بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

 

الحصار على الامة والمقاومة

 
شبكة المنصور
د. محسن خليل
 

في السنوات الخمس والاربعين الاولى بعد الحرب العالميةِ الثانية لم تصدر قرارات من مجلس الامن بشأن العقوبات الاقتصادية الا في حالتين : هما روديسيا 1966 وجنوب افرقيا 1977 . ومنذ أنتهاء الحرب الباردة لجأ مجلس الامن بصورة متزايدِة الى العقوبات الاقتصادية الجماعية ، وخاصة ضد الدول العربية حيث فرضت العقوبات والحصار على خمس منها :العراق ، ليبيا ،السودان ،سوريا،الصومال، اضافة الى فرضها على دول يوغسلافيا السابقة ،ليبيريا ،أنغولا ،رواندا، هاييتي ..

أرتبط تزايد اللجوء الى العقوبات الاقتصادية ، بانتهاء الحرب الباردة وانفراد الولايات المتحدة بالهيمنة على النظام الدولي في مرحلته الانِتقالية ، الامر الذي اتاح لواشنطن التوسع في حمل الامم المتحدة على أستخدام الحصار كأداة لتنفيذ سياستها الخارجية ليصبح الحصار من وجهة نظرها أستمرارا للحرب ، ولكن بوسائل العزل السياسي والخنق الاقتصادي والاستنزاف البطيء والمتراكم لقدرات الدول المحاصرة ،الى ان يتم أجبارها على الاستسلام الكامل للهيمنة الامريكية الصهيونية او تنهار مقاومتها تحت وطاة الحصار أو يكون قد تم أضعافها الى الحد الذي يصبح شن الحرب عليها وأحتلالها بكلفة متواضعة أمرا ممكنا ..

الحصار على الامة لم يبدا مع فرضه على العراق وليبيا عامي 1990 و 1992 ، وأنما سبقه بأمد بعيد ..ويمكن القول أنه بدأ منذ أن تبلور مشروع نهوضها  القومي في النصف الاول من القرن التاسع عشر أنطلاقا من مصر ،في ذلك التاريخ حوصرمشروع النهضة من قوى دولية عاتية نجحت في  أجهاضه وهو ما يزال في مرحلته الجنينية ، وما تزال ذات القوى تحاصرمحاولات النهوض المتكررة وتستنزفها بمعارك من كل الانواع :سياسية وأقتصادية وعسكرية ،وأثارة الفتن الداخلية ونزاعات حدودية ، وحروب مع دول الجوار ،وسوف يستمر الصراع الى ان تثبت الامة ان مشروعها النهضوي القومي غير قابل للوأد .. لقد ضُربَ مشروع النهضة أكثر من مرة ولم تيأس الامة او تستسلم ، وفي كل مرة كانت المواجهات دموية وضارية ومصيرية ،والامة تقاوم دون توقف ،وكلما ضرب أحد مراكز انطلاق نهضتها ، برز مركز آخر يحمل الراية ويواصل المسيرة ، ولعل هذا يفسر أسباب أستمرار الصراع طيلة حقبة التاريخ الحديث والمعاصر، وأتخاذه طابعا شاملا حتى عندما تسكت المدافع ، أذ يظل الصراع على الجبهات الاخرى قائما ومستعرا . .. لقد ضرب مشروع النهضة ثلاث مرات ،مرتان في مصر على عهد محمد علي والخالد جمال عبدالناصر ، والثالثة في العراق على عهد الرئيس الشهيد صدام حسين .. وبين هذه وتلك  فرضت على الامة اتفاقية سايكس بيكو ووعد بلفور وجرى استيطان فلسطين وأقامة الكيان الصهيوني وأُجهضت وحدة مصر وسوريا عام 1958 ،وفجِّرَتْ الحرب الاهلية في لبنان وحوصر العراق وأحتل ، وضربت ليبيا وحوصرت ، وشنت الحرب عام 1994 ضد وحدة اليمن   الخ .. كل ذلك حصل من اجل أجهاض مشروع النهضة وأبقاء الامة في حالة تخلف أقتصادي وجمود أجتماعي وضعف عسكري وتفتت قومي ..

حوصرت الامة على كل المستويات وفي كل المجالات ،ومنعت بوسائل جهنمية من الحصول على مستلزمات ومقومات الانتماء الى روح العصر . صحيح أن أخطاءً ارتكبت وضُيِّعتْ فرصا مهمة ،وطال امد الفرقة والصراعات بين الانظمة العربية، ولكن كل هذا لا ينفي حقيقة ان الغرب والصهيونية فرضوا عليها الحصار والتخلف والاستنزاف وفق استراتيجية طويلة الامد ، فرضوها على جميع الدول العربية ؛تلك التي تبنت سياسات أستقلالية وطنية وقومية ، وتلك التي تبنت سياسات ليبرالية موالية للغرب وغير معادية للصهيونية ..فالغرب يدرك أن العرب امة واحدة وان النهوض في أي جزء منها ، سوف ينتشر الى الاجزاء الاخرى بطريقة الاواني المستطرقة ، ولذلك رصدوا التطور ومنعوه او عطلوه خاصة في الدول التي لديها مقومات النهضة الحقيقية وكانت عبر التاريخ مراكز حضارية متألقة العطاء والابداع ..

هذه الحقيقة اكدها شوفنمان وزير الدفاع الفرنسي الذي أستقال من منصبه خلال حرب الخليج الثانية أعتراضا على الحرب وضمَّنَها في كتابه ( أنا وحرب الخليج)  الذي صدر عام 1992 حيث جاء فيه {{ كل مرة أراد العرب فيها أن يردموا هوة تخلفهم ويقيموا وحدتهم ، كانوا يجدون الغرب في طريقهم ، ليسجنهم داخل حدود مصطنعة أو ليعيدهم الى الوراء ولو بقوة السلاح .. حدث هذا قي الماضي مع محمد علي ومع عبدالناصر ، ويحدث الان مع صدام حسين }} هكذا انتزع الغرب المرة تلو الاخرى ،فرصة العرب من أيديهم لتحقيق تحررهم الحقيقي ونهوضهم الحضاري ..

 لقد صمم الغرب الاستعماري سياسة العجز العربي الرسمي منذ حرب عام 1948، ثم حولتها أنظمة عربية معروفة الى أستراتيجية دائمة ، بأسمها تم تبرير كل التراجعات والتنازلات غير المبررة التي ساعدت في تكريس الكيان الصهيوني المنزرع في الارض العربية  . وفي الوقت نفسه كان الحصار على الامة يشتد ويضيِّق الخناق عليها ويمنعها من الحصول على التقنيات المتقدمة ويعرقل بناء قدراتها الاقتصادية والعسكرية ويستدرج مواقع التحرر فيها الى معارك أستنزاف متواصلة في الوقت الذي وضعت تحت تصرف الكيان الصهيوني أحدث التقنيات العسكرية والعلوم وأكبر القدرات الاقتصادية والدعم السياسي الدولي غير المسبوق .

تكشف بعض تصريحات قادة العدو بوضوح خفايا واهداف سياسة فرض الحصار على الامة.
فهذا شمعون بيريز في عام 1981 يعلن ( أن بأستطاعة التطور النووي والعلوم أن يحققا السلام .فالسلام لن يأتي نتيجة جهود الدول الاجنبية ، أسرائيل تستطيع ان تصل الى السلام أذا أستطاعت ان تقنع العرب بمساعدة العلوم بأنه لا مجال أبدا امامهم لألحاق أي هزيمة بها )( صحيفة هاآرتس) .. ولكي يتم تفعيل هذا القانون الصهيوني وضع الصهاينة ضمن عناصر عقيدتهم العسكرية مبدأ يقول (أن على أسرائيل أن تعاقب العرب في كل مواجهة عسكرية وان تذلهم وأن تقتطع ضريبة عسكرية أستراتيجية منهم ).وفي أعقاب قصفها للمفاعل النووي العراقي عام 1981 تبنت أسرائيل ما اطلقت عليه ( الميثاق الوقائي) الذي نص على أن ( أسرائيل لن تسمح مطلقا للعرب أن يمتلكوا وسائل  الابادة الجماعية ) ( هآرتس). وفي معرض شرحه لماهية ( الميثاق الوقائي) صرح آريل شارون ( عزمنا على منع دول المواجهة من الحصول على الاسلحة الذرية لأن أسرائيل لا تستطيع ان تتحمل هذا الثمن .. المسألة مسألة بقاء ويجب أن نحول دون حصول مثل هذا التهديد قبل وقوعه (بديعوت أحرنوت) ..

عندما يتم تفحص طبيعة الحصار الذي فرض على العراق وليبيا في التسعينات ولاحقا على سوريا والسودان سوف نجد ان آليات وحجم معدلات ومدة الحصار المفروض عليها أستهدف بالدرجة الاساس أستنزاف قدراتها وأنهاكها وأعاقة نهضتها وتصعيد معاناة الشعب فيها وتحويل حياته اليومية الى جحيم لا يطاق . فالموت يخطف أرواح العشرات والمئآت يوميا ، والامراض تتفشى على نطاق واسع ، والعوز والحرمان يطالان كل ما هو اساسي وضروري للحياة ..

أما اسباب الحصار فكلها مفتعلة ومع ذلك لا احد يجادل في رفع الحصار قبل أن تتحقق الاهداف المقررة وهي الاستسلام او الانهيار ..كل ذلك جري وما يزال يجري لكي تحرم الامة من حقها الطبيعي في التطور وأبقائها متخلفة تسهل هزيمتها المرة تلو الاخرى الى أن يصيبها الاحباط واليأس وتقبل الاستسلام .

حين فتح العراق أمام فرق التفتيش كل المواقع بما فيها المقرات الرئاسية ولم تعثر تلك الفرق على شيء مما كانت تدعيه واشنطن من أخفاء أسلحة محظورة ، طالبت الولايات المتحدة العراق ، بأن يثبت للمفتشين أنه خال من أسلحة الدمار الشامل ، وحين فشلت الولايات المتحدة في الصاق جريمة أغتيال الحريري بسورية طلبت من دمشق أثبات براءتها ...

يمكن لمجلس الامن أن يفرض عقوبات اقتصادية جماعية بمقتضى المادة ( 41) من ميثاق الامم المتحدة أذا كان قد قرر اولا بمقتضى المادة (39) ان هناك تهديدا أو خرقا للسلام أو عملا من اعمال العدوان ، بشرط أن يكون الهدف من فرض العقوبات هو الحفاظ على الامن والسلم الدوليين أو اعادتهما .. وفي حالة وجود تهديد فعلي أو خرق للأمن والسلم الدوليين ، فأن ميثاق الامم المتحدة قيد سلطة فرض العقوبات بأن يتوافق تطبيقها مع القانون الدولي والاعتبارات الانسانية وتحديدا مع اتفاقية جنيف الرابعة لعام 1949 والبروتوكولان الاضافيان الملحقان بها لعامي 1974 و1977 والتي تمنع أستخدام الغذاء والتجويع كأداة من ادوات الحرب أو أن تمنع وصول المواد الطبية الى البلد المحاصر .. وفي التطبيق تحولت هذه المعايير القانونية والانسانية الى حرب أبادة جماعية وجرائم ضد الانسانية وتسببت بموت أكثر من مليون ونصف مواطن عراقي نصفهم من الاطفال ،وأيقاع خسائر فادحة بالشعب في ليبيا والسودان ..

أن مسار التجربة والصراع التي عاشها المشروع النهضوي العربي على أمتداد أكثر من قرن بكل ما حفل به هذا المسار من نجاحات ونكسات وازمات وردات ، قد أفرز عددا من المعطيات في مقدمتها أنه أنضج لدى الامة وقواها الحية نظرة حضارية شاملة الى مشروعها النهضوي ، وأكد اكثر من أي وقت مضى الحاجة الى المزيد من تطوير التحليل النظري لحركة الواقع العربي وبذل جهد أكبر في مجال التخطيط الاستراتيجي للعمل والنضال القوميين ..

وأذا كانت اخفاقات وأنتصارات المشروع النهضوي العربي قد بلورت مواقف مختلفة من هذا المشروع تتراوح بين الايجابية التي تميل الى أقران التفسير بالتبرير ، وبين السلبية التي تتخذ من الاخفاقات والنكسات ادلة على فشل المشروع النهضوي القومي، فأن الموقف النقدي القائم على الحوار والتفاعل بين القوى الحية في الامة ، وعلى المراجعة العلمية والنقدية للمسيرة السابقة ، ومعالجة عوامل الاخفاق والضعف فيها، والارتقاء بادوات ووسائل العمل السياسي، هو الذي يشكل الجواب على التحديات الراهنة التي تواجهها الامة ..

 ان المقاومة في العراق وفلسطين تمثلان الوجه الاخر لروح الامة ونزوعها الاصيل للتحرر والنهضة والوحدة ،أنها تمثل حقيقة الامة الرافضة لواقعها الضعيف المهان والمستباح من الاجنبي، وتشكل كل منهما حافزا وملهما للأخرى ، وكلتاهما تؤكدان ان المشروع العربي النهضوي بمرتكزاته القومية والايمانية أنما هو مشروع مستقبلي ، وانه مع تعاظم التحديات التي يواجهها ،ومع تطور وعي مناضلي الامة وتصوراتهم ،وثراء تجربتهم ونضالهم ، فانه يرتقي يوما بعد آخر الى مستوى العمل التاريخي والنهج الرسالي ،الذي يزود الشعب بسلاح ثبت أنه أشد مضاءً من أسلحة المحتل المتقدمة الا وهو سلاح المقاومة بكل انواعها ..

وفي الوقت الذي يعبر مشروع أعداء الامة رغم كل مظاهر قوته ، عن شيخوخة تاريخية حضارية ، فأن مشروع نهضة الامة هو مشروع شاب واعد ممتليء حيوية وأيمان ، شرط أن يتزود برؤية تاريخية حضارية من خلال أمتلاكه القدرة المتوازنة على الصراع والحوار ، وأن تتحرر قواه الحية من الاوهام التي ما تزال تتحكم في سلوك وتفكير البعض ومن هذه الاوهام :

-    وهم الاعقاد بأن تحرير الارادة الوطنية يمكن ان يتم من خلال المساومات والتراجعات ،فالتحرير لا يتحقق الا بالثبات على الحقوق الوطنية والقومية ..

-    وهم الاعتقاد بأن التنمية المستقلة والنهضة يمكن أن تتحقق من خلال تنمية قطرية ، فقد أثبتت تجربة العقود الماضية فشل هذا الاعتقاد .

-         وهم الاعتقاد بأمكانية تحقيق الامن والاستقرار المجتمعي من دون أن تتحقق العدالة الا  جتماعية ..

-    وهم الاعتقاد بأمكانية أشراك الجماهير الشعبية في حشد أمكاناتها حول البرامج الوطنية والقضايا القومية من دون ديمقراطية ..

-         وهم الاعتقاد بأمكانية ضمان أمن أي بلد دون ضمان أمن الامة كلها ، فالامن القومي العربي كل لا يتجزأ .

-    وهم الاعتقاد بأن تجزئة العمل النضالي والجهادي وحصره في أطره القطرية يمكن أن يحقق الظفر على قوى الهيمنة والاحتلال في الوطن العربي ، وبالمثل وهم الاعتقاد بأن قوة سياسية منفردة تستطيع حمل اعباء التحرير وأزاحة الطغيان والظلم من دون اقامة الجبهات

     الوطنية داخل كل قطر من جهة ، وعلى مستوى الامة من جهة أخرى ..

بهذه المنهجية يمكن لقوى الامة أن تفتح أبواب المستقبل القريب على حقائق جديدة .. حقائق أسقاط الحصار عن الامة نهائيا ، وتحرير العراق والجولان  وفلسطين من النهر الى البحر بأذن الله تعالى .. واول ما يتطلبه ذلك تحصين المقاومات العربية وتسلحها بخبرة النضال الطويلة .. ففي العراق تواجه المقاومة العراقية سياسات قوات الاحتلال والحكومة العميلة الهادفة الى خلط الاوراق وتكثيف أجراءآت خصخصة الاحتلال بزيادة اعداد المرتزقة وفرق الموت ،وتصعيد الفتنة الطائفية ، وتجنيد بعض ضعاف النفوس من المحسوبين على العشائر العراقية ضد المقاومة،وهو ما يجري حاليا في ديالى والدورة وقبل ذلك في الانبار . خطة الاحتلال واضحة ، حشد كل المتاح لديها من امكانات مع قواتها  وشن حرب أبادة جماعية ضد المدن والاحياء الحاضنة للمقاومة حتى لو تطلب الامر تدمير المدن تدميرا كاملا وتهجير من يبقى من أهلها على قيد الحياة الى خارج منطقته ... أن المقاومة العراقية  تواجه سياسات الاحتلال وحكومته العميلة ومرتزقة مجالس الانقاذ ( العشائرية ) والعشائر بريئة منها ،بكل بسالة ، وفي ديالى يقاتل المجاهدون بروح استشهادية اعترف بها قادة الجيش الامريكي وهم منغرسون في الارض ولن يزحزحوا منها فأما النصر أو القتال حتى الشهادة .. أنما لابد من تسريع أقامة الجبهة الوطنية لفصائل المقاومة ، والجبهة الوطنية للقوى المناهضة للاحتلال، ولا عذر للمجاهدين والوطنيين في تأخير أنجاز هاتين المهمتين التاريخيتين ،فكل تاخير يطيل في عمر الاحتلال وعملاؤه .

والمقاومة في فلسطين ، بحاجة الى حل سريع لما يجري في الارض المحتلة بين حماس وفتح ، فالعدو الصهيوني أكبر المستفيدين ، ولسان حاله يقول كما قال بوش في معرض تعليقه على المذابح التي أرتكبها جيش الاحتلال الصهيوني ضد الشعب الفلسطيني ( دعهم ينزفون حتى تجف دماؤهم ) ، وقبله قالت أولبرايت عن ثمن الحصار على العراق ( أن مصالح أمريكا تبرر موت نصف مليون طفل عراقي ) .. المحتل في العراق أو في فلسطين لا يحترم الضعفاء ، ولا يسلم بحق منزوع السلاح ، والاقتتال الداخلي يضعف المقاومة ، ويمد في أجل الاحتلال .  

 
 
 
 
 
شبكة المنصور
الثلاثاء / السادس والعشرون / حزيران / 2007