شبكة ذي قار
عـاجـل










من الصعب إعمام مفاهيم قد تكون ناجحة نسبيا في مجتمع ما على مجتمعات اخرى لها مفاهيمها وموروثها الثقافي والحضاري ، كما لها قيمها وتقاليدها، فضلا عن ( الشوط ) الزمني الذي قطعته على طريق ( النضج ) في موضوع ثقافة الحوار والتفاهم والتسامح والقدرة على ضبط النفس أثناء الأزمات والقبول بالآخر والتعايش السلمي بين مختلف الأطياف والانتماءات الدينية والعرقية.

منطلقات الفكر الامريكي الذي يعلن الفكرة الساذجة والخبيثة في هذا المدخل هي ( إن المجتمعات الديمقراطية لا تتجه نحو استخدام العنف ، أما المجتمعات غير الديمقراطية فهي تتجه الى العنف .. ومن اجل محاربة العنف ومنع وقوعه، يتوجب نشر الديمقراطية في الشعوب ).هذه الافكار خبيثة وتسلك التجريبية ولا تضع حلولا أو تأخذ بنظرية الاحتمالات نتيجة بروز عوامل التصادم في مجتمعات مقموعة اصلاً ولا تعرف الحرية أو مسلوبة القرار ومحرومة من أدنى متطلبات الحياة واكثر من نصف مجتمعاتها تعبث فيها الأمية ومعدلات ارقامها السكانية العالية تحت خط الفقر .. فكيف تفهم هذه الشعوب الديمقراطية الامريكية؟ وكيف تتفهم اوضاع الأخذ بخط النهوض العام وهي تفكر في حريتها وعيشها واحترام كرامتها وحقها في البقاء؟

ثم ، ان الكثير من المجتمعات التي تصنف بأنها من العالم الثالث وما قبله وحتى العالم الرابع الذي تجاوز مرحلة التعاطي المحدود للمواد الأولية ويمتلك قدرات محدودة في مجال التصنيع الأولي والتعامل التقني، فهما عالمان تتفاوت في مجتمعاتهما عوامل النضج كما تتفاوت مستويات التطور والتقدم المادي، فيما تظل رواسب البداوة وارتباطات العشيرة والقبيلة وشعور الارتباط بهما اكثر تأثيراً من حاضنة الدولة وهويتها الوطنية .. فكيف والحالة هذه تركيب الديمقراطية الأمريكية التي لها بيئتها الخاصة ونضج مجتمعها وتاريخ هذا النضج على مجتمعات تعيش بيئات مختلفة وعادات وتقاليد وموروث تقافات تختلف في النظرة الى معايير التعامل مع المرأة مثلاً والقوانين الوضعية والسماوية واحكام الواقع المعاش؟

الأفكار الامريكية الساذجة والخبيثة .. تجارب من واقع معاش :

قبل الحديث عن التجارب التي خاضتها السياسة الأمريكية التي وضعت خططها الاستراتيجية في مدياتها المختلفة، ينبغي التذكير بأن أمريكا دولة إمبريالية، أي تجاوزت مرحلة الأستعمار ، فهي تسعى من اجل الهيمنة والتسلط، ليس بالجيوش والاحتلالات كما كان ذلك جارياً في العقود السابقة، وإنما عن طريق التأثيرات السياسية والمالية والتقنية العسكرية والألكترونية ( السبرانية ) :

أولاً - فقد دخلت امريكا الصومال الفقير المعدم وتركته بركة من الدماء وما يزال يعيش حالة التناحر والإقتتال الداخلي .. فهل نفعت الديمقراطية الامريكية في تغيير مفاهيم القبائل والعقائد والمفاهيم التي يؤمن فيها المجتمع الصومالي؟

ثانياً - ودخلت امريكا محتلة افغانستان وحاولت طيلة عشرون عاما وهي تراوغ في مناخ كاذب ان تحول المجتمع الافغاني القبلي الذي يعشق الامارة والقبيلة والأمير الى مجتمع ديمقراطي وعلى الطريقة الامريكية .. وكان الفشل فاضحا وذريعا في مسألة ( دمقرطة ) البلاد والعباد في افغانستان.

ثالثاً - ودخلت امريكا غازية العراق، وجلبت معها كل اراذل اعداء العراق من قتلة ولصوص وساقطي الاخلاق والممتهنين للدعارة والبغاء العلني والجواسيس والسماسرة ودفعت لهم رواتب وسهلت لهم سبل العيش الحرام ، واعلنت انها تريد ان يكون المجتمع العراقي ديمقراطياً وعلى طريقتها، فقسمت هياكل التمثيل السياسي الى حصص في مقاعد البرلمان الطائفي والعرقي، وحصص في الحقائب الوزارية ، وحصص مفتوحة للإستحواذ على ثروات الدولة دون قيد او شرط سوى الامتناع عن فتح اي ملف للفساد والامتناع عن تنفيذ اي مشروع اقتصادي او زراعي او صناعي او تعليمي او صحي او إسكاني او اجتماعي او بيئي او عسكري نظامي يبنى في خدمة القوات المسلحة النظامية، وكلها خط احمر ، لا احد يستطيع ان يعرقل منهج التخريب والتدمير او يعترض عليه او يحتج ، ومصيره الخطف او القتل او الاعتقال .. فالديمقراطية الشعبية في ظل الحكم الوطني التي عمت انحاء العراق وفي مقدمتها تكريس الحكم الذاتي للكرد في شمال العراق، الذي يعد قمة الديمقراطية العملية، وقبلها تأميم ثروات العراق وعودتها الى الشعب العراقي، هو الفعل الذي جسد القرار الديمقراطي في عودة الحقوق المغتصبة من قبل الشركات الاحتكارية الى الشعب العراقي، الذي بادر في البناء الاقتصادي والزراعي والصناعي والتعليمي والبنية التحتية بكل روافدها العملية .. الامر الذي ارعب تطبيق الديمقراطية الشعبية في العراق قوى الظلام التي تحارب النور بكل الوسائل الممكنة والمتاحة .. فتدفقت خطط اضعاف العراق ومحاصرته والإجهاز على نظامه الوطني بالتعاون مع اكثر نظم العالم حقداً على العراق والعراقيين وعلى العرب والمسلمين وهو النظام الفارسي في طهران .. بعدها غادرت امريكا العراق عسكريا في نهاية عام ٢٠١١ نتيجة للمقاومة الوطنية الباسلة ، وتركته دولة فاشلة يحكمها لصوص وعصابات تدير اعمالهم غرفة مشتركة ( امريكية - بريطانية - ايرانية ).

رابعاً - الصراعات الاستعراضية السياسية والعسكرية المضحكة التي جاءت بعد الانتخابات المهزلة، هي صراعات يحكمها مبدأ ( توزيع ) الادوار بين الفرقاء المعنيون بالعملية السياسية الفاشلة والمأزومة ، فهي صراعات تخادمية تتصاعد وتحتدم لسبب واحد هو ( تقسيم حصص الثروات والمناصب من خلال توزيع الكراسي والحقائب ) .. فهي صراعات ليست لها علاقة بشعب العراق ولا بالوطن ولا بمستقبله.والارقام الانتخابية البائسة لا تعني شيئا، بل الذي له معنى هو التحالفات التي تصنع الارقام والكتل .. وهذا هو النمط المتفق عليه في غرفة العمليات ( الامريكية البريطانية الايرانية ) المشتركة ، وتحت خيمة بائسة ومتهتكه اسمها الأشراف الدولي والامم المتحدة.

خامساً - الشعوب وقواها الوطنية هي ادرى بحاجاتها المادية والاعتبارية وبما يفيدها وينفعها وليس لأمريكا ولا لبريطانيا ولا لإيران الحق في فرض معاييرها وأنماط هياكلها النظمية على تلك الشعوب، وكل الدعوات والفلسفات الديمقراطية والمذهبية وغيرها من الافكار الغريبة والمريبة لا تخدم تلك المجتمعات بل تستهدف تفكيكها وتدمير ثقافاتها وأنماط علاقاتها الاجتماعية والأسرية ومنظومة قيمها التي توارثتها عبر السنين .. فمنظومة القيم هي ذاتها يتعذر تغييرها بإعتبارها معايير استقامة المجتمعات واستقرارها وتطورها ، كالنزاهة والكفاءة والصدق والوطنية وغيرها، فكيف للديمقراطية الامريكية ان تفسح مجالا للصوص والفاسدين بسرقة ثروات الشعب العراقي؟ وتصمت الديمقراطية الامريكية على المجازر التي ترتكبها عصابات الاحزاب السياسية الحاكمة في العراقي، وهي تحتضنهم وتدفع رواتب مليشياتهم وتغدق عليهم الرعاية السياسية والمالية، فيما تغص سجون العملية السياسية بالابرياء والنازحين من مدنهم وقراهم بالملايين تحت الخيام .. أي ديمقراطية تتحدث عنها امريكا ووكلاؤها الفرس في العراق.؟

إن منهج الديقراطية في سياسة امريكا الخارجية، هو منهج يجمع بين الخبث والغباء .. والخبث هو السائد بحكم استمرار فرض الديمقراطية على الشعوب، وفرضيتها لا تتطابق اساساً مع حقائق الواقع الموضوعي للمجتمعات ، والتجارب سالفة الذكر خير دليل على خبث السياسة الخارجية الامريكية ومنطلقاتها الفكرية .. وعلى الرغم من تدهور الاوضاع الاجتماعية والاقتصادية والصحية والتعليمية وانهيار البنية التحتية، فأن الادارات الامريكية ما تزال تصر على نهج ( الديمقراطية ) الذي يدفع بالبلاد والعباد الى الهاوية .. بفعل ديمقراطيتها ونهج وكيلها الفارسي الذي يدفع العراق الى التفسخ بعد استنزاف ثرواته النفطية والغازية والمعدنية والمائية وتحويله الى تابع .. فهل يستمر الوضع على هذا المنوال ؟ الجواب، كلا ، لأن الشعب العراقي لا يسكت على ضيم ولا يسكت وكرامته منتهكه وعِرضه منتهك وثرواته منتهكه وسيادة بلاده منتهكة .. إنها معادلة سيحسمها الشعب العراقي ، وله في تاريخه العريق ما ينير له الطريق وليس ذلك ببعيد أبدا.





الاربعاء ٢١ ربيع الاول ١٤٤٣ هـ   ۞۞۞  الموافق  ٢٧ / تشرين الاول / ٢٠٢١ م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب د. أبا الحكم نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة