شبكة ذي قار
عـاجـل










في ذكراه السادسة والسبعين لن يستطيعوا أن يحجبوا شمس البعث بغربال

حسن خليل غريب

 

حتى لو لم ترتق ثوابت البعث إلى مستوى المعادلات العلمية التي تُبنى عليها قوانين الطبيعة، إلاَّ أن لها معادلات أخرى تساعد الفكر القومي على أن يكون أقرب إلى المعادلات العلمية التي تجعل الدولة القومية أكثر واقعية للتطبيق من جميع المشاريع الأخرى.

عرف التاريخ دولاً إمبراطورية عديدة، وجدنا بالبحث التاريخي الاجتماعي، أنها لم تصمد أمام موجات التغيير، بل انهارت بفعل الزمن وبفعل أنها كانت تبني دولاً وقفت ضد رغبات الشعوب في حكم نفسها بنفسها وإدارة شؤونها بأيد مستقلة عن القسر والإكراه. ولذلك فقد انهارت الدول ذات النزعات الإمبراطورية التي تغزو الشعوب وتستعبدها وتستثمر ثرواتها وبناها العاملة، وكبت حرياتها، واستعباد مجتمعاتها.

وإذا فتشنا زوايا التاريخ لوجدنا أن انهيار تلك الإمبراطوريات أصاب كل من الإمبراطورية التي تنتهج الأيديولوجيات المادية، أو ذات الأيديولوجيات الدينية.

ووجدنا أيضاً في تاريخنا المعاصر مثل تلك النزعات، التي حاولت أن تنتج نفسها، وتجديد جلود تلك الأيديولوجيات الغابرة، بأشكال وألوان جديدة. وهذا الأمر الذي طبع القرن العشرين وأمتدَّ إلى الجيلين الأولين من القرن الواحد والعشرين.

تميَّزت الدول ذات الأعماق الإيديولوجية المادية بأنها لم تتعلَّم من دروس التاريخ شيئاً، فانقسمت إلى دول اعتنقت الرأسمالية مذهباً، وإلى دول صدَّرت نفسها تحت شعارات الاشتراكية والعدالة الاجتماعية. ونبت على حواشيها مشاريع أخرى تتبنى الأيديولوجيا الدينية، البعض منها عملت على العودة بالتاريخ مئات السنين إلى الوراء لتبني مشاريعها على قوانين وتشريعات بعيدة كل البعد عن قوانين العصر وتشريعاته، والبعض الآخر اتَّجه إلى بناء دول قائمة على الغيبيات، التي تُعتبر أوهى من خيوط العنكبوت. علماً أن جميعها، جميع تلك المشاريع، لم تحيا طويلاً حتى أخذت تتهافت واحدة تلو الأخرى، بمهلة لم تتجاوز القرن الواحد.

تلك الوقائع دفعت بنا إلى إعادة التذكير بأهمية الثوابت والمعادلات التي استند إليها الفكر القومي العربي، الذي كانت من أهم إنتاجاته ولادة حزب البعث العربي الاشتراكي، الذي بلغ هذه السنة عامه السابعة والستين.

وإذا كان الضد يُظهر حسنه الضد، كان من المفيد أن نفتتح مقالنا هذا بنقد سريع لكل التيارات الأيديولوجية الإمبراطورية، المادية والدينية. والتي من خلال مظهرية سقوطها تباعاً تشكل السبب الأساسي في إعادة التذكير بمشروع البعث الفكري والسياسي.

حاولت وتحاول كل الأيديولوجيات النقيضة للفكر القومي أن تحجب شمس البعث بغرابيل كثيرة تبدأ بتشويهه، ولا تنتهي بالعمل على اجتثاثه. بدأت منذ عشرات السنين، ولا تزال مستمرة بالعمل على تنفيذ مشروعها المعادي.

وفي الضد من تلك المحاولات، كان البعث على الرغم من كل الجروح والكسور التي ألحقتها به طوابير أعداء الفكر القومي، يصر على الدفاع عن حدوده الفكرية والسياسية، وذلك تأكيداً منه أن كل الحلول المعادية المطروحة لم تُجدِ نفعاً، لا بل كانت تزيد الأمور تعقيداً، وتزيد الأزمات سوءاً.

وإن اللافت في الأمر، هو أن كل المشاريع المعادية، دينية كانت أم غير دينية، أخذت بالتهافت تباعاً. ابتدأت بتهافت المشروع الإمبراطوري الأميركي على أيادي المقاومة الوطنية العراقية، وتلاه تهافت المشروع التركي بعد أن فقد الأمل بنجاح مشروع الشرق الأوسط الجديد، وانعكس تراجعه سلباً على حركات الإخوان المسلمين، وهذا المشروع الغيبي الإيراني يلفظ أنفاسه الأخيرة، بعد المتغيرات السياسية بفعل دخول الصين معركة بناء قوة ثانية تستطيع أن تقضي على الأمل الأخير لبناء نظام دولي متعدد القطبيات.

وبمثل هذا التهافت، أخذت أهمية المشروع القومي العربي، بثوابته الثلاثة الوحدة والحرية والاشتراكية، تندفع إلى واجهة الأحداث الراهنة. وأصبحت العوامل العربية الداخلية المُعيقة التي لم تُعر في الماضي اهتماماً لمضامين الفكر القومي العربي، أخذت تتَّجه إلى إعادة النظر في مواقفها السابقة. وهذا ما أخذ يُحدث متغيرات توحي بعقود قادمة من الحصاد الإيجابي.

وإذا كانت ثوابت البنيان الداخلي العربي التي أعلنها البعث منذ سبع وسبعين عاماً مضت، وظلَّ البعثيون يعتقدون بأنها تشكل الحل الأكثر صلاحية لحل المشاكل والأزمات العربية، فإنها بعد تراجع القوى المعادية، أصبحت حاجة ضرورية للعرب في هذه الظروف العصيبة.

وسننهي مقالنا بإعادة التذكير بتلك الثوابت، مع تكثيف للمسارات التي على العرب، أنظمة رسمية وتيارات شعبية وأحزاب عربية، أن تسلكها مستفيدة من المتغيرات الجديدة بعد تهافت كل المشاريع المعادية للقومية العربية. وهي مجموعة من النتائج التي نعتبر أنها سوف تشكل بنظرنا خشبة الخلاص لنجاة الأمة العربية في العقود القادمة:

-في مواجهة القوى الدولية الكبرى، يُعلن البعث أن الانطلاق من مبدأ العلاقات الدولية على أساس المصالح المتكافئة، يشكل المسار السليم لتلك العلاقات.

-في مواجهة القوى الإقليمية، أي الجوار الجغرافي للعرب، هو اعترافهم بسيادة العرب على أقطارهم كافة، والامتناع كلياً عن تدخل أي منها في شؤونهم الداخلية.

-بين هذا المبدأ وذاك، يترتب على العرب جميعاً، على شتى المستويات، أن يقوموا بردم كل ثغرة يمكن للخارج أن يتَّخذها ذريعة للتدخل، عبر الخطوات التالية:

-بعد تجربة تاريخية طويلة، نعتبر أن كل نزعة قطرية تعمل على تفتيت الوطن العربي حسب خطوط جغرافية، أو على تفتيته إلى دويلات طائفية. أو أممية عابرة للوطن والقومية، تشكل إعاقة كبرى تحول دون وحدتهم.

-ولأن النزعات الأممية، هي أكثر من عمل على تجهيل الهوية القومية العربية، ووقف موقف العداء منها، تتحمَّل المسؤولية كاملة. وأخص بالذكر منها تيارات الإسلام السياسي التي تسهم إسهامات خطيرة في إنبات الفكر الطائفي التكفيري، بما جعل من الفكر الوطني والقومي بعبعاً خطيراً.

وأخيراً، وبفعل المتغيرات الجديدة على الصعد الدولية والإقليمية والعربية، أرى أنه على العرب كافة، أن يأخذوا موقعهم على طولات رسم مستقبل العالم، وبالأخص منه الوضع العربي، بالعمل على ما يلي:

-ملاقاة تلك المتغيرات، التي بدت في الأفق العربي كنقطة ضوء في أول النفق. ولعلَّ من أهمها ظهور الوعي الخليجي خاصة، والعربي بشكل عام، لأهمية الأمن القومي العربي أولاً، وتوظيف الثقل الاقتصادي الكبير ثانياً، والنظر إليهما برؤية قومية شاملة، بما يؤهل العرب للجلوس إلى شتى الطاولات التي ترسم خريطة للنظام الدولي والإقليمي الجديد.

ولأن البعض من العرب فرض نفسه على القوى الدولية والإقليمية في الجلوس إليها وتقرير مصيرهم بأنفسهم، يبقى عامل الثقة المفقود بين العرب، نظاماً رسمياً وشعبياً، ثغرة أساسية، يبقى من واجبهم أن يعيدوا النظر في طريقة إعادة اللحمة إلى وحدة صفوفهم، كأهداف سياسية واقتصادية. وليس هناك من فرصة أهم من التقاطها في هذه المرحلة.

ولأن تجربة الستينيات كانت مثالاً تاريخياً، يمكن العرب البناء عليها، والبدء من حيث انتهت. لذلك، نرى أن الفرصة سانحة، فهل نلتقطها، وخاصة أنها تلتقي ببعض جوانبها الاستراتيجية من ثوابت البعث؟ 




الاثنين ١٩ رمضــان ١٤٤٤ هـ   ۞۞۞  الموافق  ١٠ / نيســان / ٢٠٢٣ م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب حسن خليل غريب نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة