيق وحدته وتفكيك كيانه وتعدديته الاجتماعية.

مهما كانت الأخطاء والانتهاكات التي وقعت في ظل النظام السابق، فإنها وقعت في سياق "مشروع بناءٍ"، قد يُعجب أو لا يعجب الكثيرين، وقد يكون ظالما أو قاسيا قدر ما كان، إلا انه كان مشروعاً وطنياً. نعم، إعتورته تحديات، وخاض في مواجهات، ولم تكن كلها طيبة النتائج، إلا أن العراق ظل في النهاية، شوكة في عين الصليبيين والصهاينة والصفويين، مجتمعين وعلى انفراد. وظل وطنا قابلا للنهوض ومؤهلا للازدهار.

في مقابل "مشروع البناء" ذاك، بالله، ماذا لدينا الآن؟
أليس خرابا كله ذاك العراق؟
أليس مستنقعا لأسوأ ما عرفته كل التجارب الإنسانية من أعمال سفك الدماء والانتهاكات ضد ملايين الأبرياء؟

أليس بيئة للقتل الطائفي وأعمال "التطهير العرقي" (التي لا تحرك ضمائر منافقي "المجتمع الدولي"، ولا تستوجب محاكمات)؟
أليس بلدا للنهب واللصوصية والفساد على أوسع وأشمل نطاق؟
فأي "أخطاء" من أخطاء الماضي، تلك التي يمكنها أن تفسر هذا الخراب؟
وأي "أخطاء" تلك التي يجوز لها أن تضفي معنى على المجزرة التي صار يدفع ثمنها كل العراق؟
إذا كانت تلك الأخطاء "جُرحاً"، فإنها لا تفسر جز الرقاب.
وإذا كانت تلك الأخطاء "جريمة" فإنها لا تبرر ما صار أبشع منها بملايين المرات.
وإذا كانت تلك الأخطاء، مجرد مبالغات وإسراف في غطرسة السلطة، فإنها لا تبرر تحويل بلدٍ سيدٍ مستقل، الى زريبة غزاة ومستعمرة أجانب ومستنقع تدخلات.
رغم كل الأخطاء، كان لدينا وطن.
اليوم، صار الملايين من العراقيين لا يملكون خيمة.
رغم كل الأخطاء، كان موظفو الدولة يخشون سرقة درهم.
اليوم، صار عملاء الاحتلال ومأجوروهم ينهبون المليارات، ويحولونها الى الخارج بالطائرات.
ورغم كل الأخطاء، كان لدينا نظام و"مؤسسة دولة" ومدارس ومستشفيات وجامعات.
اليوم صارت لدينا مليشيات وحسينيات وتفاهات.
رغم كل الأخطاء، كان هناك مجتمعٌ يقول لبعضه البعض: "الله بالخير".
اليوم، صار السُنة يخشون إستلام جثث أبنائهم من مشرحة الشيعة. ففي ظل عراق الغزاة والعملاء، حتى الموت نفسه صار طائفيا أيضا.
أيها السادة: لم يرتكب البعثيون، في الماضي، أي أخطاء.
أنقول "أخطاء"؟ أي أخطاء؟
حيال هذا الدمار والخراب، الذي "عَمَّره" العرقيون والطائفيون خلال أربع سنوات، لم يعد من المفيد للوطنية ولا للشرف حتى "الاستفادة من الأخطاء"، لأن المراجعة نفسها ستكون نوعا من انحراف البصر عما يجب عمله في ساحات الجهاد.
وخارج السلطة، فقد عاد البعثيون ليكونوا، في غالبيتهم العظمى، حزب مناضلين ومجاهدين وأحرار.
والجهاد يجبُّ ما قبله.
وتحدي الاحتلال يجبُّ الأخطاء.
والشهادة تجبُّ ما دونها، كائناً ما كان.
ولا شيء لدينا عليهم.
وإذا كان هناك للوطنية دَين، فهم الدائن ونحن المدين.
فبأي آلاء ربكما تكذبان؟
ويا لتفاهة المحاولة البائسة للإنشقاق.
حفنة من المتخاذلين، لا يصنعون حزباً، وذلك مهما تستروا بـ"وجود خلافات".
خلافات على ماذا؟
على النضال من اجل تحرير العراق من الاحتلال؟ أم على الماضي؟ أم على سبل المقاومة؟ أم على جاه ومنصب ومال؟
وهل تستدعي أي خلافات، مهما علا شأنها، أن نصب الماء في طاحونة الاحتلال، أو اللعب بأوراقه، أو الرقص في حلبته؟
وبمجرد أن تمتد يد العار لتصافح العار، فماذا سيبقى من "الخلافات" غير لوثة الخيانة؟
الوطنيون والمجاهدون الحقيقيون لا يختلفون في ساحة القتال، وواجبهم الوطني يقتضي منهم أن يرتفعوا فوق كل خلاف. يؤدون المهمة المقدسة فقط. يُصلون في محراب الولاء للحرية فقط. لا تزيغ أبصارهم عن المقدس. لا يُغلّبون الخاص على العام. لا يطمعون بملذات الحياة. لا يرومون لأنفسهم مكسباً. لا ينتظرون العيش ليوم آخر إلا ليكون يوم حرية. لا يبحثون عن غنيمة. ولا يكررون معركة أُحد.
هكذا، فقط، يكونون مجاهدين في سبيل الله. يضعون الوطن والدين نصب أعينهم، لا القيادة ولا المناصب ولا الثراء، فكلها تذهب، وكلها هباء... إلا مجد الرجولة، فهذا بقعةُ نور لا تنطفئ، وطهارةٌ لا تزول. وهو مجدٌ لا تُعلق له المشانق، ولا يخر صريعا برصاصات.
إنشقاق؟ بالله على ماذا؟
ما قيمة أي مسيرة، إن لم تكن مسيرة الجميع، برؤوس مرفوعةٍ وأعلامٍ ترفرف وأحرارٍ يدكون الأرض بأقدام رجال-رجال؟
أم انه إنشقاقٌ حول كيف نقتسم الخراب فيما بين جلادٍ وجلاد؟
أم انه إنشقاقٌ على "إتفاق" مع عدو أسفر عدوانه، من القتلى، ما يعادل إلقاء أربعة قنابل نووية، ومن الخراب، ما يعادل إعادة البلد بأسره 200 عام الى الوراء، ومن التمزقات، ما انتهينا به الى "داحس" و"الغبراء"، ومن البكاء والآلام، ما حول كل بيت الى ملتقى عزاء؟
أيجوز أي اتفاق مع عدو كهذا؟
حتى المفاوضات من أجل الانسحاب يجب ان "تُرتكب" بحذر، إذا جاز لها أن تُرتكب أصلا. وإذا حدثت، فمن وراء حاجز، وبأيدي ترتدي قفازات، وأفواه تغطيها كمامات، لئلا تنتقل عدوى الانحطاط والسفالة والقذارة بين المتفاوضين.
المهاتما غاندي، عندما جاء ليتفاوض مع البريطانيين على الاستقلال، جلب عنزته معه، لكي لا يشرب من مائهم ولا يأكل من طعامهم. إحتقرهم، فاحترموه. وأذلهم، فأكبروه. وأراهم من هو، فعرفوا من هم.

التخاطب مع عاهرات، أشرف مليون مرة من التخاطب مع عملاء وسفلة من جنس حكومة المالكي- علاوي- الجعفري- الجلبي- الطالباني- الحكيم- الصدر.
للذبح فقط.. تصلح هذه الخراف.
والتفاوض مع قرود وكلاب أكثر فائدة مليون مرة من التفاوض مع نازيين منحطين من جنس جورج بوش وديك تشيني أو دجّال سافل مثل توني بلير.
لا مفاوضات ولا اتفاقات. مقاومة فقط. حتى يفروا، أو حتى يقضي الله أمراً كان مفعولا.
الرئيس الشهيد، عندما وقف أمام موته، ماذا قال؟ ماذا كانت آخر-آخر كلمة خرجت من فمه؟
(المرجلة) صارت هي الحد الذي لا حدَّ قبله. هي الأرض وهي السقف. فبالنسبة للمجاهدين الحقيقيين، صار كل ما دونها خيانة، وكل ما هو أقل منها نذالة.
ومرجلة الرئيس الشهيد أمام الموت لم تكن إلا تتويجاً وشهادةً بالدم، أمام مرجلة الموقف الباسل تجاه الاحتلال وكلابه وكل ما جاءوا به. وكله باطل. ولا تصح مع الباطل ألاعيب ولا مناورات.
وأمام الموت العميم الذي لحق بالعراق، لا تصح اتفاقات ولا تصلح أي مفاوضات.
ولأن الجريمة صارت أكبر من أن تُغتفر، فإن أي تسوية أو اتفاق أو مساومة ستكون فضيحةً ما بعدها فضيحة، وعاراً ما بعده عار.
ولا خوف على بعث العراق، ولا هم يحزنون.
في وقت من الأوقات، كان من بعض الوطنية والشرف أن يواجه المرء "حزب السلطة" بالانتقادات وبالمفاضلة بين الخيارات.
اليوم، صارت المواجهةُ مع حزب الجهاد مواجهةً مع الجهاد نفسه؛ مع قيمه وأخلاقياته ومبادئه السامية، بل صارت مواجهةً مع دماء المجاهدين الذين يبذلون الغالي والنفيس، ليس من اجل أن يحيوا، بل من أجل أن يحيا العراق وتعود راياته لترتفع في سماء الحرية والاستقلال.
في وقت من الأوقات، كان من بعض الوطنية والشرف أن يكون المرء شيوعياً، تكسر قلبه معاناة "البروليتاريا" وشقاء الفقراء.
اليوم، صار الشيوعيون (المناهضون للإمبريالية إياهم) يمشون وراء دبابات الإمبريالية ويقتاتون كالفئران من فتاتها، (لا يخجلون طبعا، من رفع راياتهم الحمراء ذاتها).
في وقت من الأوقات كان الوقوف، ولو بالسلاح، مع الأكراد نوعا من تأكيد الأخوة والمساواة بين أبناء الوطن الواحد.
اليوم، صار الوقوف الى جانب المليشيات الكردية وقوفا مباشراً وصريحاً مع اللصوصية والعمالة والتقسيم.
وفي وقت من الأوقات، كانت "الشيعوية" نوعا من الشعور التاريخي بالظلم والاستضعاف الذي يستجلب البكاء على "حسين" التمرد ضد الطغيان.
اليوم، صارت تلك "الشيعوية" ذاتها طائفيةَ ظلمٍ وتجبرٍ وجريمةٍ وحقدٍ وانحطاط، وحلّ سيفُ يزيد بن معاوية بيدها محل سيف الحسين، وتحولت "واقعة كربلاء" الى "كربلاءآت" ترسم "فرق الموت" وقائعها في كل ركنٍ من أركان وطنٍ-شهيد، حتى صار كل يوم من أيامه عاشوراء.
ولكن لا خوف عليهم.
كانوا حزب سلطة، فصاروا حزب قتالٍ وتضحياتٍ وشهداء.
وهم أبناء مجاهدين وآباء مجاهدين ورفاق مجاهدين، لا يخذلون الحرية، ويرفعون لواء الدين، ولن يقعوا في فخ التناحرات مع رفاق الطريق ضد الغزاة. لن يفقدوا بوصلة المقدس. لن يتفرقوا لتذهب ريحهم. لن يغلّبوا الخاص على العام، ولا الثانوي على الرئيسي. لن يفرقوا بين مجاهدين ومجاهدين. ولن يبخلوا على أي منهم بالعون والحماية. ولن تأخذهم العصبيات. ولن يتنابذوا بالألقاب. ولن يسألوا لأنفسهم شيئا إلا شرف الشهادة.
ذلك هو الحدّ الذي رسمه الرئيس الشهيد بدمه.
وهو حدُّ مجدٍ لا يقبل التسويات مع المجرمين والأوغاد، ومرجلةٍ لا تباع ولا تشترى بالجاه ولا بالمناصب ولا بالمال.
حتى إذا ما اقتضت الظروف أن تُجرى مفاوضات، فسيجلبُ كلُّ ممثل لفرق المجاهدين عنزته معه ،.......
ولا دَيْنَ لنا عليهم،
إلا الحرية، إلا العدالة، وإلا التآخي والمساواة


الاحد 17 محرم 1427 / 4 شباط 2007
نقلا عن شبكة البصرة