بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

 

طبخة الحصى
(كيف تصنع أزمة، وتحلها، فتحقق "نصرا")

 

 

شبكة المنصور

علي الصراف

 

هناك عنوان رئيسي واحد لـ"الأزمة" الراهنة في العراق هو: مصير حكومة نوري المالكي. ويحتل انسحاب وزراء "جبهة التوافق" (السنية) وممثلي جماعات عميلة أخرى من الحكومة مكانة القلب في هذه "الأزمة".
من تقرير وكالات الاستخبارات الامريكية الأخير، الى تقرير ديفيد بيترايوس وريان كروكر المزمع تقديمه في منتصف الشهر المقبل، فان "التقدم" في الوضع الأمني و"التأخر" في الوضع السياسي، هو حجر الزاوية لمشاغل الإحتلال ببيضاته.

وحتى وقت قريب كان "التقدم" في الوضع السياسي و"التأخر" في الوضع الأمني هو القضية.
و"التقدم" المزعوم، حسب هذه المسرحية التبادلية، لا علاقة له بأرقام العمليات التي يتعرض لها الاحتلال ومليشياته. فهذه مما لا يجب الحديث عنه.
ولئن تبدو القصة كلها قصة بيضتين، فلا شيء يمنع الاحتلال من ان يلعب ببيضاته. أما ان نتورط نحن بالنظر الى ما يفعله الرئيس جورج بوش بها على انها قضية القضايا، فهذا مما ترغب آلة الدعاية الامريكية في أن نقع فيه.

بعض إعادة ترتيب للحقائق قد يفيد:

* جبهة التنافق جزء لا يتجزأ من "العملية السياسية" التي يديرها الاحتلال.

* هذه العملية هي بالأحرى عملية نصب واحتيال على إرادة التحرير التي تتبناها غالبية الشعب العراقي.

* ثم انها جزء من مشروع التقسيم الطائفي للعراق. وجبهة التنافق لم تنخرط في موالاة الإحتلال والاستظلال بظله لانها جبهة وطنيين، بل لأنها جبهة مأجورين وعملاء وشركاء في الجريمة.

* العملاء يتصارعون عادة. ولا شيء يُفرح في تصارعهم سوى هذا التصارع نفسه. ولا سبيل للتعويل على أي شيء أبعد منه. وهو مفيد وضار. مفيد، اذا تحول الى ضرب حقيقي بالقنادر لا رجعة فيه. ويكون أفضل إذا تحول الى سفك دماء فيما بينهم. وسنقول: فخّار يكسّر بعضه. وضار، إذا إتضح انه مسرحية من فصلين: زعلٌ وتراضٍ.

* منافقو جبهة التنافق لا يطلبون، من بين كل مطالبهم، بانسحاب فوري وغير مشروط للاحتلال. كل ما يريدونه هو دور أكبر في حكومة يبدو انها لا تعطيهم دورا كافيا. "نائب الرئيس العراقي" المزعوم طارق الهاشمي ما يزال يدافع عن بقاء الاحتلال، وكذلك يفعل معظم الجماعات الأخرى التي قررت الانسحاب من الحكومة. وفي الواقع، فان ما يسمى بـ"تيار الصدر" (على الرغم من كل جرائم مليشياته وقادته) يقف على يسار دجالي التنافق من هذه الناحية. وفي هذا ما يكفي من العبرة.

* لا شك ان مطلبا من قبيل إطلاق سراح المعتقلين، هو مطلب شرعي ونبيل، ولكن من قال انه مطلب حقيقي بالنسبة لجبهة التنافق؟ ولماذا لا يكون غطاءً، أو حقاً لا يراد به إلا باطل؟ او مجرد دجل، لصنع أبطال مزيفين، كان وجودهم في "العملية السياسية" هو نفسه واحداً من أسباب إطالة الإحتلال وزيادة أعداد المعتقلين؟ (والكل يعرف ان قوات الاحتلال والمليشيات الطائفية التابعة لها تعتقل الناس "عامي شامي"، والكل بالنسبة لها "إرهابيين" و"صداميين" و"من تنظيم القاعدة". وهذه "العملية" (الاعتقالات العشوائية) كانت على الدوام جزءا من "العملية السياسية" ذاتها، لتركيع البيئة الاجتماعية للمقاومة).

* لا تمثّل جبهة التنافق أي أحد من العراقيين السنة. قبول هذه الخدعة سوف يعني تلقائيا قبول خدعة تمثيل "حزب الدعوة" و"المجلس الأعلى للثورة الإسلامية" وغيرهما من الأحزاب الصفوية، للعراقيين الشيعة. ضمائر العراقيين ووطنيتهم ووحدتهم الاجتماعية لا تسمح لطائفيين كهؤلاء بتمثيلهم. ثم ان هذا "التمثيل" لم يكن سوى نتيجة لتمثيلية أبشع، نجمت عن انتخابات كانت، بحد ذاتها، إهانة لكل معنى من معاني التمثيل الانتخابي (لانها كانت مسرحية طائفية) ولسلطة القانون (إذ لم يكن هناك قانون أصلا) ولقيم الحرية (لانها أجريت تحت الاحتلال وتطابقت نتائجها مع كل ما يرغب به).

الآن، وعندما يبدو هؤلاء كما لو انهم الشخوص الرئيسيون على مسرح الأحداث في العراق، وعندما يجعل الرئيس بوش اللعب بهم، كما يلعب ببيضاته، وكأنه قضية تستحق كل تلك التقارير والتكهنات والمشاغل، والتي سيتقرر على ضوئها "مصير حكومة المالكي"، ففي هذا من الضحك على الذقون أكثر بكثير مما يسمح به الحمير انفسهم. وهو قد ينفع (كاستراتيجية دعائية) في الولايات المتحدة، حيث يمكن استغباء 300 مليون انسان كل يوم، وعلى طول الوقت، فانه لا ينفع مع أناس يدفعون ثمنا باهظا للاحتلال كل يوم، وعلى طول الوقت.
الصحيح هو انه إذا كانت حكومة المالكي بيضة من بيضات الرئيس بوش، فان جبهة التنافق لا تعدو كونها بيضة أخرى. وكل واحدة أسوأ من الأخرى، لانهما نتاج الزيف نفسه، والجريمة نفسها، والاحتلال نفسه.

ما يبدو إضطرابا في موقف الادارة الامريكية (البيت الأبيض، الكونغرس، وكالات الاستخبارات) من حكومة المالكي، ليس سوى جزء من اللعبة. انها طبخة حصى، يُراد لها ان تعطي انطباعا بان هناك شيئا ما "جادا" و"خطيرا" يجري على "مسرح العمليات". وهذا المسرح هو الوحيد، على أي حال، الذي يستطيع طباخو الطبخة ان يقرروا نتائجها.

الدراما الحقيقية تجري في مكان آخر. وأبطالها حقيقيّون. ووقائعها ثابتة وتسجل كل يوم إنجازا ميدانيا. انها دراما المقاومة الوطنية والاسلامية ضد الاحتلال وعملائه ومليشياته الطائفية.

لقد كان من حق بعض فصائل المقاومة ان تمنح اطراف جبهة التنافق فرصة للانفصال عن "العملية السياسية". للتبرؤ منها. والتراجع عن خطيئة الوقوف تحت ظل الاحتلال (لا عن خطأ الانتساب لحكومته).

وهذه الفرصة جزء من الدراما. فكلما تم فصل متحلقين حول بقرة الاحتلال، كلما ضعف الاحتلال وتداعت بيضاته. وما يزال أمامنا بعض الوقت لنرى الى أي حد سيذهب أطراف جبهة التنافق في تنافقهم، وكم سيكشفون من مخادعات وألاعيب مبتذلة. ولا حاجة الى ان نقرر هنا سلفا سيناريوهات التراضي. فهذا الفصل قادم، وسيراه كل الناس. وستحوّل وكالات الدعاية الامريكية الابتهاج به ليبدو وكأنه عيد (بل وقد يتزامن أيضا مع عيد رمضان المقبل، لتكون بهارات الخدعة ملطخة بما يكفي لتصوير الحصى على انه "فسنجون").

ولكن هذا المسرح شيء. ومسرح الواقع شيء آخر. فإذا كان هناك من مرجل يغلي فهو مرجل المقاومة التي تحوّل حياة الاحتلال الى حجيم.
وفي داخل المرجل فان كل حكومة المالكي، بكل أطرافها وجماعاتها ومليشياتها وحرسها الثوري الايراني، لا تشكل سوى شخص ثانوي تافه القيمة، بل عديم الأهمية، أزاء دورالاحتلال وقواته.

صحيح ان المالكي يتجول في بعض دول المنطقة كما لو انه الجنرال فيشي، وصحيح انه يُقدَّم كما لو انه رئيس وزراء دولة حقيقية، لا دولة افتراضية، إلا انه لو كان قادرا على تشغيل دكّانين ومحطة كهرباء في بغداد، لكان الأمر هيّنا. ولو كانت حكومته تجرؤ على الخروج من المنطقة الخضراء، لكان إضطراب الموقف منها يستحق الاهتمام. ولكن، أما وإن هذه الحكومة لا تعدو كونها حكومة "بيض اللقلق"، فبحق أي جحيم يكون مصيرها مهما؟ وكيف يجوز للاعبين صغار حولها وفي جوارها ان يكونوا شغلا شاغلا؟


ما تفعله الولايات المتحدة هو انها تصنع مسرحا. وتدفع "أبطالها" المزيفين ليمثلوا فيه. فتحض هذا على ضرب ذاك، لتصنع "أزمة". وكلما بدت "الأزمة" خانقة أكثر، كلما أصبح تصديقها أكبر. وحيث ان هناك الكثير من السذج الذين يرغبون بأن يلعبوا دور الذي يُصدّق كل ما يقال له، فسيكون هناك "جمهور" إفتراضي يستبدل جمهورا حقيقيا. وعندما يبدو ان "الأزمة" أصبحت على وشك الانفجار وصارت عواقبها وكأنها "وخيمة"،... يأتي "الحل". فيتنفس الجمهور الافتراضي الصعداء. ويتحقق "تقدم" في "العملية السياسية"، يناظر "التقدم" المزعوم الذي يتحقق في "العملية الأمنية". وتعود البيضتان لتستويان في مكانهما. ويكون "نصرا".
هذه المسرحية، اليوم، هي من اخراج الرئيس جورج بوش وتمثيل نوري المالكي وطارق الهاشمي. سيناريو وحوار وكالات المخابرات الامريكية. ومونتاج مسؤولي الدعاية في البيت الأبيض.

وعلى أي حال، فهذا هو "مسرح العمليات" الوحيد الذي تملك الولايات المتحدة التحكم فيه. وبرغم ان التمثيلية بليدة والممثلين عديمو الموهبة، فمن دونها، ماذا تستطيع الولايات المتحدة ان تفعل؟
لقد جربت الولايات المتحدة نحو عشر استراتيجيات مختلفة. وغيرت حكومات وادارات في العراق سبع مرات. وأطاحت المواجهات الميدانية، على مسرح الدراما الحقيقية، بحشد من القادة العسكريين ليس أقلهم قائد القيادة المركزية الوسطى جون ابي زيد ووزير الدفاع دونالد رامسفيلد، وثلة من قادة القوات في العراق. ولكنها فشلت مرة، بعد مرة، بعد مرة. وهي فشلت ليس لأن إمّعاتها وخردوات براغيها كانوا يتصارعون، بل لأن أبطال المقاومة ظلوا على صراطهم المستقيم سائرين، وبوصلتهم ثابتة.

إذا كان هناك من مأزق يواجه الاحتلال في العراق، فهو المأزق الذي تصنعه المقاومة. هذه هي الدراما الحقيقية التي تدور فصولها على مسرح الواقع. وفي هذه الدراما فان الاحتلال وحكومته ومليشياته وزبانيته، كلهم، في صف واحد. والمقاومة، بكل فصائلها الوطنية والاسلامية ومعها الشعب العراقي، في صف آخر. وهذا الشعب ليس شعبا إفتراضيا. ومعاناته ليست معاناة انترنتية. وضحاياه حقيقيون. وصراخهم يهز ضمائر كل من لديهم ضمائر، وآلامهم تراجيديا إنسانية لم تعرف الإنسانية مثيلا لها من قبل. وأرقامهم بالملايين، قتلى ومشردين ومعذبين ومعتقلين.

ما يجري مجزرة وحشية. وفي مقابلها، وبسببها، توجد مقاومة.
و"أبطال" المجزرة واضحون، وبيضات الاحتلال جزء منها. وأبطال المقاومة واضحون أيضا.
هنا أصل المعركة.
وهذا هو المرجل. انه من اخراج وتمثيل وسيناريو وحوار الضحايا والمعذبين أنفسهم.
وهؤلاء، على صراط المقاومة المستقيم، سيأخذون بثأرهم من الاحتلال بمقدار ما يأخذون من عملائه. وسيلاحق الضحايا عملاءَ الإحتلال واحداً واحداً، بما جنت أيديهم وما كسبت. ولن يغفروا لهم دم بريء واحد، ولا دمعة أمٍ واحدة.
وبيننا الأيام. والأيام دول.

alialsarraf@hotmail.com

 

 

 

 

شبكة المنصور

السبت / 25 / أب / 2007