شبكة ذي قار
عـاجـل










ميثاق السابع عشر من نيسان قراءة تاريخية

نزار السامرائي

مرت قبل أيام الذكرى التاسعة والخمسون لتوقيع ميثاق الوحدة الثلاثية "الاتحادية" بين مصر وسوريا والعراق، وقد وددت أن استعيد هذه الذكرى بهذه المقالة.

1

من أول يوم عَرَضَ قادةُ البعث المؤسسون، حتى قبل التأسيس الرسمي للحزب في 7 نيسان 1947، أفكارَهم سواء في كتاباتهم أو محاضراتهم على مدرج الجامعة السورية أو التجمعات الشعبية، في دمشق خاصة، ارتبط اسمُ الحزب بقضيتين فكرية وسياسية، هيمنتا تماماً على كل سلوك مناضليه، وصارتا الركن المتين لسياسات الحزب وشاقولاً لعلاقاته اقتراباً أو ابتعاداً بل وصداماً في بعض الأحيان مع الأطراف الأخرى، وهما قضية الوحدة العربية، وما لها من أرجحيةٍ معنويةٍ على سائر الأهداف التي نذرَ الحزبُ نفسَه للعمل على تحقيقها في عموم الوطن العربي، باعتبارها العودة إلى الأصل والوضع الطبيعي للأمة، ثم قضية فلسطين باعتبارها محوراً لوحدة أداة الثورة العربية القادرة على استنهاض كل المخبوء من قدرات الأمة العربية، وصبّها في ساحة النضال القومي والقضية التي يُجمعُ عليها العرب كلهم، حتى أن أي طرف له رأي آخر في تلك القضية ما كان بوسعه التعبير عن موقفه  الحقيقي أمام الملأ "كما هو حاصل اليوم" خشية من الغضب والعزلة السياسية على المستوى الشعبي.

ولهذا انصّب نضالُ الحزب على ترسيخ العمل الوحدوي سياسياً وفكرياً، وعندما حانت لحظة الخيار بين استمرار تنظيم الحزب، أو قيام أول تجربة وحدوية في العصر الحديث، اختار الحزب التضحية بكيانه التنظيمي من أجل تحقيق هدف الوحدة بين مصر وسوريا في شباط 1958، لأن الطرف الآخر من اتفاقية الوحدة، وهو مصر بزعامة الرئيس جمال عبد الناصر رحمه الله، اشترط حل التنظيمات الحزبية في سوريا للقبول بتحقيقها، كان البعث يرّدُ في وحدة مصر وسوريا، أبلغ ردٍ على حالة الشطر الاستعماري في اتفاقية سايكس بيكو، التي تعمّد أعداء الأمة زرعه بإقامة الكيان الصهيوني، ليكون حاجزا يحُول دون التقاء شطري الوطن العربي في آسيا وأفريقيا.

لم يستقطب ذلك القرار الذي أقدمت عليه القيادة القومية للحزب، إجماعاً من كل تنظيمات الحزب على الصعيد القومي، انطلاقا من فكرة تؤكد أن الوحدة لن تحميها أدواتُ السلطة مهما امتلكت من أسباب القوة، الوحدة تحميها القوى والتنظيمات الوحدوية التي صنعتها، هذا  من جهة وأن التنظيم إذا حل نفسه في سوريا، فإن ذلك ليس ملزما لكل تنظيمات الحزب المنتشرة على طول الوطن العربي وعرضه من جهة أخرى، ثم إن القيادة القومية لم تُلزم تنظيمات الحزب خارج سوريا بقرارها.

لم تستمر تجربة وحدة مصر وسوريا طويلا، ففي 28 أيلول 1961 قامت زمرة مغامرة من الضباط الفاشلين، ومرتبطة بقوى داخلية وخارجية، رأت في تجربة الوحدة تهديداً وجودياً لها وللكيانات القُطرية أو الدعوات المشبوهة التي اجتاحت الوطن العربي، تحت لافتات كثيرة مثل الفنيقية والفرعونية، أو الدعوات إلى وحدات على أسس جغرافية مع قليل من المطيبات التاريخية والاقتصادية، مثل وحدة الهلال الخصيب أو وحدة وادي النيل أو وحدة المغرب العربي، وغيرها من دعوات التغريب التي عاشتها الأمم في بداية رحلتها للبحث عن هويتها الوطنية أو التاريخية أو القومية، قامت بأسوأ جريمة عاشتها الأمة بعد إقامة الكيان الصهيوني فوق أرض فلسطين، تلكم هي جريمة الانفصال المشؤوم.

وقف الحزبُ بقوة بوجه دعوات التغريب والنزعة القُطرية، وقاومها بما امتلك من رصيد شعبي، وحرك الشارعَ العربي ضدها، وتحمّل الحزب ردات فعل الحكومات التي كانت على يقين أن مصلحتها تكمن في الكيان القُطري وليس في إذابته، وواجه في هذا السبيل، سلطات اعتمدت القمع البوليسي، لملاحقة كل التيارات الحداثية فكرياً وسياسياً في الأقطار العربية، وحاول النظام الرسمي أن يلعب على ورقة الصراع بين التيارات الأممية الاشتراكية أو الدينية ليعزل التيار القومي التقدمي، وفي تفعيل أسلوب الاغتيال السياسي لقادة البعث، كما حصل للشهيد عدنان المالكي في دمشق، ولكن الحزب قاتل بشراسة ِ مناضليه وفروسيتهم، حتى أصبح رقما سياسياً كبيرا في الساحة التي وُلد فيها أي سوريا، وتفَوَقَ في الانتخابات البرلمانية التي شهدتها سوريا وسط منافسة حرة، لم يحصل عليها أي اعتراض من أي طرف، في المعادلة السياسية السورية، تماما كما أصبح رقما تنظيميا قويا في الحركة الوطنية في العراق والمغرب العربي، وتمكن من فرض رؤيته لموضوع الوحدة على بقية القوى السياسية في البرلمان السوري المنتخب ديمقراطيا.

ولكن تجربة الوحدة لم تحقق النتائج المتوخاة منها، لأن الوحدة لا يمكن أن تحميها قوى قُطرية النزعة، كما حصل في الجمهورية العربية المتحدة، التي تسلطت فيها قوى لم تكن على قناعة تامة بقيمة الوحدة العربية، ولم تكن على دراية كافية بطرق إدارة التجربة الجديدة على الأمة في العصر الحديث.

ولهذا جاءت جريمة الانفصال في 28 أيلول 1961 مثل طعنة غادرة لطموح الأمة في امتلاك أسباب القوة السياسية، ومواجهة التحديات الدولية القائمة على أساس التكتلات القومية، نعم بعد الانفصال المرير الذي وأد مولود الأمة الجديد، وطموحها في إعادة بناء مجدها التليد، والذي نَظر إليه بعضُ المفكرين والسياسيين العرب، على أنه أخطر نكسة أصابت العرب في تاريخهم الحديث، من بعد اتفاقية سايكس بيكو واحتلال فلسطين عام 1948، وقد كان لاصطفاف بعض القيادات التاريخية في الحزب من جريمة الانفصال بمن فيهم صلاح البيطار وأكرم الحوراني، وقعاً كارثياً على كثير من البعثيين وعلى جمهور الحزب، ولننظر برؤية حاذقة إلى الانشقاق الأول في تاريخ الحزب الذي قاده عبد الله الريماوي وتراصف معه فؤاد الركابي، وخاصة بالنسبة لفؤاد الركابي الذي أدين بالتخطيط لمحاولة اغتيال عبد الكريم قاسم بمعزل عن موافقة القيادة القومية للحزب فضلا عن معرفتها بها، ولا علاقة له بموضوع الانفصال، فسنرى أنه نتيجة تراكمات قديمة، وليس حدثاً تفجّر نتيجة الموقف من الانفصال وتداعياته على تنظيمات الحزب.

لكن حيوية الحزب وخاصة تنظيم القطر العراقي، مكنته في 8 شباط 1963 من حشد الطاقات الجماهيرية، بعد إضراب طلابي شل الجامعات والمدارس الثانوية وخاصة في بغداد، فأسقط نظام الحكم الشعوبي الذي حاول حرف ثورة 14 تموز 1958 عن مسارها الوطني والقومي، ولم يكد يمضي شهر واحد إلا وكانت تنظيمات الحزب التي نجحت في جمع شتاتها بعد جريمة الانفصال تنفذ ثورة 8 آذار، وبذلك غسل السوريون بقيادة البعث عن أنفسهم عار الانفصال، وكأن الحدثين جاءا رداً على جريمة الانفصال.

وكي يؤكد البعث، صدق كل ما كان يدعو إليه من شعارات قومية، جاءت انطلاقته الجديدة على هذا الطريق، إذ بدأت الاتصالات بين القاهرة ودمشق وبغداد، لتحقيق أسمى هدف عرفته الأمة في تاريخها المعاصر أي هدف الوحدة العربية، وعلى الرغم من أن الرئيس جمال عبد الناصر رحمه الله، كان يتحسس من تجربته السياسية مع ما أسماه ببعث سوريا من أيام الوحدة، واستعداده للتعامل بإيجابية مع بعث العراق، ومع أن البعث لم يكن مرتاحا لهذه الأطروحة، لأنها تقفز فوق الأسباب الحقيقية للانفصال، وتسعى للإيقاع بين جناحي البعث الواحد، إلا أن البعث فضل المضي في هذا الطريق وكان على استعداد لأية خطوة تحقق الوحدة العربية، ولكن على أسس جديدة آخذاً بنظر الاعتبار الدرس القاسي الذي تعلّمه من تجربة وحدة  عام 1958 التي لم تعمر طويلا.

وجرت في القاهرة مباحثات ثلاثية بين العراق وسوريا ومصر، كان البعث فيها هو القائد والموجه لوفدي العراق وسوريا، وقاد الرئيس جمال عبد الناصر وفد مصر، وقاد الوفد السوري اللواء لؤي الأتاسي رئيس الدولة، وقاد الوفد العراقي رئيس الوزراء في ذلك الوقت السيد أحمد حسن البكر رحمه الله، وكانت مباحثات عسيرة بكل معنى الكلمة، حتى تم الإعلان عن بيان الوحدة الثلاثية بين الأقطار الثلاثة في السابع عشر من نيسان 1963، والذي وضع أسساً جديدة لوحدة اتحادية بينها، آخذا بنظر الاعتبار الاخفاق الذي مُنيت به وحدة مصر وسوريا، وخاصة بعد دخول العراق بثقله على التجربة الجديدة.

بعد أن انتهت مباحثات الوحدة الثلاثية وبعد أن تم الإعلان عن بيان السابع عشر من نيسان في العواصم العربية الثلاث، تهيأ أبناء الشعب لاستقبال الوفد العراقي الذي كان برئاسة رئيس الوزراء الرفيق أحمد حسن البكر رحمه الله، اصطفت الجماهير على طول الطريق الرابط بين مطار بغداد الدولي في ذلك الوقت "مطار المثنى" ومقر الحكومة، وكان يوماً مشهوداً في تاريخ العراق، واستبشرت الجماهير وظن كثير من الناس أن هدف الوحدة صار في متناول اليد، ولكن بعض الغيوم ارتفعت في غير وقتها في سماء القاهرة، وكانت تُنبئ بأن حدثاً خارج السياقات الجارية على وشك الحصول، إذ بدأ الصحفي المصري محمد حسنين هيكل المقرب من الرئيس المصري جمال عبد الناصر، والمعبّر عن وجهات نظره، في نشر سلسلة مقالات عن جدول أعمال الوحدة الثلاثية التي انتهت يوم 16 نيسان، وأشار إلى أن هذه السلسلة من المقالات ستنتهي يوم الثالث والعشرين من تموز من ذلك العام، وهو ذكرى ثورة يوليو والتي سيلقي فيها الرئيس المصري خطابه الشامل عن المسارات الوطنية والعربية والدولية، سياسياً واقتصادياً وعسكرياً، مما أثار شكوكاً جدية في نوايا مصر بشأن مشروع الوحدة الثلاثية.

لقد كان وفدا العراق وسوريا مدفوعين بعاطفة جارفة، للانتقام من خمس سنوات من تغريب فاحش للعراق عن حاضنته القومية، وللتكفير عن جريمة الانفصال بالنسبة للوفد السوري، أما الرئيس جمال عبد الناصر فكان يتحرك بحذر في حقل ألغام قد يجر مصر مرة أخرى إلى خيبة أمل بانتكاسة التجربة، لهذا تراكمت الشكوك داخل قاعة المفاوضات وفي الأوساط السياسية، وبدلاً من الانتقال من الأجواء العاطفية التي تُحركُ وفدي العراق وسوريا، والشكوك التي تُحركُ الوفد المصري، إلى وضع القوالب المُنشِئة لمؤسسات الوحدة وخاصة في مجال التكامل الاقتصادي العربي بين الاقطار الثلاثة، لا سيما وأن هناك تجربة عالمية كانت في طريقها للتطور وهي تجربة السوق الأوربية المشتركة، التي بدأت بخطوات محدودة بين دول عاشت فيما بينها حروبا طويلة، وتنتمي إلى قوميات وأعراق مختلفة، ومع أنها دول مسيحية، إلا أن تاريخها حافل بالصراعات الدموية فيما بينها، نتيجة لواحد من أسباب الاختلاف المشار إليها، أو لأسباب فرضها التطور التكنولوجي، والبحث عن الأقاليم التي تتوافر فيها المواد الأولية، أو أسواق تصريف البضائع المصنعة، ومع ذلك التقت على لغة واحدة هي المصلحة المشتركة، فأقامت صرحا أخذ بتطوير مؤسساته مع الوقت، بدلاً من ذلك فإن شيئاً لم يحصل في المفاوضات، لم يُنجز شيء من هذا بين الأقطار العربية الثلاثة، على الرغم من وجود اتفاقية الوحدة الاقتصادية العربية، إذ لعبت المصالح القُطرية، والنظر بقدسية إلى اتفاقية سايكس بيكو، دورا في تعزيز النفرة بين نظم الحكم، التي يُريد كل منها الامساك بقيادة الدفة وعدم الاستعداد للتفريط بالمتراكم من الوجاهة التي تمنحها المواقع السياسية الأولى في الأقطار الثلاثة.






الخميس ٤ شــوال ١٤٤٣ هـ   ۞۞۞  الموافق  ٠٥ / أيــار / ٢٠٢٢ م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب نزار السامرائي نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة