شبكة ذي قار
عـاجـل










 

القادِسيّة الثالِثة بثَورةٍ شَبابيةٍ سِلْميّة

حسن خليل غريب

 

 

بعد أن انكشف اللثام عن خداع وكذب مبدأ (الدفاع عن المذهب)، الذي ابتكرته أحابيل نظام الملالي في طهران وأوهامه. وبعد أن وعى أخيراً جزء من الشعب العراقي أن ذلك المبدأ كان غطاء إيرانياً ظاهرياً من أجل التعتيم على أهدافه الحقيقية في بناء إمبراطورية فارسية يحكمها ديكتاتور بلباس ديني. أخذ المشهد على الساحة العراقية يتغيَّر وينقلب من النقيض إلى النقيض.

 فبعد أن شعر العراقي بالذل وهو يغسل أقدام الزوار الإيرانيين ويتبارك بها، كان الشعار الثوري الأول الذي رفعه الشعب العراقي في ثورة تشرين الأول: (إيران بره بره، العراق تبقى حرة)، فكان شعاراً قومياً ووطنياً بامتياز. ومن بعدها كرَّت سبحة الشعارات السياسية الأخرى، التي تواصلت بعدها الشعارات المطلبية، وما أكثرها.

 إن تراتبية الشعارات وأولوياتها، والتي كان الشعار السياسي مقدمة لها، ينفي ما أخذ يروِج له الإعلام الإيراني، وكذلك الإعلام العراقي المتواطئ مع إيران وذيولها من أقطاب (العملية السياسية). وفيه وصف الإعلام المذكور بأن الثوار هم شلل شكت من الجوع، وراحت تطالب برغيف الخبز، وسيخرجون من الشوارع لقاء بعض إصلاحات تحسِّن حياتهم المعيشية. واتهم قياداتهم بأنهم انتفضوا بتعليمات من الخارج وأوامر منه. وإنهم يستهدفون الاستقرار في العراق، وزرع الفتنة لتمزيق وحدة الشعبين الإيراني والعراقي، بمزاعمهم، وأكاذيبهم تلك، ما دروا يوماً أن الشعب العراقي يرفض لقمة الخبز المغمَّسة بالذل، لذلك رفع في الساحات ومن على الجسور شعار (هيهات منا الذُلَّة). ومفهوم الذُلَّة في قاموس الثوار مفهوم وطني وقومي، وليس مفهوماً مذهبياً كما غرسه نظام الملالي الطائفي الديكتاتوري، في عقول البسطاء من العراقيين. ذلك أن النظام المذكور بذل كل أحابيله وخدعه من أجل غسل أدمغة شريحة من العراقيين من كل ما يمت إلى الوطنية والقومية بصلة، وعمل على حشوها بكل ما هو طائفي تفريقي وتقسيمي مملوء بالتعصب والجهل.

 وعندما استراح نظام ولاية الفقيه، بعد ستة عشر عاماً من عمليات الغسل والحقن، واعتقد أن الشعب العراقي صار مدجَّناً وخاضعاً لإملاءاته، استفاق على أن مبيداته التي استخدمها في عمليات غسل الأدمغة، أصبحت فاسدة، إذ كشفت الثورة عن فسادها. وأخيراً، وبدخول الشباب في الثورة، مزَّقوا كل أسس معرفة التواكل والتقليد والاستسلام، وكشفوا عن فساد ادعاء (نصرة المذهب)، ورفضوا الطائفية، وأعلنوا مبدأ (نصرة الوطن) لانه لا يتقاطع مع نصرة الدين الحق بل يتكامل معه ويعززه . كما أنهم كشفوا عن فساد فتاوي اولئك المعمَّمين الذين أرهبوا الناس بدخول نار جهنم إذا لم يلتزموا بـ(تكليفاتهم الشرعية). ولذلك ثاروا وحطَّموا القيود الخبيثة، ولاحقوا العمائم التي كانت تروِّج لها، وتغلِّفها بالنصوص الدينية، وبالأخص منها النصوص المذهبية.

 ومن أجل نصرة الوطن، أحرق الثوار مراكز القنصليات الإيرانية لأنها أوكار لمخابرات وجواسيس نظام الملالي الطائفي. ومن أجل الكشف عن ضلالة ادعاء (نصرة المذهب) واستغلاله كغطاء لتفتيت العراق والوطن العربي وتفتيته ، وأمام قبضات الثوار أخذت العمائم تتدحرج في الساحات والجسور وحتى في الأزقَّة الضيقة. وهذا ما يُفسِّر غياب تلك العمائم بشكل شبه كامل عن أرض الثورة سوى قِلَّة من رجال الدين الذين لم تتلوَّث فتاواهم بتمجيد وتقديس أصنام الملتحقين ببلاط كسرى الجديد الذي ظهر بلباس مزركش بخيوط واهية من النصوص الطائفية مدعياً الدين.

 كانت أولوية شعار الأمر بطرد كسرى الجديد، ووضع الشعارات المطلبية في المقام الثاني، بداية للثورة، وشكَّلا مبدأً غطى على كل ما عداه. وهذا ما يذكِّرنا بالمبادئ التي كانت الهادية المرشدة للقادسية الأولى والثانية، وهي اقتلاع الوجود الفارسي من الأرض العربية في القادسية الأولى، وصدِّ مبدأ (تصدير الثورة) الفارسي في القادسية الثانية ومنعه من اجتياز حدود العراق الجغرافية وحدود إيمانه بالوطنية. وهذه القادسية الثالثة تسلك الصراط التحرري الجديد برفع شعار (إيران بره بره).

 القادسيات الثلاث توحَّدت بالهدف، ولكنها اختلفت بالوسائل. فكان الهدف من الأولى طرد الفرس من الأرض العربية، فاستخدم العرب الأوائل السيف كوسيلة لتحقيقه. وفي الثانية كان الهدف صد هجمة (تصدير الثورة) الفارسية عبر اختراق الحدود البرية للعراق، فكانت الطائرة والدبابة والصاروخ هو الوسيلة التي استخدمتها الدولة بعد ثورة 17 تموز من العام 1968. وأما الهدف في الثالثة فهو تحرير العراق والوطن العربي من الاحتلال والنفوذ الفارسي. وفي هذه استخدم الثوار وسيلة (الثورة السلمية) والتزموا بها التزاماً تاماً. فلماذا كانت السلمية سلاحاً في قادسية العراقيين الثالثة؟ وهل يمكنها أن تحقق أهدافها؟

 في القادستين الأولى والثانية، كانت المواجهة عسكرية لأنها كانت مواجهة حدود بين العرب والفرس، معروفة فيها مواقع العدو القادم القابع عليها في الأولى، والقادم من ورائها في الثانية. وأما في الثالثة فهي حرب متداخلة لا حدود واضحة لها. طرفاها: الشعب العراقي الذي يعمل على التحرير، والآخر عميل للاحتلال يقاتل من أجل بقائه. والأخطر ما فيها أن الكل عراقيين، لذا فإن أية مواجهة عسكرية بينهما، لها مخاطرها وخسائرها، اضافة الى انها ستفقد الثورة اقوى سلاح لها الا وهو سلميتها. ومن هنا يصرّ ويحرص الشباب الثوار قيادات وقواعد على  الوسائل السلمية مهما بلغت التضحيات الغالية . وإذا عرفنا أن خبث نظام الملالي كان يعمل جاهداً من أجل اشتعال حرب أهلية لكي يقتل فيها العراقي أخاه.

 وإذا عرفنا أيضاً أن الحرب الأهلية لا تصل إلى نتائج حاسمة، بل تتكاثر فيها الخسائر بين الطرفين ويسيل الدم العراقي وتتعمق الجروح، وتتكاثر الثارات المجتمعية والعشائرية. علينا أن نعرف مدى الوعي الذي تتميَّز به قيادات تنسيقيات ثورة تشرين الشبابية، التي كانت شديدة الحرص  في المحافظة على سلمية الوسائل، بكل ما تتطلبه من جهد لمنع دخول الثورة في الفعل وردود الفعل. وكان يحدوها بذلك المحافظة على الدم العراقي، والحرص على وحدة الثوار. فلقد أدركت تنسيقيات الثورة أن الثوار هم من الشريحة الفقيرة والمحتاجة، وإن أفراد الميلشيات التي يستخدمها نظام الملالي هم من الشريحة الطبقية ذاتها للثوار، ولكن ما يربطهم مع الرؤوس العميلة راتب يتلقونه منهم، ولكنه لا يُسمن ولا يغني من جوع، أو يدرأ عنهم غائلة المرض والعتمة، وسوف تصحو ضمائرهم في لحظة من اللحظات وينضموا إلى أبناء طبقتهم آجلاً أم عاجلاً.

ففي ضبط الأعصاب التي كانت تحض عليها تنسيقيات الثورة، كانوا يراهنون على يأس مخابرات نظام الملالي بعد الصمود المذهل للثوار خاصة بعد أن اجتازوا حدود الخوف من الموت من جهة، ومن جهة أخرى المراهنة على صحوة ضمير أفراد الميليشيات التي لا بُدَّ من أن تظهر عندما يجد هؤلاء أنهم يقتلون جاراً لهم أو أخاً أو قريباً لقاء حفنة من راتب هزيل.

لكل هذا، نعتقد بأن القادسية الثالثة في العراق ضد النظام الفارسي قد بدأت منذ الأول من تشرين الأول من العام 2019، ولكن هذه المرة بوسائل سلمية أثبتت حتى الآن مصداقيتها، واستمراريتها وتصاعد عنفوانها واتساع رقعتها.

وهنا، نسجِّل نقلة نوعية في تأثير ثورة الشباب في العراق، في أنها لم تمرَّ مرور الكرام على ذاكرة القائمين على (العملية السياسية) في هذه المرحلة، ويكفيها تأثيراً بالغاً في أن شعاراتها حفرت عميقاً في أجندات المحور الدولي – العربي – العراقي الذي تشكَّل بعد الكشف عن خطورة الدور الإيراني على الوضعين العراقي خاصة والعربي عامة. وهو المحور الذي يعمل الآن تحت مسمى خيمة (حكومة الكاظمي)، وتحت تأثير العجز عن الوصول إلى اتفاق في فيينا بين المجتمعين الدولي والعربي يحمي الأمن القومي العربي من المخطط الإيراني.

 فمن مظاهر هذا التأثير، وإن كان من منظار لا يزال يلفه القصور في الرؤية الاستراتيجية لأطرافه، وخاصة رؤية التيار المناهض المتمثل بـ(التيار الصدري)، هو أن مقتدى الصدر في معارضته الاخيرة بعد آخر انتخابات فاشلة جرت في العراق، لم يستطع أن يظهر أمام الجماهير العراقية الثائرة من دون إعلان شعارين أساسيين من شعاراتها، وهما: فساد العملية السياسية في العراق وواجب إصلاحها أولاً، والإعلان عن خطورة التدخل الخارجي، وهو يعني ضمناً التدخل الإيراني، ثانياً.

 ونتيجة لهذا المتغير، وعلى الرغم من قصور النظر الاستراتيجي عند فاعليه، فإنه يُسجَّل نقطة تحول استطاعت الثورة الشبابية أن تحدثها في جدار (العملية السياسية) الذي كان وكأنه أصبح مُغلقاً في مواجهة حركة التغيير الشبابية. وهذا ما يتوجَّب على شتى القوى التي شاركت في الثورة منذ تشرين الأول من العام 2019، أن تدرك أن المشاريع التي تُحاك الآن للقضية العراقية، سوف تبقى تحت تأثير ما يطرحونه من حلول طويلة الأمد، لن يحجب نوره ما قد يُقدَّم من حلول ترقيعية من قبل أطراف ما يسمى بالمحور الدولي – العربي – العراقي، لا بل على القوى الشعبية المشاركة في الثورة أن تواكب تلك الحلول وتضغط من أجل مواجهة أي حل لا يضع القضية العراقية على سكتها الصحيحة، ومن أهمها إعادة العراق إلى حضنه العربي، لبناء نظام مدني جديد خالٍ من الطائفية والعرقية على شتى أشكالها وألوانها.

 

 

 






الاثنين ٣٠ صفر ١٤٤٤ هـ   ۞۞۞  الموافق  ٢٦ / أيلول / ٢٠٢٢ م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب حسن خليل غريب نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة