شبكة ذي قار
عـاجـل










الحرب المفتوحة ولم يسدل ستارها منذ سقوط الأندلس

فؤاد الحاج

 

إلى الموريسكيين الأحياء الذين حملوا راية العروبة والإسلام وواجهوا محاكم التفتيش وظلم ملوك أوروبا وتخاذل الأقربين في القومية والدين ورحم الله من توفى منهم. وإلى كل الشرفاء والأحرار في فلسطين وفي كل بقاع المعمورة الذين يحاولون منع الكارثة التاريخية أكتب هذه الكلمات.

ستصمت آلة القتل والدمار الصهيونية في غزة خاصة وفي فلسطين عامة مهما طال الزمن، وسينجلي المشهد عن المجازر التي اقترفها الصهاينة بدعم استعماري دولي ليس بجديد وهو ما تعتمده محافل الشر الدولية والإقليمية لبسط نفوذها والاستيلاء على الثروات الطبيعية ليس في فلسطين وبحر غزة فحسب بل وفي كل بلدان المنطقة الممتدة من المحيط الأطلسي إلى الخليج العربي.

إن سياق الحرب المفتوحة في فلسطين، منذ مطلع القرن الماضي، تندرج في قطاع غزّة اليوم، التي ستؤدي إلى نكبة فلسطينية ثانية، بعد النكبة الأولى عام 1948، وهي استمرار لحروب مختلفة عبر التاريخ المقروء بشقيه الصحيح والمتلاعب فيه نصوصاً وكلمات زيفت وقائع التاريخ وأحداثه ومجرياته. فما يجري في فلسطين هو تأكيد على أن الكيان الصهيوني، هو القاعدة المتقدمة لقوى الشر العالمي المكلّف بحماية مصالح الرأسمالية الاستعمارية التي تشكل رأس الحربة المغروزة في خاصرة الوطن الذي كان كبيراً لمحاربة كل ظاهرة تحرّرية عربية.

فكما أن الحرب على غزة تشكل مثالاً عن سياسة الفكر الاستعماري من خلال الخداع والتضليل الإعلامي والكذب والنفاق السياسي الغربي، من حيث تضافر عوامل اقتلاع السكان الأصليين من وطنهم وتهجيرهم إلى أصقاع الأرض، كذلك هي سياسة وفكر الاستعمار القديم الذي انتقل من مرحلة الرأسمالية إلى البربرية لتحقيق مصالحه الاقتصادية الذاتية التي كشفها ميدان المعارك في فلسطين عن همجية الصهاينة في قتل وتدمير وتهجير سكان القرى الفلسطينية التي تقوم بها العصابات الصهيونية من مجازر وحشية بحق الفلسطينيين، التي استُشهد فيها من استُشهد وهُجر من هُجر من أصحاب الأرض الأصليين من سكان فلسطين المستمرة منذ سنة 1936، من بينها مجزرة دير ياسين (9/4/1948) ومجزرة اللّد (11/7/1948) ومجزرة قرية الصفصاف (29/10/1948) ومجزرة الحولا (31/10/1948)، واغتيالهم الكونت فولك برنادوت بتاريخ 17 أيلول/سبتمبر من العام 1948، الديبلوماسي السويدي الذي كان أول وسيط لـ"هيئة الأمم المتحدة" في العام 1947، مكلفاً من قبل "مجلس الأمن الدولي" لوضع خطة تسوية عادلة للوضع في فلسطين. ومما زاد من حنق الصهاينة عليه أنه بعد يوم واحد فقط من تقديم تقريره الذي حمل توصيات عديدة، من أهمها تشديده على ضرورة عودة جميع اللاجئين الفلسطينيين إلى بيوتهم، ووجوب وضع القدس تحت إشراف "هيئة الأمم"، وأن يمتد خط من الفالوجة إلى الشمال ثم الشمال الشرقي من اللد والرملة اللتين ينبغي أن تخرجا من أراضي السيطرة الصهيونية.

كما أوصى بوجوب أن "تؤكد منظمة الأمم المتحدة حق الناس الأبرياء، الذين شردوا من بيوتهم بسبب الإرهاب الحالي في العودة إلى ديارهم، وأن تُدفع تعويضات عن الممتلكات لمن يرغب منهم في العودة". وفق ما جاء في أحد التقارير التي وثقتها مؤسسة الدراسات الفلسطينية.

غير أن خطة السلام التي اقترحها الكونت فولك برنادوت أثارت حفيظة المتطرّفين الصهاينة، فعمدت الصحف الصهيونية إلى مهاجمته والتحريض عليه فاغتالته عصابة "شتيرن" في القدس.

وقبل ذلك قام أعضاء من عصابة "آرغون" الصهيونية في 22 تموز/يوليو 1946 بعملية إرهابية حيث تم تفجير فندق الملك داود في غرب مدينة القدس، إبان فترة الانتداب البريطاني على فلسطين، وكان الهدف من هذه العملية الضغط على الحكومة البريطانية التي كان فندق الملك داود مقراً لها، ولم يزل الإرهاب الصهيوني مستمراً تحت سمع وبصر أنظمة الرأسمالية في العالم المتحضر تحقيقاً لمشروع التفتيت وحلم الصهاينة ضمن سياسة فرق تسد البريطانية.

ولن نبتعد كثيراً عن ذلك الإرهاب الصهيوني في فلسطين المحتلة ولا في ما قام به الأمريكان والبريطانيون والأوروبيون من إرهاب وجرائم وحشية بشعة ضد السكان الأصليين في أميركا وكندا، وضد الأبورجينلز في أستراليا، ولا عن جرائمهم في العراق التي تستدعي كتابات ودراسات حولها، فقط لنعيد قرأة تاريخ الإرهاب الاستعماري منذ سقوط الأندلس في (شبه الجزيرة الايبيرية - (إسبانيا والبرتغال) أو كما كانوا يطلقون عليها أحياناً (إسبانيا الإسلامية) سنة 1492، خاصة فيما جاء في الكتب التي شوهت وزيفت تاريخ المسلمين (الموريسكيون) في المغرب العربي وأسباب تنصيرهم، إضافة إلى إرهاب محاكم التفتيش ودور الكنيسة آنذاك، وكذلك دور فرنسا وفينيسيا وملوك أوروبا في إشعال الفتن والغزو باسم الدين، وما هي أسباب سقوط غرناطة؟ لأن كتابات المؤرخين العرب الجدد قد ظلمت ملوك الأندلس ظلماً واضحاً وحمّلتهم مسؤولية سقوط الأندلس. وأشير هنا إلى ما ذكرته  الأديبة الموريسكية الإسبانية (أدا) أديبة روميرو سانشيز الباحثة في المخطوطات والوثائق التاريخية العربية المحفوظة في (في خزانة الإسكوريال) في مدريد وفي مكتبات إسبانيا وألمانيا ودول أوروبية أخرى التي تدحض مقولة "ابك كالنساء ملكاً لم تدافع عنه كالرجال" هذه المقولة التي تعبّر عن ضعف وجبن آخر ملوك الأندلس، وتنسب إلى عائشة أم الأمير أبو عبد الله محمد الثاني عشر المعروف بحسب كتابات المؤرخين الجدد بـ"أبي عبد الله الصغير"، الذي قالوا أنه سلًم غرناطة للملك فرناندو والملكة إيزابيلا. إلا أن الكثير من المؤرخين العرب والمغاربة والإسبان ينفون ذلك ويقطعون بعد صحتها، مدللين على ذلك بأن أبو عبد الله لم يبك، ولم توبخه أمه. وفي هذا الصدد يذكر الباحث (ليوناردو بيلينا) "أن الملك أبي عبد الله لم يبك عندما غادر غرناطة، ولم تقل له والدته الجملة الشهيرة (إبك مثل النساء ملكاً مضاعاً لم تحافظ عليه مثل الرجال) وما هي إلا من وحي خيال أنطونيو دي غيفارا أسقف قادش، وهي مجرد أكذوبة، وذلك في صيف سنة 1526 حيث أراد تلميع صورته في أعين الإمبراطور شارل الخامس الذي كان في غرناطة لقضاء عطلة بمناسبة زواجه." ويضيف: "وما يؤكد أن هذه القصة ليس لها أساس من الصحة أن أبا عبد الله لم يمرّ عبر الطريق القديم بين غرناطة ومتريل، بل إنه توقف مرة واحدة لمشاهدة غرناطة من بعض المرتفعات الجبلية للبدول من باب المنار وتوجه بعدها إلى أندرش عن طريق البشرات، أما من زفرة المورو ذاك الموضع الذي يعرف بزفرة العربي الأخيرة فلا تمكن رؤية الحمراء من هناك أصلاً، كما أنه من غير المعقول أن تقرع عائشة الحرّة ابنها بهذه الطريقة أمام جنده ومرافقيه في هذا الرحيل المؤلم. فضلاً عن إشكالية أخرى حول اسم والدته، هل هو فاطمة أم عائشة. وهذا التوضيح ليس تقليلاً من حجم كارثة سقوط غرناطة الذي استحق البكاء ولكن الأقرب لسير الأحداث التاريخية أن هذه المقولة مجرد زهو من الأسبان بالانتصار."

ويؤكد الباحث (ليوناردو بيلينا) "أن سيرة أبي عبد الله وجزءا من عائلته أغلبها مملوء بالتحريفات المتعمدة. وهكذا فقصة (زفرة المسلم الأخيرة) خاطئة لأن أبا عبد الله لم يمر عبر الطريق القديم بين غرناطة ومتريل (و هو الذي نسبت إليه القصة)."

وتأكيداً على ذلك كما قرأت عنها في عدد من الكتب التاريخية والأدبية والثقافية ومنها كتاب (الأندلسيين بعد سقوط غرناطة - المواركة) لعادل سعيد بشتاوي، و(التهجير القسري لمسلمي الأندلس في عهد الملك فيليب الثاني) للدكتور محمد عبده حتامله، و(المسلمون المدحنون في الأندلس) لحسين يوسف دويدار، و(الموريسكيون الإسبان ووقائع طردهم - الجزء الأول) للأسقف دون باسكوال بورونات إي براتشينا، و(مذابح وجرائم محاكم التفتيش في الأندلس) لمحمد علي قطب، و(الموريسكيون في المغرب) لكاتبه غييرمو غوثالبيس بوستو، و(الموريسكيون في الفكر التاريخي) لميغيل أنخيل بونيس إيبارا، و(انبعاث الإسلام في إسبانيا - لمجموعة من الباحثين الإسبان منهم أديبة روميرو سانشز) وغيرها، أن صاحب نشر مقولة "ابك كالنساء ملكاً لم تدافع عنه كالرجال" هذه من تأليف أنطونيو غيفارا الذي يعتبر الأب الروحي لفكرة تفوق العنصر الأوروبي وضرورة تطهير إسبانيا من المسلمين وغير المسيحيين بصفة عامة. ومن الكتب التي صدرت سنة 2018 كتاب (عندما كنا عرباً) المؤرخ الاسباني إميليو غونزاليس فيرين وهو أستاذ الفكر العربي والإسلامي في جامعة إشبيلية، الذي يؤكد أن "غزو المسلمين للأندلس أكذوبة كبرى"، وكذلك كتاب المؤرخ  إغناسيو أولاغوي الموسوم (العرب لم يستعمروا إسبانيا - ثورة الإسلام في الغرب) الذي صدر سنة 2019 يؤكد فيه أن "العرب لم يغزوا الأندلس".

"العرب لم يغزوا الأندلس"

وبحسب عدد من المؤرخين والمحققين والأدباء الإسبان، فإنه "عندما ولد أبو عبد الله في قصر الحمراء سنة 1459، كانت الحملة الصليبية بلغت مرحلتها النهائية واستعادت تقريباً كل مناطق الأندلس، ولم يبق سوى إمارة غرناطة التي كانت تعيش عزلة وحصاراً وتهديداً أمنياً كبيراً وانعداماً للاستقرار بسبب الصراع بين الأسر على كرسي الإمارة.

في هذه الظروف ولد الأمير أبو عبد الله، أي أنه لم يكن مسؤولاً عن ضياع الأندلس، وإنما جاء لهذه الدنيا وقد ضاع الجزء الأكبر منها، أما على مستوى عائلته فقد رأى النور في جو من العنف والمؤامرات والتطاحن رغبة في المُلك، وأن لقب "الصغير" هو من صناعة منجمي البلاط في قصر الحمراء الذين أطلقوه على أبي عبد الله.

وهنا أشير إلى حصار غرناطة آخر ممالك الأندلس التي لا يشير العديد من المؤرخين لمعاناة أهلها جراء الحصار القاتل الذي دفعهم لأكل القطط والكلاب بعدما حرق القشتاليون في عهد الملكة إيزابيلا الأولى ملكة قشتالة وفرديناند الثاني ملك أراغون حقول أهل غرناطة الذين تقطّعت بهم السبل، مما دفع أمير غرناطة أبي عبد الله بأن تذبح الخيول التي كان يستخدمها الجنود في القتال ولم يتبق منها سوى ثلاثمائة فرس من أصل سبعة آلاف، إضافة إلى إعلان البابا سيكتوس الرابع حرباً صليبية - كما يفعل الصهاينة في فلسطين المحتلة حالياً -، بل أن البابا أصدر قراراً لإيزابيلا يمنحها فيه حق توزيع صكوك الغفران لتمويل الحرب على غرناطة. بالإضافة للقروض التي حصلت عليها من الإيطاليين والهولنديين والألمان وغيرهم نتيجة دعوة البابا سيكتوس الرابع والبابا أنوصان الثامن من بعده الذين وفروا الدعم المادي لفرناندو وإيزابيلا للقضاء على الوجود العربي والإسلامي في شبه الجزيرة الأيبيرية، وهذا ما تفعله اليوم إدارات الشر الأميركية وفرنسا وألمانيا وإيطاليا ودول أوروبية وغربية أخرى في دعم الصهاينة أيضاً في فلسطين المحتلة، هذه هي إنسانية العالم المتحضر ومآسي شعوب المنطقة الممتدة من ماء المحيط الأطلسي إلى ماء الخليج العربي.

لذلك أقول أنه على المؤرخين المنصفين الواعين أن يعيدوا النظر بما كتب عن الأندلس وعن سقوط آخر ممالكها وأن يتسلحوا بالوثائق لدحض أي رأي لا يتقبله عقل أو منطق مثلما فعلت الأديبة الإسبانية أديبة أو أدا روميرو سانشيز والباحث ليوناردوا بيلينا وغيرهم الكثير، ليسدوا فراغاً تاريخياً بدلاً من الاعتماد على كتب أعداء الأمة والإنسانية وترجمتها والاستشهاد بها وكأنها حقائق دامغة، وبذلك يتم تأكيد صحة ما جاء في تلك الوثائق، وإعادة كتابة تاريخ سقوط غرناطة وأسبابها، فالوثائق المحفوظة في (في خزانة الاسكوريال) في مدريد وهي بالآلاف التي تروي تاريخ الأندلس، عندها سيكون لدى المؤرخين ومراكز الأبحاث والدراسات في الأقطار العربية سبباً واضحاً لكيلا يتحدثوا عن خيانة أبي عبد الله الصغير ويرددوا مقولة (إبك مثل النساء ملكاً مضاعاً لم تحافظ عليه مثل الرجال)، لكي يتم تصحيح بعض الأخطاء الواردة في الكتب التي تتعرض لتاريخ المغرب العربي عامة.

وبعودة إلى ما يجري في غزة في هذه الأيام فأن ما جرى في الأندلس أرى أنه يتكرر مجدداً، من صراعات على الحكم بين الجماعات المتناحرة على السلطة في فلسطين، في الوقت الذي يذبح فيه الشعب الفلسطيني دون مبالاة من الأشقاء والأقربين، وهذا ما حدث في غرناطة.

 






الخميس ٢٤ جمادي الاولى ١٤٤٥ هـ   ۞۞۞  الموافق  ٠٧ / كانون الاول / ٢٠٢٣ م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب فؤاد الحاج نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة