بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

 

وصفة للخراب: احتلال ، ديمقراطية ، فحرب أهلية

 
شبكة المنصور
علي الصراف
 

 لا يبدو ان هناك أي صلة للحرب الأهلية الدائرة في العراق بالحرب الأهلية الدائرة في فلسطين. ولكن في كلا هذين البلدين، وعلى تفاوت "القضايا" فيما بينهما، هناك وجه تشابه يجعل منهما حربا واحدة، تُخاضُ بأدواتٍ واحدة، وتحقق نتائج واحدة. وهي حربٌ تندلع (إذا كنت لا تدري) في ثلاثة أرباع الدول العربية، وتنتظر شرارة الانفجار لتتحول الى فصائل مسلحة، فحرب أهلية لا تختلف كثيرا عن حرب العراق وفلسطين الأهلية.

هنا وهناك يوجد احتلال.

هنا وهناك يوجد تناحر هو ثمرة "الديمقراطية" تحت الاحتلال.

فإذا استبدلت كلمة "احتلال" لتكون "تدخلات وضغوطاً  خارجية"، فسيكون بوسعك ان ترى الخيط الواصل بين حربي العراق وفلسطين الأهلية وبين كل الحروب الأهلية المزمعة في ثلاثة أرباع الدول العربية.

ففي كل مكان توجد تدخلات وضغوط خارجية (من اجل الديمقراطية).

وفي كل مكان سيكون هناك تناحر هو ثمرة "الديمقراطية" في ظل تلك التدخلات  والضغوط.

وبما ان المشروع هو مشروع "ديمقراطية" (يغري تلقائيا حشدا من الغوغاء وأنصاف المثقفين وبعض النخبة) فان هدماً لمسجدٍ هناك، وتفجيرا ضد أبرياء هناك، سيكونان كافيين تماماً لتوفير الاستقطابات والانقسامات الملائمة لاندلاع حرب أهلية. وحيث توجد في كل مجتمع عربي نسخ كثيرة من احمد الجلبي وأياد علاوي ونوري المالكي وغوغائيون (أعوذ بالله) مثل... مقتدى الصدر، فلن يصعب على شيوخ الافتاء ان ينقسموا بين داعٍ للانتخابات ورافضٍ لها (هم الذين ينقسمون على كل شيء أصلا)، فتكون فتنة، وتكون... ديمقراطية، ويكون سفك دماء له أول وليس له آخر.

والمعادلة ليست صعبة على الفهم، على أي حال.

فعندما يكون هناك احتلال، تكون القسمة الطبيعية هي: وطنيون في مقابل غزاة. وهذه القسمة تعني ان شعبا بأسره سيقف، موحدا، الى جانب قوى المقاومة في مواجهة قوة الاحتلال والغزو.

فاذا نجح الاحتلال (كما هو حاصل في العراق وفلسطين) في الدفع باتجاه "الديمقراطية" (تارة كشرط لتحقيق الانسحاب، وأخرى للظهور بمظهر نبيل) فان القسمة الطبيعية ستنقلب لتكون انقساماً بين وطني وآخر؛ بين مشروعٍ أيديولوجي وآخر، وبالتالي بين مسلحٍ وآخر.

وحيثما يوجد احتلال، ستكون هناك أفضليات وتمايزات يغذيها الاحتلال نفسه، فيدعم هذا على حساب ذاك، ويعطي لهذا ما لا يعطيه لذاك. المستفيدون سيجدون انفسهم مرتبطين بالاحتلال (ويطالبون ببقائه)، والمتضررون سيجدون في المستفيدين "عملاء" و"جواسيس" و"خونة"، فيكون تناحرٌ، ويكون دمٌ، وتكون حربٌ أهليةٌ، المستفيد الوحيد منها هو الاحتلال.

في ظروف كهذه، هل يبدو مجرد هراء ان يقول الرئيس الامريكي انه يعتزم البقاء في العراق لخمسين عاما؟

في الواقع، فان ما يبدو هراء مجردا، ليس سوى منطق شديد الواقعية. وكلما بدا ان أوار الحرب الأهلية ينخفض، فان هدم مئذنة أخرى، لمسجد تم هدمه من قبل، لن يكون عسيرا لرفع حمية الغوغاء الشيعة ولتجديد انخراطهم في المسعى "التحرري"، ليس من الاحتلال وانما... للتخلص من "اخواننا السنة".

وفي سياق هذا المشروع "التحرري" (القائم على أسس ديمقراطية) سيكون من الجائز هدم مساجد السنة، ومحاصرة احيائهم بأسوار اسمنتية، وقتل أبنائهم على الهوية، و.. بعد اكثر من مليون ضحية، وخمسمائة ألف لجنة تحقيق، لن يتم إلقاء القبض على متهم واحد بجريمة قتل طائفية. فما أحلاها من ديمقراطية، يدافع عن بقائها جورج بوش، ويجد فيها توني بلير نموذجا يستحق التضحية.

ولئن كان عملاء الاحتلال هم الذين يمسكون بالسلطة في العراق تحت ظلال زيزفون دباباته، فان أعداء الاحتلال هم الذين يمسكون بالسلطة في فلسطين، انما تحت ظلال الزيزفون نفسه.

وهذا مما يجعل الفارق ضيئلا. فـ"الخدمة" التي تؤديها "الديمقراطية" للاحتلال هي نفسها الخدمة: إنقسام الوطني بين أبيض وأسود؛ "حماس" و"فتح"؛ شيعة وسنة. وانقسام السياسي بين "مقاوم" و"عميل"؛ "مناضل" و"خائن". وانقسام النخبة بين "مستفيد" و"متضرر"؛ "نزيه" و"فاسد".. وهكذا الى الأبد. وكله يمر من تحت ظلال الاحتلال نفسه، وكله يتم (مهما بدا متناقضا) بتدبير ومعونة المستفيد النهائي والأوحد.

وفي ظل انقسامات "الديمقراطية" فان المعطى التحرري الحقيقي هو الذي ينقلب رأسا على عقب. ولا تعود القضية هي نفسها القضية. وسرعان ما يتحول التخلص من الاحتلال الى قضية هامشية، مؤجلة، سيتم التعامل معها، انما... بعد التخلص من "اخواننا السنة" او "اخواننا الفتحاويين" او "اخواننا الاقباط" او "اخواننا الدارفوريين" او "اخواننا المتطرفين" او "اخواتنا اللواتي لا يرتدين الحجاب".

 ثم ان هذا التصميم ليس غبيا. وبعض النخبة الذي يتبناه ليس غبيا أيضا.

قضايا التحرر التي تواجه المجتمعات العربية منذ أوائل القرن الماضي، دفعت بها لتكون معادية للاستعمار والأجنبي والخارج.

هذا الخارج، الذي وجد نفسه مطرودا وتتعرض مصالحه للمضايقات، يعود اليوم حاملا لواء "الديمقراطية" و"حقوق الانسان"، ليحفر لنفسه موطئ قدم يبدو "أخلاقيا" و"انسانيا" و"حضاريا".

- وفي حين صارت هناك عمارة شاهقة من الأفكار والتنظيرات والأوهام  حول "الديمقراطية" و"التحضر" التي لا تستطيع نخبة العمى التراجع عنها،..

- وفي حين ان قوى الاقتصاد والعلاقات الدولية تدفع كلها في اتجاهات "تدعم" خيارات "الانفتاح" و"العولمة" و... "حوار الحضارات" بالكثير من استلاب الخصوصيات والمصالح الوطنية،..

- وفي حين لا توجد بدائل فكرية وأيديولوجية كافية لأيديولوجية الديمقراطية،..

- وفي حين يبدو العجز الثقافي شاملا، ومثله الضغوط الاقتصادية والاجتماعية،..

فان خيارات "النقل" تعود لتسبق خيارات "العقل"، ولتبدو "الديمقراطية" وكأنها البلسم الشافي لكل الأمراض والجروح والمعضلات، انما من دون مراجعة ما تعنيه كأداة حديثة من أدوات الهيمنة والغزو وصنع الفوضى.

والمشكلة، ليست بطبيعة الحال، في الديمقراطية نفسها كنظام قيم. وانما في حقيقة ان الغرب، وشركات المصالح الغربية، تستخدمها كأداة لممارسة أعمال الابتزاز، وليس لنشر الحرية؛ كسلاح من أسلحة الاقتصاد والتجارة، وليس لمراعاة حقوق الانسان؛ وكوسيلة لاحتلال "الضفة الأخلاقية المرتفعة" حيث يبدو الغزاة، برغم كل ما يرتكبونه من جرائم وأعمال وحشية، نبلاء وانسانيين ويؤدون وظيفة "حضارية".

قبول خدعة الديمقراطية، والانخراط المخزي في آلياتها قد يكون أسفر عن نشوء سلطة لا قيمة لها في بعض الضفة الغربية وغزة، ولكنه منح الاحتلال الاسرائيلي فرصة لكي يغسل جرائمه ويبدو "أخلاقيا" و"متحضرا". وفي حين ان مواجهة الاحتلال لم تعد هي القضية، فان تناحرات "الديمقراطية" الفلسطينية هي التي تمنح الاحتلال اليد العليا، وهي التي تظهره وكأنه ليس هو القضية.

الشيء نفسه يحصل في العراق. فـ"الديمقراطية" هناك قد تكون أسفرت عن سلطة متعفنة، تسمح لـ"الأغلبية" ان ترتكب كل ما تشاء من الجرائم والأعمال الوحشية، دع عنك النهب والفساد، إلا انها تفعل ذلك كله لتجعل الاحتلال يبدو وكأنه جاء ليؤدي "مهمة حضارية"، والفشل فيها ليس من مسؤوليته وانما من مسؤولية الاحزاب المنخرطة في "العملية السياسية" ذاتها، (وبخاصة لانها لم تتمكن من القضاء على "الجماعات الإرهابية" التي... تقاوم الاحتلال).

وإذ يعني الفشل انه لا إستقرار ولا أمن ولا رفاهية، فانه بدوره مفيد لبقاء الاحتلال "حتى يمكن للديمقراطية الناشئة ان تستقر".

وبعد خمسين سنة، سيكون لكل حادث حديث.

هل هناك فضيحة اكبر من هذه.

قد يستطيع المرء أن يقدر كم نحن أغبياء وسطحيون، ولكن هل كان يُعقل ان نصل الى هذا الحد من انحطاط القدرة على رؤية الواقع الذي نتلظى فيه؟

 ومع ذلك فان تصميم هذا النمط من "الديمقراطية" ليس غبيا.

فالحال، هو ان "ديمقراطيتنا" (على كل تفاهات صنعها وعشوائية إدارتها وفساد وسائلها ونقصها الفادح لقيم القانون وعوزها الشديد لكل معطى أخلاقي من اخلاقيات الديمقراطية) كانت شيئا مقصودا بذاته.

أولا، لان المراد منها لم يكن احلال قيم الديمقراطية، وانما إحلال قيم الفساد السياسي والتناحرات التي تسمح للاحتلال بالبقاء.

وثانيا، لأن وظيفتها الجوهرية هي ان تكون أداة للفوضى وإلقاء المجتمعات-الضحية في غياهب الجحيم، حيث لا يعود هناك ضابط يمكنه ان يوقف انهياراتها عند حد، وحيث لا يعود بإمكانها العودة حتى الى عهود "الاستقرار" النسبي السابقة.

وثالثا، لانها تجعل التمزقات الوطنية الداخلية أبدية، الى أقصى حد، بكل ما تنطوي عليه من ضغائن وأعمال ثأر وأحقاد، يبدو معها الاحتلال وكأنه نعيم. (ولهذا السبب، فمثلما انطلقت كلاب الغزاة لتقتل الأبرياء خبط عشواء في العراق، بل حتى وهم جرحى في المستشفيات، فقد انطلقت كلاب الاحتلال لتقتل الابرياء خبط عشواء في غزة والضفة الغربية، حتى وهم جرحى في المستشفيات أيضا).

ورابعا، للدلالة على اننا "متخلفون" وعلى اننا "شعوب همجية"، وبالتالي فان ضحايانا لا يساوون من حيث القيمة ضحاياهم، وعلى ان الغرب "الحضاري" و"المتفوق" و"المتقدم" يستطيع ان يعصف بنا (او بأراضينا ومقدساتنا وثرواتنا) كما عصف بالهنود الحمر، او كما عصف باجيال من "العبيد" الذين سيقوا بالسلاسل ليخدموا في إقطاعيات "الرجل الأبيض" (المتحضر).

وسواء أكان عملاء الاحتلال وغوغاؤه واحزاب عمليته السياسية في العراق يفعلون كل هذا عن دراية او عن غباء، فانهم يفعلونه، بلا حول ولا قوة، لانهم صاروا منخرطين في ماكينة تدور بهم، ولن يمكنهم الخروج منها إلا مطحونين.

وسواء أكان مقاتلو "حماس" و"فتح" يفعلون الشيء نفسه عن دراية او غباء، فان ماكينة "الديمقراطية" ستظل تدور بهم، بآليتها التي صارت أكبر منهم، لتطحنهم معا ولتجعل من تناحراتهم هي كل ما يبقى من "القضية الفلسطينية".. حيث يصبح احتلال المقرات الأمنية هو "القدس الشريف"، وحيث يصبح "حق العودة" من المستشفيات احياء، هو "حق العودة".

مع ذلك، فهناك شيء واحد مفيد في هذا الإنهيار كله. هو ان تنهار السلطة الفلسطينية، وتنهار خدعة الديمقراطية، مثلما يجب ان تنهار سلطة العفن  والانحطاط "الديمقراطي" في العراق.

فاذا أمكن العودة من مستنقعات الضغائن والأحقاد الى حقول المقاومة ضد الاحتلال، والى حقول الجهاد المقدس من اجل الحرية والسيادة والاستقلال، فان سحر الفوضى سينقلب على الساحر، وتتعطل الماكينة.

اما الذين ما يزالون يدافعون عن "الديمقراطية" (حتى وهم يرون ما تعنيه)، فيجب القول لهم: إخرسوا. لانكم، عن دراية أو غباء، لستم سوى مرتزقة حرب أهلية مقبلة. إخرسوا، او ابحثوا عن صياغات حضارية لا نكون معها مطايا لغرب "متحضر" مع نفسه وحقير علينا.

عطّلوا ماكينة الفوضى. وعودوا لتدوير ماكينة التحرر الأصلية. فالغزاة هم الذين يجب ان يخرجوا أولا. الاحتلال هو المشكلة. ولانه كذلك، فانه لا يصلح، بطبيعته، ان يكون جزءا من الحل.

الديمقراطية هي قضية سلطة. ولكن مع وجود الاحتلال (والضغوط والتدخلات الخارجية) فان القضية هي قضية حرية.

أخرجوهم من ديارنا أولا. وبعدهم فليكسب من الاستقلال والسيادة والحرية من يكسب. هذا هو المدخل الصحيح لاستعادة "القضية" بوصفها قضية حرية أولاً، لا قضية سلطة.

وضعُ قضية السلطة، مع بقاء الاحتلال، قبل قضية الحرية، هو بالضبط مثل وضع العربة أمام الحصان. وهو دليلٌ ساطعٌ على انخراطٍ، سافلٍ وأعمى، في مشاريع الاحتلال.

انه وصفة للخراب، لا أكثر. وثمنه، كما ترون، مروع.

 alialsarraf@hotmail.com

 
 
 
شبكة المنصور
الاحد / السابع عشر / حزيران / 2007