بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

 

قليل من وفاء وعرفان للرفيق المناضل طارق عزيز

 

 

شبكة المنصور

سعد داود قرياقوس

 

لا ريب بأنَّ القسم الأكبر من الساسة قد يلد كنتاج طبيعيٍّ أو عرضيٍّ لتفاعلات مجريات أحداث الحاضر الكبرى، ثمَّ يخطُّون مسارهم فيه، ويتركون للتاريخ سجلاَّتهم. وقليل هم مَن يصنعون تاريخهم الشخصي، والرفيق المناضل طارق عزيز أحدهم، من خلال نضال دوؤب وإيمان صلبٍ بقوميَّاتهم وشعوبهم وعقائدهم وأحزابهم وأهدافهم. فلا غرو أن ساهم طارق عزيز في كتابة تاريخ مرحلة من أخصب مراحل تاريخ العراق عطاء وازهارًا وعنفوانًا، فاستحقَّ منزلة لن يتمكَّن الجلاوزة من النيل منها، وحقَّا لن يقووا على إغماطه.

هذه المساهمة لا تشكِّل شهادة لنضال طارق عزيز وعطائه الوطني، فالرجل لا يحتاج إلى شهادة كاتب هذه السطور أو غيره. إنَّها كلمة حقٍّ في ساعة شدَّة ومحنة، واعترافٌ واجبٌ في حقِّ مَن يحاول الباطل إزهاقه. هي محاولة للتعبيرعن تضحيات هذا المناضل وعائلته الكريمة، وتقديرنا للخدمات الكبيرة التي قدَّمها لأبناء أمَّتنا وحزبنا، واعتزازنا به رفيقًا وإنسانًا ومفكِّرًا وصديقًا.

ساهم هذا العربي الأصيل في بناء تجربة النهضة الحضاريَّة والاجتماعيَّة والاقتصاديَّة التي قادها حزب البعث العربي الاشتراكي منذ اللحظات الأولى لانطلاق ثورة 17-30 تمُّوز حتَّى الساعات الأخيرة لدخول البرابرة وعصابات الحقد العنصري والطائفي بغداد ومدن العراق الأخرى. فعلى امتداد تلك التجربة الطويلة والكبيرة، برهن الرفيق طارق عزيزعلى جدارته في أداء المهمَّات الرسميَّة والحزبيَّة التي أنيطت به. وأكَّد كفاءته بالمركز القيادي الذي تبوَّأه بكلِّ جدارة واستحقاق.

ولا عجب أن قاد استعراض فقرات سجلِّ العطاء الوطني للرفيق الكبير إلى الاستنتاج بأنَّه لم يكن مجرَّد رجل دولة شغل مناصب حكوميَّة تقليديَّة، بل قائدًا حقيقيًّا ومناضلاً صادقًا ومفكِّرًا من طراز متميِّز استوعب تاريخ شعبه وأمَّته، وفهم التحدِّيات التاريخيَّة التي تواجه المشروع القومي، إلى جانب الحنكة السياسيَّة والإمكانيَّات الثقافيَّة والفكريَّة. لقد تميَّز الرفيق طارق أيضًا بدماثة الخلق والتواضع والبساطة في علاقاته الإنسانيَّة، وبالصلابة والشجاعة في إيمانه المبدئي بعقيدة الحزب الذي كرَّس وجوده وذاته من أجله.
لقد كان الأستاذ عزيز وزير إعلام متميَّز ووزير خارجيَّة من طراز خاص. هذا ما يشهد له أعداء العراق قبل أصدقائه. فلا عجب أنَّ عطاءه لم يقتصرعلى الجوانب الإعلاميَّة والدبلوماسيَّة، بل امتدَّ ليشمل معظم مرافق الحياة العامَّة، وأوجه العمل الحزبي، كمشاركته رفاقة من أعضاء القيادة القطريَّة للحزب في ردِّ العدون الإيراني على شعب العراق ودحره.

لقد تعرَّض الأستاذ طارق عزيز بعد اعتقاله من قوَّات الاحتلال إلى حملة بشعة ورخيصة مليئة بالتخرُّصات والإشاعات الكاذبة والملفَّقة من أجل النيل من سمعته وكرامته وتاريخة الوطني المشرَّف. فقيل بأنَّه ساوم المحتلِّين على إطلاق سراحه مقابل التنازل عن مبادئه وقيمه. لكنَّنا شاهدناه في قاعة محكمة المحتلِّين صلبًا كجبال العراق الأشم. وأُشيع بأنَّه سيكون شاهدًا لصالح الإدَّعاء العام ضدَّ قائده الكبير، فأخرسهم في شهادة رائعة تُسجَّل في صفحات التاريخ عندما قلب "السحر على الساحر"، ونطق بكلمات حقٍّ لا يستطيعها إلاَّ الكبار الكبار في ساعات حسمٍ وتحديد مصير دفاعًا عن مسيرة القائد والحزب والعراق.

لم تكتفِ ألسنة السوء بما علكت من أوهام وتقيَّأت من نجس ورجسٍ، فراحت تزعم بأنَّه أُخرج سرًّا من العراق، وجعلت مكان إقامته باريس مرَّة، وروما أخرى وجزر القمر مرَّة ثالثة، وهكذا دواليك، فإذا بالبطل الأسير ما يزال مع رفاقه المؤمنين الصابرين نزيل زنزانة العزَّ والشرف يحرسها قردة تشبَّهوا بالرجال، وبئس ما يفعلون.
تجلَّت شجاعة الرفيق طارق عزيز بشكل واضح في موقفه الرجولي المساند لشهيد الأمَّة العربيَّة الأكبر الرفيق القائد صدَّام حسين أثناء جريمة المحاكمة خاصَّة. ففي الوقت الذي رفض مَن كان يُفترض بهم الشهادة لصالح الرفيق الشهيد، أصرَّ الرفيق طارق على الإدلاء بشهادته مدافعًا عن شعب العراق والحقِّ والقائد الشهيد. فرفضت سلطة الاحتلال وجلاوزتها قبوله كشاهد، وهدَّدوا الرفيق طارق بالويل والثبور، إلاَّ أنَّه أصرَّ على موقفه الذي يميليه الضمير ويوجبه الالتزام الخلقي والمبدئي مع ما يعانيه من وضعه الصحِّي المتدهور، وإدراكه تبعات الشهادة لصالح العراق والقائد.

حضر الرفيق إلى قاعة المحاكمة مرتديًا ملابس النوم بعد أن صادر سجَّانوه ملابسه لمنعه من الحضور بعد أن تأكَّدوا من أنَّه لن يساوم في موقف العزِّ، ولن يلين في وقت الشدَّة، ويقول قول الحقِّ على غير ما يريدون. أراد أن يسجِّل للتاريخ والأجيال شهادة ستظلُّ مدوَّنة بأحرف من نورٍ على صفحات العراق الخالد تُعلي أبطاله وهم شهداء عند ربِّهم يُرزقون، وتُدين مناجذ العراق وحرباواته وهم أحياء لا ترتفع قاماتهم إلاَّ بما يتساوى مع موطئ الأقدام.

لقد سعدت وتشرَّفت بمعرفة الأستاذ طارق وأفراد عائلته الكريمة. لم أكن قريبًا من الأستاذ طارق وظيفيًّا أو حزبيًّا مع كلِّ الأسف، لكنَّني راقبته عن كثب في الكثير من الندوات السياسيَّة على امتداد برهة طويلة من الزمن. وأتيحت لي الفرصة أن أشاهده عن كثب وهو يحاور شخصيَّات سياسيَّة عربيَّة وأجنبيَّة بكلِّ جدارة واقتدار. وسعدت بلقائه على إنفراد، فزاد إعجابي بهذا الرجل المتواضع الكبير.

هذه مجرَّد كلمات وفاء إلى رجل يفتخر به كلُّ عراقي وعربي أصيل. كلمات لم تتح لنا الفرصة للتعبير بها إلى الرفيق العزيز مباشرة.

فللرفيق الكبير تمنِّياتنا بالصحَّة والعمر المديد، آملين أن نراه حرًّا عزيرًّا مكرَّما كما عهدناه، متطلِّعين قُدمًا إلى لقائه قريبًا في ربوع العراق المحرِّر.

لك سيِّدي ورفيقنا العزيز، نقف تقديرًا وعرفانًا واعتزازًا لكلِّ ما قدَّمته للعراق والأمَّة العربيَّة والإنسانيَّة خلال تجربتك النضاليَّة الكبيرة.

 

 

 

 

شبكة المنصور

الخميس / 02 / أب / 2007