شبكة ذي قار
عـاجـل










الدستور والمعايير الديمقراطية

الدكتور شاكر عبد القهار الكبيسي

 

لكل نظام سياسي في العالم عقيدته وأحكامه وسلطاته لكن ممارسة النظام السياسي لسلطاته محكومة بالدستور الرسمي للدولة والذي يُقر مسبقاً بشكل مؤقت أو دائمي، وغالباً ما تُقاس ديمقراطية أي نظام سياسي من خلال أحكام الدستور ومدى تطابق أحكام القوانين الصادرة مع بنوده لأن الدستور يمثل القانون الأساسي للدولة ويحدد توجهاتها الرسمية لتحقيق الأهداف المنشودة ويوضح حقوق وحريات الأفراد وواجباتهم وحدود سلطات الدولة ليضمن التفاهم بين جميع الأطراف لتحقيق الاستقرار السياسي والتنمية المُستدامة وتنظيم شؤون المواطنين وخدماتهم وإسعادهم لأن الإنسان وآماله هي غاية النظُم السياسية الرشيدة.

ويمكن تعريف الدستور بأنه وثيقة رسمية مُلزمة تحدد الواجبات والحقوق الأساسية للأفراد والجماعات وتُنظّم قواعد الحكم وشرعية عمل سلطاته التشريعية والقضائية والتنفيذية من حيث التكوين والاختصاص والفصل بين هذه السلطات.

يوضح الدستور جميع القواعد القانونية التي يستند عليها نظام الحكم وتوجهات مؤسساته ومنظماته وتتألف هذه القواعد من وثائق رسمية صادرة من سلطة رسمية تأسيسية أصلية توضّح المبادئ الأساسية التي يقوم عليها قانون الدولة أو أي كيان آخر من أحزاب ومنظمات سياسية وشركات وجمعيات ...الخ حيث يتم صناعة القوانين وأحكامها وتطبيقاتها والأشخاص المسؤولين عنها وشكل الدولة وشكل الحكومة ونظام الحكم بالاستناد إلى الدستور وأحكامه المُلزمَة.

 

وقد جرى تقسيم الدستور بالاستناد على طريقة اعتماده وفق الآتي:

1. من حيث التوثيق وهما نوعان:

أ: الدساتير الموثّقة: تكون قواعدها القانونية موثّقة في وثائق رسمية صادرة من سلطة رسمية ولا يُشترط أن تكون هذه الوثائق واحدة بل ممكن أن تكون أكثر من وثيقة بشرط أن تكون صادرة من سلطة رسمية حيث تشكل هذه الوثائق دستور الدولة المُعتمد والّذي يضمن جميع الآليات القانونية التي تتعلق بإدارة الدولة  وقواعد نظام الحكم فيها ولا توجد طريقة موحدة لكتابة الدستور  بل يختلف ذلك من دولة إلى أخرى وفق ظروف كل دولة ومذهبها السياسي والاقتصادي والعقائدي وتعتبر مواد الدستور معبرة عن أرادة الشعب ووعيه ومعرفته بحقوقه الدستورية وتتميز الدساتير المكتوبة بالدقة والثبات ووضوح قواعدها القانونية مما يجعله عقد ملزم للنظام وللمجتمع ويحفظ حقوق وواجبات كل منهما ويتناغم مع المتغيرات السياسية والاقتصادية والاجتماعية كالدستور الفرنسي عام 1791م .

ب: الدساتير العُرفية: وهي دساتير غير ثابتة لأنها تتغير من وقت لآخر حسب قناعة النظام السياسي ولا يشترط لذلك أي ممارسات خاصة لتغييرها لكونها غير ثابتة وغير مدوّنة وتتعرض للتغيير من وقت إلى آخر تبعاً لتغير الأعراف دون حاجة إلى اتباع إجراءات خاصة لتغييرها لأن الأعراف هي مصدر هذا الدستور وهذه الدساتير أقدم تاريخيا من المكتوبة لأنها ظهرت قبل حركة التدوين كالدستور الإنكليزي.

يُعد الدستور وثيقة رسمية تحدد بموجبه القواعد الدستورية التي يقوم عليها النظام السياسي للدولة فيوضح حقوق المواطنين وصلاحيات الدولة في إدارة مؤسساتها الرسمية وغير الرسمية ووجوب الالتزام بها بغية الاستمرار في شرعية قيامها وفق الدستور الّذي يستقي أحكامه من الأعراف الدستورية التي يتبناها المجتمع وتقوم عليها القواعد دستورية.

 

2.الدستور من حيث التعديل: يجري التمييز بين نوعين من الدساتير على أساس الإجراءات المتبَعة عند التعديل وهما:

أ. الدستور المشروط: يحتاج هذا النوع إلى إجراءات خاصة تختلف عن تلك الإجراءات المتبَعة في تعديل بقية القوانين فلا بد من توفر شروط معينة حسب نظام الحكم وعقيدته السياسية والشروط المثبتة في الدستور التي توضح إمكانية التعديل وأسبابه كالدستور الأمريكي عام 1787م.

ب. الدستور السهل: فهو سهل في تعديله يخضع لنفس آليات التعديل للقوانين الأخرى وبأغلبية بسيطة في السلطة التشريعية وقد يكون هذا الدستور مكتوب أو غير مكتوب كالدستور الإيطالي عام 1848م والروسي عام 1919م.

 

3.  الدستور من حيث التفاصيل: وهما نوعان، الدستور الموجز حيث تكون أحكام هذا الدستور موجزة وفقراته محددة حيث تترك تفاصيل الأمور للأعراف الدستورية أما الدستور المطول أو المفصل فهو يدخل في التفاصيل الدقيقة التي تعالج قضايا من اختصاص المُشرِّع العادي.

 

4. الدستور من حيث المعايير الديمقراطية: للمواطن في ظل الأنظمة الديمقراطية الحق الدستوري في اختيار من يحكمه عن طريق الانتخاب الحر وتكون سلطته فوق جميع السلطات الحكومية وله الحق في إجبار السلطات الحكومية على الالتزام بالقوانين وعدم تجاوزها لتنال شرعيتها في السلطة والحكم والدستور هنا على نوعين هما:

أ. دستور ديمقراطي: ويتم عن طريق الاستفتاء الدستوري العام أو عن طريق جمعية تأسيسية منتخبة.

ب. دستور غير ديمقراطي: وهو نصوص دستورية يمنحها الحاكم للشعب ويحق له منعها وهناك دستور تعاقدي بين الحاكم والشعب دون أن يكون للشعب الرأي الفاصل في اختيار نصوصه بل يتم تنازل الشعب للحاكم لكي يتمتع بميزات حكمه ويحق لمن يمتلك السلطة أن يضع الدستور أو يعدله ولا يحق للشعب ذلك بل يُفرض عليه حتى إن توفر مبدأ الفصل بين السلطات وهناك أمثلة عديدة من النُظم السياسية التي قامت على هكذا دساتير وتدعي أنها ديمقراطية وتحترم حقوق الإنسان ورغباته.

 

وتجدر الإشارة إلى أنّ وجود دستور مفروض على الشعب ولا يراعي نصوصه وأحكامه لا يعني أن الحكم دستوري لأنّ معيار التطبيق الفعلي وتحقيق مصلحة الوطن والمواطن هي الأسمى وفوق السلطات الأخرى التي يتوجب عليها أن تكون رشيدة وتنموية وإن لم تُحسن عملها أن تستقيل وتسمح لمن هم أهلاً للحكم.

5. من حيث المؤقت والدائم. وعادة تصدر النظم السياسية الجديدة دستور مؤقت للدولة عند حدوث ثورة أو تغيير في نظام الحكم ومن ثم يجري بعد استقرار الأوضاع ذلك إعداد دستور دائم للبلاد ومن أمثلة هذه الدساتير الدستور المصري عام 1964م والكويتي عام 1962م والعراقي عام 1970م ومن أمثلة الدستور الدائم هو الدستور العراقي الصادر سنة 2005م.

6. الدستور من حيث نظام الحكم: وهما نوعان دستور ملكي كالدستور العراقي عام 1925م وآخر جمهوري كالدستور العراقي بعد ثورة تموز 1958م حيث وضع الدستور حسب طبيعة النظام السياسي القائم وتوجهاته السياسية وأحكامه.

 

7. دستور المُحتل : يمكن إضافة هذا النوع من الدساتير إلى ما سبقها لكن هذا النوع من الدساتير يُفرض على الشعب من قبل قوات الاحتلال وهو بالتالي يضع مصلحة الدولة المحتلّة ويضمن مصالح السائرين في رحابها بقوانين وتعليمات وأحكام ملغومة تتفجر بين فترة وأخرى لأن أحكام هذا الدستور يتعارض مع المصلحة الوطنية ويثير خلافات سياسية واجتماعية متعددة تُضعف الدولة وشعبها وتبدد موارهم وجهودهم وتعرض السلم الاجتماعي للتفرقة والتناحر وضعف الإرادة والمساس بالمشروع الوطني والسيادة الوطنية وهذا ينطبق على الدستور العراقي الذي وضعه المحتل الأمريكي .

 

وهناك معيارين لكتابة الدستور هما:

1.المعيار الديمقراطي: بمعنى أرادة شعبية تسمح بالتدخل في إعداد الدستور ثم إقراره والمصادقة عليه ويتم بطريقتين هما:

أ. الاستفتاء الديمقراطي: ويتم بتكليف مجموعة من أصحاب الخبرة الدستورية بكتابة وثيقة دستورية يختارها الشعب بالاستفتاء ولا تنال مشروعيتها الا بموافقة الشعب عليها وهذا ما يظهر جلياً في أغلب الدول الديمقراطية وينطبق ذلك على الدستور المصري عام 1956م والدستور اليمني عام 1991م.

ب. الجمعية التأسيسية: تُشكَّل جمعية خاصة أصلية باسم الشعب أو بالنيابة عنه تُكلَّف بوضع الدستور أو أخرى فرعية تُكلَّف بتعديله ويعتبر الدستور نافذا عندما تصادق عليه الجمعية وكان الدستور الأمريكي عام 1787م أقدم هذه الدساتير ثم انتشر في بلدان العالم الأخرى.

يكتسب الدستور قوته الملزمة من خلال عرضه على الشعب في الطريقة الأولى بينما يتطلب تصديق الجمعية التأسيسية عليه في الطريقة الثانية.

2. المعيار غير الديمقراطي: لا تتحكم الإرادة الشعبية في مثل هذا الدستور لا في إعداده ولا إقراره ولا في التصديق عليه وتحت هذا العنوان هنالك طريقتين لذلك هما:

أ: أسلوب المنحة: يُعد الدستور ويصادق عليه وتقره الحكومة دون مشاركة الشعب فيكون بذلك كمنتحة تقدمها الحكومة لشعبها دون إرادته كالدستور الفرنس عام 1814م في عهد الملك لويس الثامن عشر.

ب: أسلوب التعاقد: ويتم من خلال الاتفاق ما بين الحكومة والشعب ولا يجوز تعديله الا بالاتفاق ولا يُعد ذلك ديمقراطياً بسبب مشاركة الحكومة الشعب في إرادتها وسيادتها ومن أمثلة ذلك الدستور البحريني الصادر عام 1971م والدستور الفرنسي عام 1830م.

 

وأخيراً يمكن القول أن الدساتير الوطنية الخالصة هي من تخلق دولة ونُظم سياسية رشيدة وتنموية ومُستقِرّة وشعب مرتاح البال ومطمأن الضمير ولكن عندما تفرض الدولة أو النظام السياسي القائم الدساتير ستجعل بنوده وطياته أحكامه تُسخَّر لخدمة مصالحها الحزبية والفئوية  حيث تخلق منافع للحكام والسائرين في رحابهم وتحمي سلوكياتهم المنحرِفة فهكذا دساتير لا تحقق المصالح العامة بل خُلقت لخدمة أصحاب القرار وأي مخالفة لأحكام الدستور ستحميها أحكام القضاء الفاسد فلا احترام للقوانين ولا أهمية للدساتير التي حملت بنودها مصائب مستقبلية لا تُحتمل غايتها خدمة السلطة ورموزها حتى تفقد الحكومات شرعية وجودها.






الجمعة ٦ شعبــان ١٤٤٥ هـ   ۞۞۞  الموافق  ١٦ / شبــاط / ٢٠٢٤ م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب الدكتور شاكر عبد القهار الكبيسي نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة