شبكة ذي قار
عـاجـل










قد يستغرب القاريء الكريم أن تكتب مواطنة من الأردن العربي عن ثورة ٨ شباط عام١٩٦٣، وهي ثورة وطنية ( عراقية ) ، ولكن هذا الإستغراب سيزول بعد أن أضع أمامه الحقيقة التي أعتز بها كل الاعتزاز وأفتخر، وهي أني أنتمي الى الأمة العربية المجيدة الواحدة، وتشرفت أن أكون ماجدة من ماجدات البعث، بعد أن أيقنت كم هي راقية وعظيمة أفكار ومباديء وقيم حزب البعث العربي الاشتراكي، وفوق هذا وذاك فقد وجدت أنَّ ثورة شباط المجيدة هي ثورة البعث، نُفِذت بأيادٍ بعثية عراقية لتحقيق اهداف قومية بامتياز، ولأن البعث هو مُلك للأمة كلها، وليس لقطر عربي بعينه، لذلك فقد هممت أن أكتب بتواضع عن ثورة البعث المباركة هذه في العراق التي نقلته من حال الى حال، فوطنياً قضت على الفردية والدكتاتورية والإستبداد الغير مسبوق فيه، وقومياً اعادته الى وطنه العربي الكبير بعد سنوات من العزلة، ووضعت إمكاناته في خدمة قضاياه ليكون قلب الأمة النابض وضميرها الحيّ.

وفي تجاوز للواقع وتحليل غير موضوعي له، يرى البعض واهماً أن ماحدث يوم الثامن من شباط كان انقلاباً عسكرياً بحتاً للإطاحة برئيس الوزراء عبدالكريم قاسم، أو هو حركة جلّ غايتها نقل السلطة من قاسم الى ضباط

آخرين كانوا قد شاركوا في ثورة ١٤تموز عام ١٩٥٨م، اي تغيير شخوص بشخوص وحسب!.وهذا البعض قد يكون متأثراً بروايات العناصر الميليشياوية التي احتضنها قاسم، ومنحها اليد الطولى في العبث بشؤون القطر العراقي، أو أنَّه يقصد عامداً بخس حقّ الثورة ورجالها، لأنَّ فكره الشعوبي وتوجُّهَه يتقاطع مع فكر البعث القومي.كما ان هناك البعض من الذي يستندد في توصيف الثورة من الانقلاب على عنصر واحد فقط هو ( آلية التغيير ) وحسب، بغض النظر عن عمق وشمولية التحولات التي احدثها الحدث في الوطن وفي المنطقة، وبغض النظر عن امتداداته وتأثيراته التاريخية في المستقبل !!.وهنا يكمن غياب الموضوعية والتسطيح الشديد في توصيف الاحداث وتسمياتها.

ومهما قيل ويُقال عن يوم الثامن من شباط عام١٩٦٣م، فبتناول العوامل الموضوعية المذكورة اعلاه بهدوء وعلمية، نجد انه في آلية التغيير التي اعتمدها ( بمشاركة ابناء الشعب إضافة الى الجيش ) ، وفي التحولات الضخمة التي احدثها، يجسد ثورة بامتياز، وبكل المقاييس، وبجملة ما تعنيه الثورة من تغيير جذري، وتحول في العمق الاستراتيجي السياسي والاقتصادي والاجتماعي وكافة شؤون الحياة الأخرى.فهذا اليوم لم يكن وليد لحظته فقط، وانما كان امتداداً لمعاناة شعبية دموية على نطاق واسع، وثورة شعبية تجسدت في انتفاضات واضرابات واسعة على مدى عدة سنين ارتقى فيها شهداء مدنيين وعسكريين الى عليين.كما لم يكن هذا اليوم لغرض المسك بزمام السلطة، أو يتناول مهمة الاصلاح، لأن الفارق كبير وشاسع بين الاصلاح والثورة.فالاصلاح كما نعرفه هو تغيير نسبي ومحدود في الواقع الذي يتم التصدي لإصلاحه، أو الانقلاب عليه، ولا يأخذ طابع التغيير الشمولي، بينما الثورة تستند الى برنامج وخطة للتجديد والتحديث طويلة الأمد، وهذا البرنامج من شروطه أنه يتضمن ظهيراً شعبياً واسعاً، والتحاما

وتطابق مؤسساتي شامل في كل أجهزة الدولة الرسمية، وليس مجرد تغيير في شكل النظام وتوصيفاته ومسمياته.

ولأن مهام الثورة كثيرة ومتشعبة وصعبة المنال، لذلك فهي تحتاج الى قيادة من نوع خاص، لها صفة النخبة والرمزية في تاريخها الوطني، وأن يكون لها دور مشهود، واسهام قوي في خدمة الشعب والوطن، اضافة الى امتلاكها حضوراً جماهيرياً واسعاً، مع نقاء صفحاتها وملفاتها الخاصة من كل شائبة قد تطعن في نزاهتها واتزان شخصياتها وتاريخهم الوطني، وبالتالي يمكنها أن تأخذ على عاتقها الاتجاه بالبلاد الى بر الأمان.

وهذا ما كان ينطبق على قادة ثورة شباط الظافرة، ابتداءً من مرحلة التخطيط والتهيئة، الى مرحلة التنفيذ، وصولاً الى ما بعد الثورة، وما وضعته من خطط ناجعة بوشر بتنفيذها لاعادة العراق الى أمته العربية وتسخير امكاناته لمواجهة العدو الصهيوني وتطويقه، والمباشرة بخطوات جادة نحو الوحدة العربية والقضاء على مؤامرة الانفصال بين مصر وسوريا، والإنتقال بالعراق الى الاستقلال السياسي الحقيقي بعيداً عن الاستقطاب الدولي الذي كان سائداً ومضراً بمصلحة العراق والأمة، وتحقيق وحدة اراضي العراق من زاخو الى البصرة مما كان يهددها في حينه من تمزق، ثم التأسيس لتحقيق الرقي والازدهار في القضايا التنموية.

ومن أهم ما يمكن أن تؤشره ذاكرة العراقيين والعرب عن رجال الثورة، أنهم كانوا يتميزون بنظافة اليد، ونقاء الضمير، والانحياز المطلق للشعب العراقي الأصيل، ولأمتهم العربية المجيدة، في كل مطاليبهم ومتطلباتهم المشروعة، وفي سعيها الحثيث والدؤوب لانهاء معاناة الشعب، وتحقيق العدالة الاجتماعية، وضمان السلم المجتمعي.


وقد يقول قائل أن الثوار كانوا جلّهم من العسكريين، بينما الثورات هي نتاج الشعوب، وليس القوات المسلحة، فنقول ان هذا ينطوي على تسطيح شديد للأمور، كما انه يتضمن نكران شديد لما حدث على ارض الواقع من مشاركة شعبية وكذلك نكران للتضحيات التي تخللتها والتي تصدرتها دماء شهداء شباب العراق من المدنيين الذين ارتقوا خلالها.

أن الثورة في مفهومها العلمي الشامل والأكثر حداثة، هو التغيير الشمولي الذي يحدثه الشعب من خلال أبنائه سواء في القوات المسلحة او غيرها، ومن خلال الشخصيات الوطنية المعروفة لديه بنضالها من أجله، وفي مقدمة هذه الشخصيات في ثورتنا الشباطية هم المناضلون البعثيون الذي خططوا للثورة ونفذوا صفحاتها، من أبناء القوات المسلحة الباسلة، ومن المناضلين في القطاعات المدنية الأخرى.فثورة ٨ شباط المجيدة كانت تعبيراً صادقاً عن انتفاضة شعب بكامله على الطغيان والظلم والتعسف، عبّر عنها بمظاهرات واحتجاجات مدنية عارمة في عموم العراق، فانتخى رجال البعث من العسكريين والمدنيين للشعب ووقفوا الى جانبه، فكانت صولتهم العزوم بالقضاء على الحكم القاسمي الذي سار بالبلاد الى نفق مجهول من الإستبداد والعزلة والانفلات والخراب والفوضى التي اخذت تهدد وحدة وسلامة اراضي الوطن.

فقد كان الشعب ينتظر بفارغ الصبر، وبرغبة عارمة في التغيير بعد أن آلت الأمور الى حالة من الفوضى والإقتتال بين أبناء الشعب الواحد، وانفلات أمني ودموي غير مسبوق، في ظروف عصيبة تغيرت فيها بوصلة حكم قاسم وشخصيته المأزومة، وانحرفت عن أهداف ونهج ثورة ١٤تموز ١٩٥٨.فالمشاعر الوطنية والقومية تحولت الى مطالب شعبية، بعد أن توافقت مع الشعور العام الناقم على أوضاع البلاد المتدهورة، في ظروف شديدة


الحساسية، بالغة التعقيد، حيث وقف قاسم بالضد من طموحات الشعب وحقوقه المشروعة الوطنية منها والقومية.ففي الوقت الذي كان فيه العرب
يتجهون الى الوحدة والاتحاد، في ظل المد القومي الجارف والمتأجج، ينحى الحكم القاسمي بالعراق الى قطرية مفرطة ومشبوهة لم يكن لها ما يبررها، بعد أن ألغى عضوية العراق في جامعة الدول العربية، وقطع علاقات العراق مع العديد من الأقطار العربية.عندها ثار الشعب وعبر عن فورته بالمظاهرات والاحتجاجات، فما كان من رجال البعث الأشاوس، وهم نبض الشعب، وعيونه التي ترقب الأمور، إلا أن ينتخوا لشعبهم وأمتهم العربية ، لينقذوا العراق من هذه الهوّة السحيقة التي تسبّب بها قاسم.

فكان فجر ثورة ١٤رمضان المباركة التي حملت شحنات من الغضب الشعبي، ترافقها زخات من المشاعر الملتهبة لأبناء الرافدين الغيارى الذين ثاروا واعتصموا واضربوا في السنين والأشهر والأيام التي سبقت ذلك اليوم.فكانت الصولة العزوم من قبل البعثيين من العسكريين تنفّذ الصفحة الأولى من الثورة، متمثلة بدك وزارة الدفاع، ومركز قيادة قاسم فيها، من قبل طائرات الميغ ١٧، والهوكر هنتر، وفي المقابل كانت قوة عسكرية من كتيبة الدبابات الرابعة تتجه للسيطرة على مرسلات البث المباشر في أبي غريب.

وقد جاء البيان الأول للثورة في صبيحة الثامن من شباط ليعبر عن كل ذلك وليؤكد أن الثورة هي انتفاضة شعبية ضد الفردية والفوضوية وهضم الحقوق التي عاشها الشعب، التي كادت أن تدفع بالعراق الى أتون حرب أهلية قد لا تُبقي ولا تذر، نتيجة التمييز العرقي والإثني والديني التي اتبعها نظام قاسم، حيث خاطب بيان الثورة الأول أبناء الشعب : ( انَّ هذه الانتفاضة التي قام بها الجيش والشعب من أجل مواصلة المسيرة الظافرة لثورة ١٤ تموز المجيدة .. ).



وكيما تعطي الثورة للشعب كل الاطمئنان بأنها ثورتهم وليست انقلاباً عسكرياً للاطاحة بحكم قاسم وحسب، فقد جاء في البيان أن العراق ستكون قيادته جماعية وليست فردية فجاء فيه : ( أن قيادة الثورة متمثلة بالمجلس الوطني لقيادة الثورة .. الذي بدوره يعمل على اقامة حكومة وطنية من المخلصين من أبناء الشعب، ومن المخلصين من أبناء هذا الوطن .. ) ليؤكد على التعددية، ومشاركة كل العراقيين من كل القوميات والأديان والمذاهب في قيادة البلاد، وجاء في الأسباب الموجبة للثورة في نص بيانها الأول : ( لقد تم بعون الله القضاء على حكم عدو الشعب عبد الكريم قاسم وزمرته المستهترة التي سخرت موارد البلاد لتطمين شهواتها وتأمين مصالحها، فصادرت الحريات، وداست الكرامات، وخانت الأمانة، واضطهدت المواطنين .. ).

ورداً على الفردية والاستبداد والفوضى القانونية والمخاطر التي كانت تهدد وحدة وسلامة اراضي البلاد والتي خيّم شبحها على العراق، فقد حدد البيان الأول لثورة رمضان المجيدة هدفين اساسيين من أهداف الثورة بقوله : ( أن هذه الانتفاضة لا بد لها من انجاز هدفين : الأول تحقيق وحدة الشعب الوطنية، والثاني تحقيق المشاركة الجماهيرية في توجيه الحكم وادارته، ولابد لانجاز هذين الهدفين الآنيين من اطلاق الحريات، وتعزيز مبدأ سيادة القانون .. ).

وبالاضافة الى أهداف الثورة في مجال مهماتها الوطنية، ورداً على عزلة العراق المُقحَمة و المُفتَعَلة عن أمته العربية، والتي لم تكن تخدم الاّ المد الشعوبي والكيان الصهيوني والاستعمار الغربي، ومساهمة من الثورة في اعادة نضال الأمة نحو تحقيق الوحدة العربية الى مساره الصحيح والطبيعي، فقد حدد بيان الثورة الأول المهمات القومية التي تقع على عاتق الثورة، حيث خاطب الشعب قائلاً : ( كما أن قيادة الثورة تعاهد الشعب على العمل نحو استكمال الوحدة العربية، وتحقيق وحدة الكفاح العربي ضد الاستعمار

والأوضاع الاستعمارية في الوطن العربي، والعمل على استرجاع فلسطين المحتلة .. ).


هذه اذن بعض أهداف الثورة ومنهجها الذي كانت تسعى الى تحقيقه في الداخل العراقي، وفي محيطها العربي والدولي، ومن خلال هذا البيان الصريح والوافي، يتبين لنا أن ما جرى في يوم ٨ شباط عام١٩٦٣م، هو بحق ثورة عارمة، وانتفاضة شعبية نفذها رجال المهمات الفذة، من البعثيين، سواء كانوا من القوات المسلحة أم من المدنيين، نزولاً عند طموحات الشعب وتطلعاته التاريخية للخلاص من حكومة الفساد والإنفراد والعزلة القاسمية وادائها المأزوم.

وهكذا انتصرت الثورة، وبانتصارها تحقق للشعب العراقي الخلاص من حكم قاسم وتياره الشعوبي، والعودة بالبلاد الى حضن الأمة ومحيطها العربي ليستكمل العراق مسيرته التي تليق به.






الاثنين ٦ رجــب ١٤٤٣ هـ   ۞۞۞  الموافق  ٠٧ / شبــاط / ٢٠٢٢ م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب مكتب الثقافة والاعلام القومي نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة