شبكة ذي قار
عـاجـل










 

بسم الله الرحمن الرحيم

الجودة السياسية

 

الجودة السياسية Political quality): ) إنّ لكل عمل في الوجود ولكل مخلوق لله يحمل درجة من الخاصية والصفات والمكنونية والجودة والتي مصدرها جاد وتعني في اللغة الإتقان ودقة الخصال والنوعية المتميزة ولكل  منتوج محتويات وخصائص تجعله يؤدي واجباته ووظائفه ومذاقه على النحو الأمثل ليحظى بالقبول والرضا بين جمهوره وعامة الناس  وللجودة عدد من المسارات فهناك جودة في الخُلق وجودة في الصحة وجودة في التعليم وجودة في القضاء وجودة في الإدارة وفي السياسة يعد مفهوم الجودة السياسية أحد مفاهيم الرشادة السياسية الحديثة التي تقوم على الحكمة والعقلنة والعدالة والقانونية المؤدية إلى حُسن الأداء القائم على صالح الأعمال ونوعية الخدمات وجودة النتائج  بالرغم من أنَّها من أهم المفاهيم القديمة التي نالت أفضل وأجل تطبيقاتها في عهد الدولة الإسلامية التي وضع لبناتها الأولى سيد الكائنات رسولنا الكريم محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين من بعده الذين حملوا صفة الرشادة وجودة الإداء والعفة والزهد والإخلاص العقائدي والإنساني بأجمل تعابيره حتى باتوا مثلا وراية وإشعاع عملي وإنساني خالد وقدرة وقدوة لتطبيق مفاهيم الدين على حقيقتها الهادفة إلى تحقيق المنافع للمجتمعات الإنسانية وإقامة دولة العدالة التي عهدناها في زمن الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم أجمعين ويُرشدنا خالقنا جلا وعلا إلى أهمية أن تكون  شعائر الدين دافعاً للبحث عن مبررات  العمل الصالح المفيد لعباد الله فيقول الله في محكم كتابه في سورة الكهف ( إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا ) فالإيمان بالله يدعونا إلى تطبيق أحكامه بعدالة ومساواة ونزاهة وإخلاص والابتعاد عن كل ما يشوه صورة المسلم الحقيقي التي نراها تتكرر كل يوم أمام مسامعنا وأبصارنا في بلداننا الإسلامية وتحت مظلة حكم إسلامي يُفترض أن تتأصل فيه الجودة السياسية ويرتكز إلى أسس الإيمان بالله وتأدية عباداته وخدمة عباده بالعمل المخلص لله ولشريعته وتشجيع الناس بحيادية  لامتلاك ناصية العلم والمعرفة والعمل بدقة واهتمام وإتقان للوصول إلى النوعية المتميزة في جميع مجالات الحياة الدينية والدنيوية والإنسانية التي هي عماد نهضة الأمم ورُقي شعوبها.

 

ترتبط نوعية الإداء وجودة العطاء بالعمل الوظيفي العام والمسؤولية القانونية والدينية والوطنية والإنسانية الّتي تعكس مهام السلوك السياسي وعقيدة النظام وبرامجه وتوجيهاته والأداء العملي المُثمر للفاعلين فيه لنيل شرعية وجوده السياسي الّذي يمكنه من الاستمرار في وظيفته وحكمه ومن هنا يمكن القول أنّ الجودة السياسية تعني الأداء الفعَال للنظام السياسي القائم مع وجود مستوى عالي من المشاركة السياسية والتعددية الحزبية ونظام انتخابي ديمقراطي يُنتج سلطة تشريعية تمارس دورها الرقابي على السياسات العامة وحكومة تنفيذية تسعى للتنمية الشاملة التي تحقق للفرد والمجتمع وللدولة النفع العام على أن يكون للفئات الفاعلة الرئيسية تصورات مختلفة للأهداف والتوقعات حول ما يمكن عمله لتحقيق الجودة اللازمة القادرة على تطوير السياسات العامة التي بالأداء النوعي أو بالجودة والخصائص أو بالطرق والعمليات التي يتم بها تنفيذ الأداء وتحسينه وتطوير عناصره وإنتاجه بشكل مُقنع يُرضي الجماهير على اختلاف مشاربها واتجاهاتها ولكي يكون نظام الحكم السياسي جيد وتنموي وحكيم وعقلاني فلابد أن يقوم على الشرعية والشفافية والديمقراطية التشاركية والتداول السلمي للسلطة لتحقيق التنمية المستدامة التي تتوقف عليها مشروعية النظام ونوعية وجود إدائه واحترامه لحقوق الإنسان وحقه في الممارسات الديمقراطية التشاركية على أن تكون إرادة الوطن فوق أي اعتبار آخر  والا على النظام السياسي أن يذهب بلا أسف عليه .

 

ظهر مفهوم الجودة السياسية في تسعينات القرن الماضي بعد انتهاء النُظم السياسية الاشتراكية وظهور العقائد والتطبيقات والأجندات القائمة على الفكر الرأسمالي والتي يُشاع أنها جاءت لخدمة حقوق الإنسان وحرياته وتحقيق العدالة الاجتماعية والتنمية الدولية حتى أضحى مفهوم الجودة أحد أهم المفاهيم السياسية باعتباره  الحد الفاصل ما بين الجيد والأقل جودة والرديء من العمل على كل المستويات ومن خلال هذه الحدود  يكون الحكم على النظام السياسي فإما إضفاء الشرعية الوطنية عليه أو توجيه الانتقاد له باعتباره القائم والقائد والموجه للسياسات العامة وعليه تحمل المسؤولية الوطنية والقانونية والإنسانية والأخلاقية في حالة الفشل وعدم التشبث بالحكم وفرضه بالقوة بل الأفضل له ولعامة الناس التنازل عن المسؤولية  بروح الرضا والقبول والالتزام بالتداول السلمي للسلطة واقعياً وليس مجرد تمنيات وأقوال وإفساح المجال لمن هم أهلاً لها من أحزاب وشخصيات وقيادات وطنية موثوقة ومجربة وأصيلة قادرة على تحقيق الجودة السياسية والأثر الوطني الشامل الّذي يجعل الفرد يفخر بأنه جزء من شعب وينتمي لوطن آمن وسعيد يسعى جاهداً للدفاع عنه وتحقيق نهضته وإسعاد شعبه وكلما زاد تحسّن الأداء ونال الشعب استحقاقه التام زاد ذلك من التفاف الجماهير حوله النظام السياسي وقويت أسس حكمه  وفي هذا الإطار قدمت التقارير الدولية نماذج محددة من الجودة السياسية فبالمقارنة ما بين دول البحر الكاريبي ودول أمريكا الشمالية نجد أنّ مناطق دول البحر الكاريبي وبسبب خصائصها الجغرافية تعثرت السياسات العامة فيها وتردّت نوعية الأداء فيها  بسبب عدم المساواة السياسية والاقتصادية والرضوخ لحكم الأقليات الساعي لترسين بقائهم بالعمل المؤسساتي لا خدمة للوطن وشعبه بل للحفاظ على السلطة السياسية القائمة على النُخب والمحاصصة الفئوية والحزبية بينما نجد العكس من ذلك في دول أمريكا الشمالية حيث أدى توزيع السلطات السياسية والموارد الاقتصادية بعدالة ومساواة إلى نمو المؤسسات العامة والاهتمام بالسياسات التعليمية للمجتمعات وزيادة نسبة التطور في جميع سبل الحياة وتنمية مفاصلها فتحقق فيها حُسن الأداء في أحسن صوره كلما توسعت دائرة  المشاركة السياسية وتحققت الشفافية السياسية والديمقراطية التشاركية والتزمت المؤسسات الرسمية باللوائح والقوانين التي يحددها دستور البلاد وفي منطقتنا العربية نجد أنّ أغلب النُظم السياسية فيها لا تُجيد معنى الجودة السياسية وترتكب الأخطاء المؤسساتية المتتالية وتتعثر فيها خطط التنمية وتهدر فيها الفرص والأموال ويتداول فيها مال السحت الحرام وتتعزز فيه الفئوية والطائفية والتجاذبات الفردية التي تنتج كل ما هو سيء ورديء السلوك والسمعة للحفاظ على مكتسبات ذاتية ووظيفية وصورية بالية تُغضب الله وعباده فالرديء لا ينتج الّا القبيح وشائن الخُلق بالرغم من أن مستويات الجودة والتدني متفاوتة بين دولة وأخرى حسب عقيدة وطبيعة وشكل نظام الحكم القائم ونزاهة القائمين عليه .

 

لا شك إنّ الشفافية وتقبَّل الآخر وشيوع ثقافة الحوار تعزز القيم الإنسانية والمعايير المشتركة  وتُشجع على الاندماج والانفتاح  وتقود إلى لديمقراطية التشاركية كما أنّ حُسن اختيار الرجل المناسب يسهِّل إنجاز الجودة العالية المُستنِدة إلى فرض الأولويات الثقافية والسياسية والاقتصادية والجماهيرية  التي غالباً ما لفتت انتباه الباحثين والأكاديميين في الجامعات والكليات العالمية فانهمكوا لإيلاء الاهتمام الدولي بموضوع الجودة لأنها تُشكِّل حوافز للفاعلين الرئيسيين في النظم الديمقراطية الحديثة للوصول إلى الحكم الرشيد القادر على استخدام الموارد المالية والبشرية في التطور العلمي والتكنلوجي وخلق بُنْية مالية واجتماعية وسياسية مستقرَّة قادرة على جذب الاستثمار الداخلي والخارجي وتشغيل ملايين العاطلين عن العمل بما يعزز تكافؤ الفرص والمساواة السياسية والثقافية والاجتماعية وتقسيم العمل وتشغيل الكفاءات والاعتماد على الذات وتُشير جميع الإحصائيات الدولية إلى أنّ تحقيق هذه المقومات له تأثير إيجابي على جودة الإداء الحكومي وهذا يعني أنَّ توزيع المكاسب والمناصب وفق معايير الكفاءة والنزاهة يُعطي مستويات عليا من الجودة المؤسسية الخاصة والعامة ويوقظ الحس الوطني  لدى المواطنين وينمي قدرة الدوائر ذات الجودة العالية للوصول إلى التنمية المستدامة وتوفير الطابع الديمقراطي العادل في توزيع المنافع العامة فتنفتح آفاق التعليم والتطوير والمهنية وتزداد وتتطور فرص المنافسة والمساهمة العلمية والسياسية والاقتصادية القادرة على خلق وتقديم أفضل الخدمات للمواطن وتحقيق النتائج المخطط لها من قبل مؤسسات الدولة الوطنية أمّا سلوك النخب السياسية الساعي للكسب المادي فإنه يمنع تطور المؤسسات الرسمية ويقلل من جودتها ويبدد الزمن والموارد والإمكانيات البشرية والمالية وكلما كانت الحكومة رشيدة اتصفت قراراتها بالجودة ونتائجها بالتنموية وشعبها بالرخاء.

 

الدكتور شاكر عبد القهار الكبيسي

             أوسلو

     26-11-2022م

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

   






الاحد ٣ جمادي الاولى ١٤٤٤ هـ   ۞۞۞  الموافق  ٢٧ / تشرين الثاني / ٢٠٢٢ م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب الدكتور شاكر عبد القهار الكبيسي نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة