شبكة ذي قار
عـاجـل










أمريكا لن تنقذ العراق من محنته الحالية حتى اشعار آخر

أ.د. مؤيد المحمودي

 

 

مع ظهور حالة الانسداد السياسي الحالية دأبت بعض الأصوات العراقية على الحديث عن اقتراب حصول تدخل عسكري أمريكي لتحجيم الذيول الايرانية في العراق واعادة تصحيح الوضع السياسي. وبررت تلك الأصوات جدوى هذا التدخل العسكري بأزمة الطاقة التي سببتها الحرب الروسية الأوكرانية والبحث عن البدائل المناسبة. لذا اعتبر هذا النقص في الطاقة فرصة لإعادة النظر في السياسة الأمريكية اتجاه الوضع العراقي وتغيير الخطط العسكرية الأمريكية بشأنه.  وهذا بدوره أدى الى تدخل قوي للبنتاجون على خط الأزمة في العراق، فتم تحريك 6000 جندي أمريكي الى احدى القواعد العسكرية الأمريكية في العراق وهناك أعداد أخرى من هذه القوات سميت بالقوة الضاربة تنتظر في احدى الدول المجاورة للتدخل في الوقت المناسب والعمل على تنظيف البلاد من المليشيات المنفلتة. وقيل أيضا أن أمريكا تحاور النخب العراقية في نيويورك من أجل تأهيل حزب البعث واعادته الى الحكم. وان رحلة الكاظمي الأخيرة الى الولايات المتحدة تضمنت التفاوض من أجل تدخل أمريكي أو دولي لإيجاد حل سريع للأزمة العراقية الراهنة. حتى جاءت التصريحات الأخيرة لنائبة مساعد وزير الخارجية الأمريكي لشؤون إيران والعراق، جينيفر جافيتو التي وضعت النقاط على الحروف حول توجهات السياسة الأمريكية اتجاه العراق في الوقت الحاضر. فاكتشفنا أن تلك المعلومات التي تتحدث عن تدخل أمريكي قريب في الأزمة العراقية هي مجرد اجتهادات لا تستند الى الواقع بشيء، وربما ورد بعضها بحسن النية من قبل أناس يتمنون لحظة الخلاص من هذه العملية السياسية الفاسدة بأية وسيلة ممكنة حتى وصلت بهم الامور الى حد المبالغة في التمنيات.

 فتلك المسؤولة في وزارة الخارجية الأمريكية ذكرت أن " أمريكا لن تتدخل في تشكيل الحكومة، ولا في فض النزاعات بين الأطراف السياسية المتنازعة، وكل ما يهمها من أمور العراق استقراره واستقلال الطاقة ". ثم اردفت قائلة " ان ما بين العراق وإيران مصالح مشتركة لا تعارضها أمريكا" وطلبت من العراقيين التقيد بنظام المحاصصة، قائلة، "يحتاج القادة العراقيون، من مختلف أطيافهم، إلى التأكد من تضمين جميع الاصوات كجزء من اية تسوية سياسية".

بالمختصر يتضح من حديث هذه المسؤولة في الخارجية أن أمريكا تفضل بقاء العراق تحت الوصاية الإيرانية الى أجل غير مسمى لأنها تعتبر إيران كلب الحراسة المناسب الذي يؤمن مصالحها ويستطيع أن يضبط تحركات المليشيات في العراق ويحد من طموحاتها المنفلتة التي قد تطال تلك المصالح أحيانا.  كما ان أمريكا لا تنظر الى العراق بأنه في مصاف دولة أوروبية مثل أوكرانيا يستحق شعبها الوقوف الى جانبه ومساندته على التخلص من النفوذ الايراني. ولا ترى أي مانع في أن يتم هذا النفوذ تحت مظلة المصالح المشتركة بين العراق وإيران حسب ما تدعيه نائبة مساعد وزير الخارجية الأمريكية.  مؤكدة بذلك على جهلها المطبق بطبيعة الصراع العربي - الفارسي على أرض العراق. والذي تمتد جذوره الى العصور القديمة عندما احتل الفرس مدينة بابل الآشورية سنة 539 قبل الميلاد. وما تبعها من فتوحات اسلامية في معارك ذي قار ونهاوند والقادسية التي دخل الفرس على أثرها الى الاسلام. لكنهم حاولوا بعد ذلك تقويض الدولة العباسية في زمن هارون الرشيد وخلق الفرقة بين أبناؤه الأمين والمأمون الذين حكموا من بعده. أما العصر الحديث فقد شهد تواطؤ انكلترا مع إيران لتسهيل مهمة احتلالها للإمارة العراقية عربستان عام 1925 واعدام أميرها الشيخ خزعل لوقوفه ضد هذا الاحتلال. ومن ثمّ إعلان اقليم عربستان الغني بالنفط تابعا لإيران وأصبح شعبه يعاني حاليا من الاضطهاد القومي الفارسي. ولم تتوقف الطموحات الفارسية عند هذا الحد فقد عمدت إيران في زمن الشاه الى التمدد على حساب الأراضي العراقية حتى أجبرت العراق على اقتسام شط العرب معها بالرغم من كونه نهر عراقي خالص. واضطر العراق الى الدخول في حرب ضروس لمدة 8 سنوات لمنع إيران من تصدير الثورة الخمينية الخبيثة اليه. وكانت خسارة الجانب الايراني في هذه المعركة فادحة جدا فعمدت بعدها إيران على مساعدة أمريكا في غزو العراق انتقاما لتلك الخسارة. ولمكافئتها على هذه الخدمة الجليلة سلمت أمريكا العراق الى إيران على طبق من ذهب لتبقى جاثمة على صدره حتى يومنا هذا، بل منعت روافد الأنهر التي تنبع من إيران وتصب في نهر دجلة. ان أسباب هذا الصراع الأزلي بين العراق وإيران الذي تصفه مسؤولة الخارجية الأمريكية بكل سذاجة بالمصالح المشتركة، انما تعود بالدرجة الأولى الى التعصب العنصري الايراني ضد كل ما هو عربي نتيجة لتركهم الديانة الزردشتيّة المجوسية وفقدانهم للإمبراطورية الفارسية على إثر دخولهم الديانة الاسلامية.

ان الذين يراهنون على تدخل عسكري أمريكي لتصحيح العملية السياسية في العراق يفترضون أن أمريكا تمتلك واعزا أخلاقيا يحتم عليها تحمل تبعات الكارثة التي سببتها في غزوها للعراق. متناسيين بذلك أن السياسة اليوم لا تخضع لمنطق الأخلاق والمبادئ بل تتحكم فيها جدوى المصالح المترتبة عليها. وبالتالي فان مجمل المصالح الأمريكية والإسرائيلية والايرانية يناسبها جدا بقاء العراق في وضعه الحالي وهو مسلوب الارادة وضعيف ومتفكك تعصف به الأزمات ويعاني من انقسام سياسي حاد. على العكس من ذلك فان أي تغيير يؤدي الى تعافي العراق من محنته الحالية يمكن أن يعتبر تهديد لمصالح تلك الدول. خاصة إذا صاحب هذا التغيير مجيء حكم وطني يكون للبعث دور فيه، فذلك يمكن أن يؤدي الى تغييرات جيوسياسية كبيرة في المنطقة.  من ضمنها بعث الشعور القومي العربي من جديد والذي يمكن أن يحجم مشاريع التطبيع التي علقت عليها الحركة الصهيونية أمالا كبيرة. لذا فان أمريكا اليوم مرتاحة من وضع العراق الحالي بوجود مضختين للنفط تضخ في نفس الوقت من الشمال والجنوب ويذهب ريعها الى جيوب الشركات الأمريكية، بغض النظر عما إذا كان قسما من هذا النفط يسرق من قوت الشعب العراقي لصالح بعض الأحزاب الكردية. المرة الوحيدة التي حصل فيها امتعاض على السلطة العراقية من قبل الحكومة الأمريكية وثارت ثائرة الكونجرس فيها عندما حاول العراق استعادة حقه في النفط المسروق من حقول الشمال والذي أقرته قرارات المحكمة الاتحادية. لأن هذه القرارات اعتبرت ذات مساس بشكل خاص في مصالح الشركات الأمريكية المستثمرة في تلك الحقول والتي تعمل أصلا بطريقة غير مشروعة. أما اسرائيل فان قادتها قد اعترفوا بمدى ارتياحهم في التخلص من أكبر كابوس كان يؤرقهم بوجود الحكم الوطني في العراق وجيشه القوي قبل سنة 2003. وإيران من ناحيتها ترى في ضعف العراق فرصة ثمينة للبقاء متمددة في أراضيه واستنزاف ثرواته لكي تضمه تدريجيا الى باقي أركان الامبراطورية الفارسية التي تنوي انشاء نواتها من دول سوريا ولبنان واليمن تحت ذريعة تحرير فلسطين. ولا ندري كيف يمكن لفلسطين أن تتحرر عن طريق اليمن.

كعراقيين علينا أن نمحو من ذاكرتنا فكرة تدخل أمريكي يساعدنا على تغيير العملية السياسية الحالية، والتي ولدت أصلا من رحم الاحتلال الأمريكي للعراق. علما أن التخطيط لتغيير نظام الحكم في العراق لم يكن وليد الغزو الأمريكي سنة 2003 وما صاحبه من مبررات واهية عن وجود أسلحة الدمار الشامل واقامة حكم ديمقراطي بديل ومعاقبة العراق على حربه مع الكويت. بل أن فكرة التغيير تعود جذورها الى نهاية الثمانينيات عندما خرج العراق منتصرا من حرب إيران وكان يمتلك جيشا قوي وخبرة عسكرية متطورة. عندها شعرت الدوائر الصهيو- أمريكية بالخطر من الحكم الوطني البعثي في العراق فبدأت حملة شعواء عليه من خلال الصحافة الأمريكية تحمل الكثير من المغالطات عن انتهاك حقوق الانسان وابادة الأكراد. وهذه السياسة العدوانية اتجاه العراق وشعبه لم تتغير حتى بعد مرحلة الاحتلال، خاصة عندما تلقى جيش الغزو ضربات موجعة على يد المقاومة العراقية المسلحة.  فلا يمكن لنا اليوم أن ننسى جريمة أمريكا في قتل أكثر من مليون عراقي وتشريد الالاف منهم والتسبب في عاهات مستديمة وأمراض مسرطنة بالعديد منهم، نتيجة استخدامها لأسلحة محرمة دوليا خلال حربها على العراق. وهي التي عملت على تدمير البنية التحتية العراقية من غير أن تكترث في اصلاح ما دمرته من تلك المنشآت الحيوية. وقامت بوضع نظام المحاصصة الطائفية في زمن بريمر وصنعت دستورا عقيما وفدرالية تشجع على الانفصال. وفي زمن أوباما لم تتردد أمريكا في مقايضة العراق مقابل موافقة إيران على ابرام الاتفاق النووي. وبعد كل هذا الدمار المتعمد الذي سببته تلك الدولة العدوانية لا يمكن لنا أن توقع منها خيرا تقدمه للعراق. وكما يقول المثل العراقي (ماكو زنابير تفرز عسل).






الخميس ٣ ربيع الاول ١٤٤٤ هـ   ۞۞۞  الموافق  ٢٩ / أيلول / ٢٠٢٢ م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب أ.د. مؤيد المحمودي نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة