شبكة ذي قار
عـاجـل










صفحات مشرقة من المسيرة الإنسانية للدكتور عبد المجيد الرافعي *.

نبيل الزعبي

 

يُجمِع كل كتاب السِيَر الذاتية للقادة الراحلين، ان كل من اختلف الخصوم معهم ولم يختلفوا عليهم، هم اولئك القادة الكبار الذين نادراً ما يتكرّرُون، والدكتور عبد المجيد الرافعي هو أحد هؤلاء الكبار الذين تركوا لذكراهم ان تترسخ في وجدان كل من عاصرهم، وخاصةً الذين كانوا على تماسٍ مباشر مع هذه القامة النضالية الكبيرة التي تخطّت مسيرتها مدينة طرابلس التي عاش وترعرع في حاراتها ودساكرها الشعبية، ليحلّق في سماء الوطن العربي الكبير، حاملاً معه "لبنانيته"، رسولاً للقِيَم الإنسانية، مبشراً بها، وداعياً لها منذ نعومة أظفاره، وقد تفتحت عيناه على الحياة في البيت الرافعي الذي اقترن بـ "الطيّب"، وتلك " الطيبة"، أولى الصفات التي حافظ عليها حتى الرمق الأخير، ليبقى والده الشيخ محمد، رمزاً للبيت الطيّب الذي حمل "الفتى "عبد المحيد امانة عطر الياسمين التي تكتنف جدرانه العتيقة حتى يومنا هذا، إلى امانة القِيَم التي زرعها الوالد فحملها هذا "الفتى " طالباً وجامعياً وطبيباً ومناضلاً وقائداً تخطى حدود الوطن الصغير إلى رحاب الوطن الاكبر والعالم.

لقد كنت واحداً من آلاف "الصِبْيَة "من ابناء المدينة الذين تفتح وعيهم على "الصِيت "العطر "للطبيب الطيّب الذي يعالج مرضاه بالمجان، فكانت الامهات وجارات الحي تتناقلن على مسامع البعض "مرؤة" هذا الحكيم الجديد الذي جاء ليقارع "الاقطاع "السياسي في عقر داره، متسلحاً بلباسه الأبيض وسماعته الطبية و"يصعد" السلالم والطوابق العالية لمعاينة الفقراء العاجزين عن شراء حبة الدواء، عجزهم عن الوصول إليه بسيارة الأجرة، ولَكَم شاهدت بأم العين كيف كان حريصاً على زيارة هؤلاء، حتى في عز "زعامته"، وقد دخل الندوة البرلمانية في العام ١٩٧٢.

وكم من المرات انتظرناه، رفاقي وأنا، حتى منتصف الليل على قارعة الطريق، بعد قيامه بواجباته النيابية في بيروت، لمرافقته وهو يفي بوعده لمن عليه زيارتهم الطبية في بيوتهم، دون السؤال عن عدد الطوابق التي سيصعدها ولم تنعم بالمصاعد الكهربائية، فيهرول أمامنا مسرعاً إليهم، وكأنه لم يزل في بداية النهار.

تلك هي المشهدية التي لم تكن لتفارق مسيرة الحكيم، ولم تكن لتغادر ذاكرة من عايشه عن قرب، ولا عجب ان تشكل شخصية "المجيد "وحركته اليومية في خدمة الناس، واحدة من اهم عوامل الاستقطاب للشباب الطرابلسي من ابناء جيلنا الذين وجدوا فيه القدوة للعطاء دون حدود، وهو الذي ب " انسانيته" لم يكن يميّز بين الصديق والخصم، فكلاهما سواءُ لديه عندما يقصدانه للطبابة او للمشورة الصحية،

وحتى ألدّ من خاصمه يوماً ورمى اصابع الديناميت على باب عيادته مدفوعاً من خصومةٍ سياسية (منتصف ستينيات القرن الماضي)، لم يتردد الحكيم عن زيارة اهله، عندما ورده ان والد هذا الشخص بحالةٍ صحية ميؤوسٍ منها، ليتوجه إلى منزله مباشرةً وينقله على عاتقه إلى احدى مستشفيات المدينة ويسهر على علاجه وتأمين ادويته لعدة أسابيع، لم يفكر خلالها الا بما عليه من مسؤوليات امام أحد ابناء مدينته التي قابلت العطاء بالوفاء وهي تطلق عليه ومنذ زمن ليس بالقريب، لقب " حكيم المدينة، وضمير طرابلس، ورفيق الشعب في معاركه"، محافظةً على هذا " الحبل السرّي " الذي لم ينقطع، وتلك المعادلة الصعبة التي وفرّت للدكتور الرافعي حبّاً من الناس لم يسبقه عليه أحد، ولعمري ان في ذلك ما كان يغمر قلب الراحل وفاءاً وحبّاً متبادلاً، مجسّداً ذلك في لقائه الشعبي المفتوح طوال يوم الثلاثاء من كل اسبوع وذلك في سنواته الاخيرة التي امتدت منذ عودته إلى لبنان في العام ٢٠٠٣ إلى رحيله في العام ٢٠١٧، بعد أن حالت الظروف الأمنية زيارة الأحباء في بيوتهم، كان خلالها يستمع للصغير والكبير، يسأل عن هذا وذاك مطمئناً ومستفسراً عن أحوال الجميع، غير متأففٍ من خدمة من يقصده طوال ايام الاسبوع وساعات الليل والنهار في بيته المفتوح للجميع.

في أيامه الأخيرة، كان السرطان قد تغلغل في جسده وقد بلغ التسعين من سنوات العمر المديد، فبقي محتفظاً بكل ما يملك الفارس من شجاعة ورباطة جأش، يحدّث زواره عن مراحل انتشار المرض وكيف ينتقل في اعضاء الجسد، بكل شفافيةٍ وصراحة موقناً بإرادة الخالق عزَّ وجلّ، ومتابعاً هموم الناس وكأنه في كامل صحته وعافيته، بينما كان القليل من الحضور، سوى المقرّبين ،يدركون مدى الاوجاع التي يعاني ويأبى ان يحمّل الآخرين آلامه وهمومه، ومع ذلك، يأتيه زائرُ يطلب خدمةً ما، فتراه ينكبُّ على الهاتف يراجع ويخاطب ويسأل إلى ان يصل طالب الخدمة إلى مبتغاه ولا يغادر خائباً.

كان يأنف أن يوصف بالسياسي ويرد على الفور:

نحن وُجِدنا لخدمة الناس ولذلك يصح الوصف باستبدال السياسة بالعمل العام الذي يرى مصالح الناس والبلد، فوق المصالح الشخصية، ومن يفكر بالصالح العام لا يهمه سوى رضا الله ورضا الناس واضعاً نفسه امام اي نقد ونصيحة ومشاورة من الناس، وهذا ما دأب عليه في الاشهر الاولى على انتخابه نائباً عن المدينة في العام ١٩٧٢، حين شكلّ البرلمان الشعبي الممثل لكل شرائح المدينة وفعالياتها والذي كان يجتمع بهم كل ثلاثة أشهر ليراجع وأياهم:

أين نحن من الوعود التي قدمناها للناس وكم بإمكاننا ان نحقق وماذا يتطلّب منا لكي نحقق النجاح معاً، فأنا لوحدي لا أستطيع ان اعمل دونكم ودون مشورتكم ومؤازرتكم.

ولقد أثمر هذا التعاون سلسلة من المنجزات التي لم تكن لتتحقق لولا تلك الكيمياء الايجابية الحاصلة بين المسؤول والشعب ونخص هنا أبرز ما حققته من معادلات:

١- التوصل إلى حلٍ نهائي مع شركة كهرباء قاديشا انتصاراً لطرابلس في المعركة التي خيضت ضد الشركة على مدى يزيد عن الاربع سنين ورضخت في النهاية لمطالب اللجان الشعبية، على صعيد تسعير الكيلوات امبير وتقديم كامل الطاقة الكهربائية للمشتركين وايقاف الملاحقات القضائية بحق الذين اقامت الشركة عليهم الدعاوى، وكانت هذه المعركة من اهم مراحل النضال الشعبي في المدينة الذي خاضته اللجان الشعبية في طرابلس والميناء بتوجيه ودعم الحزب والدكتور عبد المجيد مباشرةً، ولكم كان يؤلم الراحل لدى عودته إلى مدينته في العام ٢٠٠٣، مدى التراخي واللامبالاة في مواجهة ازمة الكهرباء المتجددة والاتكال الشعبي على" بدعة "الاشتراكات في المولدات الكهربائية وما اسفرت عنه من افراغ لجيوب الناس من اموال باتوا عاجزين عن دفعها بعد أن تفاقمت اليوم.

٢-اقرار إنشاء كلية الهندسة في الشمال كفرع أول وأساسي، وفّر المشقات الكبيرة على أبناء طرابلس والشمال من الذهاب إلى العاصمة بيروت يومياً او السكنى فيها وتكبُد مصاريف ذلك.

٣-القيام بحملة تأمين الكتاب المدرسي للطلبة المحتاجين والتي تجاوز مستحقيها الآلاف، وكانت تتم بإشراف اللجان الشعبية واشراك مدراء المدارس والثانويات بإعدادهم لقوائم الطلبة الاكثر فقراً وحاجةً.

٤-التوسع في انشاء المستوصفات الشعبية التي بلغت السبعة موزعة على مناطق التبانة، القبة، الزاهرية، الميناء. ابي سمراء ومخيمي البداوي والبارد، فضلاً عن عيادة الدكتور الرافعي في شارع الراهبات والعيادة الاخرى التي استحدثها في الطابق الارضي لدارته للحالات الطارئة والليلية.

٥-تخصيص المبالغ المخصصة لكل نائب لأجل الطرقات في مدينته والتوسع في تعبيد وتزفيت الطرق، خاصةً في المناطق الشعبية، واللجوء احياناً كثيرة إلى العمل الشعبي التطوعي برعايته وتقديم كافة المستلزمات المطلوبة، واشراك الاهالي في تزفيت احيائهم عندما كانت المعاملات الادارية البيروقراطية تحول دون الاسراع فيها.

٦- وان تنسى المدينة، فلا تنسى، يوم استقدم الرافعي وقيادة الحزب طاقماً طبياً كاملاً من الاختصاصيين والجراحين من العراق، في عز حرب السنتين وساهمت في سد العجز الفادح الذي عانته المدينة حينها.

كما لا تنسى المدينة يوم استُقدِمت اليها شاحنات الطحين والتمر والمواد الغذائية من العراق لتوزع على الناس بالمجان، بعدما منعت الحواجز الطائفية ايصال حصة المدينة من الطحين في اهراءات مرفأ بيروت، وتم توفير الطحين للأفران وخبزه وتوزيعه على نفقة الحزب تخفيفاً لمعاناة الناس.

٧-تقديم منح دراسية في جامعات ومعاهد العراق على مدى عشرات السنين وفي مختلف الاختصاصات العلمية والهندسية والطبية وغيرها لأبناء المدينة وكل لبنان دون تمييز بين لبناني وآخر وقد تجاوزت الآلاف وجلّ الخريجين يتوزعون اليوم على عدد لا يستهان به من الوظائف والمرافق العامة والخاصة.

٨-تسهيل تصدير المنتجات الزراعية للعراق التي تولاها اسطولُ كبير من شاحنات النقل الخارجي.

٩-تخصيص المصانع اللبنانية في المساهمة بقانون النفط مقابل الغذاء الذي فرضته الولايات المتحدة على العراق بقرار أممي جائر.

١٠- ومن ضمن القانون الجائر اعلاه ، كان السعي الحثيث لاعتماد مرفأ طرابلس كمرفأ اساسي لاستيراد المواد المشترات لدولة العراق واستعداد الحكم الوطني العراقي اصلاح وتأهيل مصفاتي طرابلس والزهراني وانشاء مصافي أخرى واستصلاح انبوب النفط الذي يصل كركوك بطرابلس لتزويد لبنان حاجته من النفط بالأسعار التشجيعية إلى جانب التكرير والتصدير، وكان من شأن ذلك ادرار المليارات من العملة الصعبة للخزينة اللبنانية لولا "الفيتو" الرسمي اللبناني على تلك العروض واجهاضها ، وقد اجهضوا معها كل مشاريع التطوير والتنمية واوصلوا البلد إلى ما هو عليه اليوم من إفقار وإفلاس وعجز غير مسبوق.

إلى ذلك، لا بد من الإشارة إلى امرين اثنين شكلا مرارةً داخلية رافقتا الدكتور الرافعي حتى اللحظات الاخيرة التي سبقت الرحيل:

الأولى: بعده القسري عن مدينته لعقدين كاملين من الزمن (١٩٨٣-٢٠٠٣) فرضتها الظروف الامنية والسياسة التي تعرض لها الحزب في لبنان وسحب ترخيصه القانوني وملاحقة عناصره واعتقال المئات من اعضائه وتصفية العشرات ومصادرة الممتلكات والمقرات،

وهذا ما أبعد الحزب عن جماهيره طوال تلك السنين ليستعيض عنها بالعمل السري وتحت الارض مما خلق فجوةً كبيرة في التواصل بين الاجيال، ولدى عودة الحكيم إلى بلده في العام ٢٠٠٣، كان لا يخفي الشوق لمدينته وابناءها وكان حريصاً على رد الزيارة لكل الوفود الشعبية والشخصيات التي زارته في منزله للتهنئة بعودته، حرصه على التواصل مع الناس في احيائهم ومتاجرهم والبيوت والمقاهي وكأنه يريد أن يُشبِع هذا الشوق بالمزيد من اللقاءات والندوات الشعبية.

الثاني: مرارة النكبة التي حلّت بالعراق ورفاق دربه وعلى رأسهم الشهيد صدام حسين، والزلزال الكبير الذي حلّ بالأمة جرّاء ذلك وقد خسرت اهم معين لها في ازماتها ولا سيّما لبنان وشعبه الذي خصته القيادة العراقية والرئيس الشهيد بكل دعم ومساندة وحُنوّ الشقيق على الشقيق، وكم ان لبنان وشعبه بحاجةٍ اليوم إلى من ينتشلهم من ازماتهم الوجودية التي طالت كل مقوّمات العيش الآدمي الكريم.

في أوج ما نحتاج اليه اليوم، يغادرنا الحكيم وقد تفاقمت الرزايا في جسد الوطن والامة، ولا تبقى سوى الوصية التي لخصّها بكلمتين تجسدان سر صمود هذا القائد في مسيرة نضال جاوزت ثلاثة ارباع القرن من الزمن، لتكون دليل حياة لكل المناضلين والعاملين في الشأن العام:

إياكم واليأس.

إياكم واليأس.

*فصل من كتاب سيُنشَر قريباً، يتحدث عن سيرة ومسيرة القائد الراحل.

 

 

 






الثلاثاء ١٣ ذو الحجــة ١٤٤٣ هـ   ۞۞۞  الموافق  ١٢ / تمــوز / ٢٠٢٢ م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب نبيل الزعبي نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة