شبكة ذي قار
عـاجـل










النظام السياسي الحالي في العراق...والانحدار نحو الهاوية

 

كانت البدايات في تهاوي أعمدة النظام السياسي الحالي بالعراق قد ظهرت بشكل ملحوظ في عام 2014 عندما أقدم المالكي وهو رئيس الوزراء آنذاك على ادخال داعش إلى العراق. اعتقاداً منه أن هذه المنظمة المتطرفة يمكن أن تكون منافساً قوياً لحركة المقاومة الوطنية فتعمل على تقويض نشاطها وجرها إلى صراعات جانبية تؤدي إلى اضعافها، إلا أن طموحات داعش التي كانت أكبر من أحلام المالكي الصغيرة، دفعتها بالتوسع في السيطرة على الأرض حتى باتت تحتل نصف البلاد تقريبا.  ولكي تواجه هذا الوحش الجديد أوقعت حكومة المالكي نفسها في تناقضات عديدة أدت إلى تقلص المزيد من نفوذها والقدرة على التحكم في دفة الحكم. فتارة كانت تطلب العون من المحتل الأمريكي الذي أرغم على الرحيل من البلاد عام 2011 عل يد المقاومة الوطنية، وتارة أخرى لجأت إلى المليشيات المسلحة والمدعومة ايرانيا للتصدي إلى تلك المنظمة المتطرفة. وبعد انحسار نشاط داعش وجد النظام السياسي نفسه أسيرا لهيمنة مزدوجة أمريكية-ايرانية واستغلال ابتزازي من قبل للمليشيات التي استثمرت ثمن مشاركتها المحدودة في محاربة داعش بطريقة انتهازية. فعمدت إلى فتح مكاتب الاقتصادية في معظم المدن العراقية كواجهة سمسرة للهيمنة على المناقصات المالية التي تطرحها الدولة والاستيلاء على الممتلكات العامة والخاصة وابتزاز التجار والمواطنين ماليا من أجل توفير الحماية لهم. ناهيك عن الموارد المالية الكبيرة التي تدخل جيوب قادة الحشد من رواتب الجنود الوهميين وتهريب النفط والمخدرات. وهكذا فقدت الدولة هيبتها وتحولت من دولة مؤسسات إلى حكومة مليشيات منفلتة لا يردعها قانون أو نظام بل بمرور الزمن صارت سلطة المليشيات أقوى من سلطة الدولة نفسها.

ونتيجة لهذه الفوضى والفساد التي سببتها تسلط المليشيات على الحكم أضاعت البلاد أكثر من 2000 مليار دولار من مواردها دون تحقيق أية نهضة اقتصادية ملموسة، مما خلق العديد من الأزمات في المجتمع. ابتداء من نقص مزمن في الكهرباء وشحة في المياه وانكماش الانتاج الزراعي والصناعي وتراجع في خدمات الصحة والتعليم مع ازدياد في أعداد البطالة. وأدت هذه الأزمات إلى بروز انتفاضة تشرين عام 2019 التي استهدفت كشف عورة النظام الفاسد الحالي ونجحت في اسقاطه شعبيا. فجاءت الانتخابات الأخيرة لتبرز مدى هذا النجاح الذي حققته حركة تشرين في عزل النظام السياسي الحالي الذي لم يستطع استقطاب أعداد من الناخبين يتجاوز ال 18% من المرشحين للإدلاء بأصواتهم في الانتخابات البرلمانية الأخيرة. وحتى مع ضآلة هذا العدد من الناخبين فقد فشلت العديد من الكتل الذيلية المحسوبة على إيران في الحصول على نسب مؤثرة من أعداد المقاعد البرلمانية.

لقد زعمت أمريكا أن أحد أهدافها من غزو العراق سنة 2003 هو تحويله إلى واحة من الديمقراطية كي يصبح نموذجا يحتدا به في الشرق الأوسط، الا أنها في النهاية سلمته إلى إيران وذيولها ليجعلوا منه أسوء بلد في المنطقة وعنوانا للفساد والفشل السياسي ومثالا للفوضى وسوء الادارة تتندر به باقي الدول. وإذا ما استثنينا لبنان الذي هو الأخر يخضع إلى هيمنة مليشيات حزب الله الايرانية، لا يوجد حاليا نظام في المنطقة العربية يعيش حالة انسداد سياسي وعجز عن تشكيل حكومة جديدة مثل العراق. اذ بعد مضي أكثر من تسعة شهور على انتهاء الانتخابات البرلمانية فيه لازالت الحكومة الحالية تعتبر مؤقته ووظيفتها الأساسية تصريف الأعمال فقط ولا تستطيع اتخاذ قرارات مصيرية أو القيام بإنشاء مشاريع مهمة تخدم البلاد. أما البرلمان فهو الاخر منقسم على نفسه بين التيارات المتصارعة ومعطل عن اتخاذ قرارات مناسبة لحلحلة الوضع السياسي في البلاد. ويعود سبب هذا الانسداد السياسي بالدرجة الاولى إلى محاولة التحول من نظام المحاصصة الطائفية الذي كان يعمل على ارضاء جميع الكتل السياسية حسب مبدأ " هذا الك وهذا الي" إلى حكومة أغلبية برلمانية تحوي على بعض الكتل التي حصلت على أعلى الأصوات في الانتخابات الأخيرة وتستثني الكتل الخاسرة منها. لكن نقطة الخلاف الرئيسية هي كيفية تحديد الكتلة التي تمتلك الأغلبية في البرلمان. فحسب الدستور العقيم الذي أفرزه الغزو الأمريكي لا المحكمة الاتحادية ولا الهيئة المشرفة على الانتخابات ولا رئيس الجمهورية ولا البرلمان يمتلك الصلاحية الكاملة لإقرار هذه الأغلبية البرلمانية. ونتيجة لهذا العجز الدستوري أصبح النظام السياسي الحالي يعيش في حالة دوامة مغلقة، فلا يمكن له الرجوع إلى نظام المحاصصة السابق لان هذه الخطوة تستفز بعض الأطراف الحاكمة ومن جهة أخرى لا يمكن له المضي قدما نحو نظام الأغلبية لأنه يستثني أطراف أخرى فاعلة في الحكم. لذا فان عملية تشكيل حكومة جديدة ترضي جميع الأطراف المتصارعة قد وصلت إلى طريق شائك ولو حصلت معجزة ونجح أحد الأطراف في تشكيل حكومة بمفرده فان مثل هذه الحكومة سوف تكون ضعيفة وقد لا تدوم طويلا. ناهيك عن أن التسريبات الصوتية وتبادل الاتهامات بين أطراف الكتل الحزبية قد زاد من التناحرات وفقدان الثقة فيما بينها حتى وصلت مصداقية رجال العملية السياسية إلى الحضيض. وجميع هذه المؤشرات تؤكد على ان النظام السياسي الحالي قد   دخل مرحلة انتهاء الصلاحية وأشرف على الاحتضار وربما يدخل في نفق مسدود ينتهي به المطاف لا محالة نحو الهاوية. وهنا تبرز الحاجة إلى استبدال هذا النظام الفاشل بنظام وطني ديمقراطي جديد، وذلك وفق السيناريوهات المحتملة التالية:

1.نشوب حرب مدمرة في المنطقة بسبب فشل الاتفاق النووي مع إيران فتقدم على أثرها حكومة الملالي بتخصيب اليورانيوم إلى نسب عالية وإنتاج القنبلة النووية. ومن المحتمل أن تؤدي هذه الحرب إلى تحييد القدرات العسكرية الايرانية واضعاف نفوذها على دول المنطقة بما فيها العراق. وهذا من شأنه أن ينعكس ايجابيا على الوضع السياسي العراقي المرتبط نظامه الميليشياوي عضويا بالمحور الإيراني والذي يوفر له المظلة الواقية من السقوط.

2.احتدام الخلافات بين أقطاب العملية السياسية بسبب الانسداد الحالي وتعميق حالة الفشل بين الكتل الحزبية للتوصل إلى حل سياسي يرضي جميع الأطراف المتصارعة مما ينذر باللجوء إلى الصراع العسكري الداخلي بين المليشيات المسلحة لتسوية الخلافات فيما بينها. وهذا الصراع المسلح سوف يؤدي إلى استنزاف المليشيات لبعضها البعض ومن ثم اضعاف قوتها العسكرية، وبذلك يصبح المجال واسعا أمام إيجاد البديل المناسب لملأ الفراغ عن طريق قيام نظام حكم جديد تتزعمه القوى الوطنية. 

3. بروز حركة عسكرية مستقلة من الوطنيين الأحرار أو مدعومة من قبل أحزاب تمتلك تأريخا عريقا، تأخذ على عاتقها كنس هذه الزبالة السياسية التي جاءت على ظهر الدبابات الأمريكية.

4.قيام انتفاضة شعبية عارمة تستفيد من التجربة السابقة لحركة تشرين عام 2019، خاصة إذا ما صاحبها هذه المرة عصيان مدني وشلل تام لجميع مرافق الدولة. ومن ثم تنتهي هذه الحركة إلى اجتياح للمنطقة الخضراء واجبار الحكومة على تسليم السلطة إلى الشعب.

وفي هذا الصدد من الممكن مشاركة أكثر من سيناريو واحد للوصول إلى هدف تغيير النظام السياسي الحالي بالعراق. لكن الحقيقة التي يجب أن يعرفها العراقيون بكل واقعية ويكيفوا محور نضالهم حولها أن عملية التغيير تعتمد بالدرجة الأولى على سواعد أبناء الرافدين البررة لأنهم وحدهم يمتلكون العزيمة والإرادة لتحقيق هذا الهدف النبيل. انه قدرهم الذي يجب أن يتعايشون معه سواء ا قصرت أو طالت فترة المنازلة الحاسمة مع النظام الحالي.  وليتركوا جانبا أحلام العصافير التي تحمل معها أوهاما خيالية عن حلول جاهزة تأتيهم عن طريق التدخلات الامريكية أو مشاركة قوى دولية أخرى تأخذ على عاتقها تغبير النظام. فالمثل العراقي واضح في وصف هذه الحالة " ما كو زنابير (ذكور النحل) تفرز عسل" ربما أصبحت حكومة الولايات المتحدة الأمريكية الأن ذات دراية كافية بمدى الفساد الذي يسود النظام السياسي العراقي الحالي والرفض الشعبي الكبير له وبالتالي فهي أكثر براغماتية من السابق لتقبل ظهور نظام سياسي جديد في العراق متحرر من النفوذ الايراني. لكن في نفس الوقت هذه الادارة لا تمتلك الحماسة الكافية للمساهمة بشكل فعال في هكذا مشروع كما حصل في سنة 2003. وذلك لأن أولويات السياسة الخارجية الأمريكية قد تبدلت في الوقت الحاضر وأصبحت منصبة بالدرجة الأولى على الحرب الأوكرانية ومحاولة تضييق الحصار الاقتصادي على روسيا لإفشال هجومها العسكري. أما فيما يخص الشرق الأوسط فان الحكومة الأمريكية تعمل جاهدة على ايجاد تحالف شرق أوسطي يكون العراق جزءا منه ويهدف بالدرجة الاولى إلى توفير الحماية لإسرائيل في حالة حدوث صراع بينها وبين إيران. كذلك يعمل هذا التحالف على توفير بدائل للطاقة إلى دول العالم وخاصة الدول الأوربية منها إذا ما حدث انقطاع لمصادر الطاقة الروسية بسبب الحصار المفروض عليها. وبالتالي فان السياسة الأمريكية اتجاه العراق لم يطرأ عليها تغييرا ملموسا منذ الغزو سنة 2003، اذ بعد تدمير البنى التحتية فيه لم يشهد هذا البلد أية مساهمات أمريكية مثمرة لإصلاح القطاعات الانتاجية والخدمية مثلما حصل من ضخ لاستثمارات أمريكية ضخمة أدت إلى تطوير الاقتصاد في اليابان وألمانيا وكوريا الجنوبية بعد احتلالها. بل عمدت أمريكا على ابقاء العراق مسلوب الارادة وفي حالة ضعف عسكري ملحوظ ليكون مجرد مضخة نقط تستثمرها الشركات الأمريكية ولا يمكن له أن يكون مصدر تهديد لمصالح اسرائيل أو بعض الدول في المنطقة.

ان النظام السياسي الحالي في العراق يستمد قوته بشكل اساسي من دعم المليشيات المسلحة المحسوبة على إيران، لكن ولاء القوات العسكرية النظامية له أمر مشكوك فيه بالرغم من اقحامها بأعداد كبيرة من قوات الدمج الولائية. وفي الوقت الذي لا زلت فيه معظم القوات النظامية تحتفظ بجزء من العقيدة العسكرية التي كانت سائدة قبل 2003، فإن قوات المليشيات تحتوي على خليط غير متجانس من حثالة المجتمع والمغرر بهم والعاطلين عن العمل التي تفتقر إلى أية عقيدة عسكرية أو سياسية ولا تجمعهما سوى بعض الشعارات الطائفية. وقد وصف الفيلسوف ابن خلدون هذه الشريحة من المجتمع خير وصف في مقدمته المشهورة حين قال "لا تولوا ابناء السفلة والسفهاء قيادة الجند ومناصب القضاء وشؤون العامة لأنهم إذا أصبحوا من ذوي المناصب اجتهدوا في ظلم الأبرياء وأبناء الشرفاء واذلالهم بشكل متعمد نظرا لشعورهم المستمر بعقدة النقض والدونية مما يؤدي في نهاية المطاف إلى سقوط الدول”. وكاد النظام السياسي الحالي أن يسقط في السابق على يد المقاومة الوطنية التي وصلت أطراف بغداد أو على يد داعش التي سيطرت على أراضي واسعة، لولا تدخل المظلة الجوية الأمريكية. الا أن هذه الحماية العسكرية الأمريكية لم تعد متوفرة في الوقت الحاضر وإذا ماحقت الحقيقة فلا يتوقع لهذا النظام المتفكك ولا لميلشياته المهلهلة أن تصمد طويلا في ساحة النزال.

 

أ. د. مؤيد المحمودي

18/7/2022

 






الثلاثاء ٢٠ ذو الحجــة ١٤٤٣ هـ   ۞۞۞  الموافق  ١٩ / تمــوز / ٢٠٢٢ م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب أ.د. مؤيد المحمودي نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة