شبكة ذي قار
عـاجـل










النصر الذي حققته الانتفاضة الفلسطينية الثالثة في شهر أيار ٢٠٢١ على العقيدة والممارسات الصهيونية في فلسطين المحتلة هو إنتصار للانسانية على البربرية والعنصرية والرأسمالية المتوحشة والنفاق الدولي.

ان ذلك يشكل فرصة لدعوة المثقفين العرب أن لا يغرقوا في التحليلات العاطفية، وأن يتعمقوا في الأبعاد الفكرية والحضارية لهذا الانتصار وكيفية البناء عليه، وان يحذروا من محاولات خلق ردة تسلبنا هذا الانتصار، مستذكرين أننا أمة لها دور محوري في صنع الحضارة الانسانية سواء فيما تقدمه من انجازات وقت قوتها وإزدهارها أو ما تقدمه من دروس الصمود ضد العدوان وقت أزماتها وضعفها.وقبل أن اعرض رؤيتي للمطلوب منا في الفترة القادمة، أرجو ان أمهّد لذلك بعرض أهم مخرجات ما تحقق في الانتفاضة الثالثة :

أولا : ان الأمم العظيمة لا تيأس حتى وإن بلغ الظلم ضدها مداه، وصمودها هو الذي يخلق الانتصار طال الزمان أم قصر.والأمة العربية جُبلت على الحرية والكرامة وقد أعزها الله بالاسلام، ولذا لم تيأس عندما واجهت الصهيونية العالمية والغرب بآلته العسكرية المدمرة التي أرادت أن تفرض عليها بالقوة كياناً عنصرياً في فلسطين، وحاربت الأمة من أول مراحل تأسيس هذا الكيان إلى يومنا هذا، ولم تستسلم رغم الهزائم العسكرية التي تلقتها جيوشها في معارك كانت موازنة القوة فيها تميل بشدة لصالح عدوها.

ثانيا : ان الصهيونية العالمية أنشأت في فلسطين نواة لدولة يهودية تريدها ان تمتد من الفرات الى النيل، وزودها الغرب بالسلاح والمال والمرتزقة لقتل وتهجير العرب، واليوم وبعد اكثر من سبعين سنة نرى فشل المشروع ديموغرافياً، إذ يبلغ تعداد الفلسطينيين في فلسطين التاريخية ( ٦.٥ ) مليون نسمة ، وهو نفس عدد اليهود فيها، وسيصبح الفلسطينيون اغلبية في اقل من خمس سنين، يضاف اليهم أكثر من خمسة ملايين فلسطيني في الشتات يطالبون بحق العودة يسندهم في ذلك القانون الدولي وقرارات الأمم المتحدة.

لقد تبدد الحلم الصهيوني بتشبث شعبنا العربي في فلسطين بارضه وبأرحام الفلسطينيات المجاهدات، وها هو بقية الحلم الصهيوني العنصري يتبدد اليوم بصمود الفلسطينيين ودعم العرب والعالم لهم.إن حتمية انتصارنا في الصراع مؤكدة وهي وعد الهي، ولذا علينا إدارة الصراع بحكمة وبطول نفس المؤمن بالانتصار وبما يضمن تصاعد الدعم الدولي لقضيتنا.

ثالثا : ان ردود أفعال شعوب العالم، ومنها شعوب الغرب، الرافضة للعدوان الاسرائيلي على الشعب الفلسطيني تعكس حالة من الصحوة وعودة الوعي وكشف الكذب والتضليل الذي مارسته النخب الاستعمارية الغربية منذ اكثر من سبعين عاما بشأن ( مظلومية ) الشعب اليهودي و ( نقاء ) الصهيونية كحركة سياسية وأصالة النموذج الديمقراطي "الاسرائيلي" والترويج له على انه ( واحة الديمقراطية في صحراء الاستبداد العربية ).إن الصحوة العالمية وعودة الوعي إزاء حقيقة الكيان الصهيوني والصهيونية العالمية ما كانت تتحقق لولا صمود شعب فلسطين والأمة العربية.كما يشهد العالم اليوم أكبر مراجعة نقدية للمسلمات الغربية الكاذبة وادعاءات نهاية التاريخ بانتصار الرأسمالية والحضارة الغربية.وها هي شعوب الغرب تراجع ثقافة نخبها المنافقة وبُعدها عن المباديء والقيم الانسانية السامية وبدأت تتمرد عليىها، ورأينا أحد مظاهر هذا التمرد في الفترة الاخيرة، عندما أعادت الجماهير في الغرب النظر في تاريخ وممارسات الفترة الاستعمارية وتجارة العبيد والعنصرية المغلفة بشعارات الحرية، وتحركت لتصحيح التاريخ وإسقاط رموز فترة الاستعمار وتجارة العبيد، بضمن ذلك تماثيل شخصيات مثل جنرالات جيش الجنوب الامريكي خلال الحرب الاهلية، والملك البلجيكي ليوبولد الثاني.

ويأتي دعم شعوب الغرب للإنتفاضة الفلسطينية الثالثة شاهداً آخر على صحوتها من غفلتها، وهذه الصحوة والتظاهرات والمناظرات والضغط على الحكومات لعبت دوراً مهماً في اجبار دولة الكيان الصهيوني على وقف عدوانها على شعب فلسطين بلا قيد او شرط.

رابعا : لعبت الثورة الرقمية دوراً كبيراً في تسريع الصحوة وعودة الوعي لدى شعوب الغرب، فوسائل الاتصال الرقمية الحديثة كشفت النفاق الغربي والصهيوني.فساسة الغرب يتحدثون عن الديمقراطية والحرية والمساواة والإخاء وحقوق الانسان بينما يرى الناس بالبث المباشر ماذا يحدث لسكان حي الشيخ جراح في القدس ، ويرون بربرية جنود الاحتلال تجاه الاطفال المتظاهرين في الضفة الغربية ، واستخراج جثث الاطفال من تحت أنقاض المباني في غزة ، وهذا ساهم في إدراك شعوب الغرب بفطرتها أن تلك القيم والخطب الرنانة ليست سوى غطاء كاذب تختفي خلفه نزعات عدوانية وتعطش للدماء.وبدأ المثقفون المتنورون من الغرب يفضحون حقيقة الحضارة الغربية و ( الغرب التنويري ) ، بدءاً من حقيقة الرئيس الأمريكي توماس جيفرسون الذي كتب إعلان الاستقلال الأمريكي وأعلن رسمياً رفضه لاستعباد البشر، لكنه كان يمتلك في حياته الخاصة حتى وفاته مئات العبيد، الى بوش الإبن الذي قال لجنوده في الأول من مايس ٢٠٠٣ بمناسبة احتلاله العراق ( أينما ذهبتم تحملون معكم رسالة مليئة بالأمل.إنها رسالة متجددة دائماً، كما نادى بها النبي أشعيا : قولوا للسجناء أن يخرجوا،

ولأولئك القابعين في الظلام : تعالوا إلى الحرية!).

ثم رأت شعوب الغرب تصرف قواتها في العراق الذي وصفه أحد الضباط الأمريكان بالقول ( كان فتكنا بالعراقيين شاملاً لايعرف صغيراً ولا كبيراً، لقد كان مثل قتل كلاب البحر من أجل فرائها ).

خامسا : الصحوة وعودة الوعي لدى شعوب الغرب والرأي العام العالمي هي عملية متصاعدة علينا تعزيزها وتسريعها بتفاعلنا مع شعوب العالم ومنظماتها.كان رد فعل الرأي العام الدولي على عدوان دولة الكيان الصهيوني عام ٢٠١٤ على غزة أقرب منه للمتفرج غير المعني بما يجري مع ان الصهاينة قتلوا في ذلك العدوان ( ٢٣٢٢ ) فلسطينياً أغلبهم من النساء والأطفال ، ودمروا ألاف المساكن و ( ٦٢ ) مسجدا.أما في عدوان ٢٠٢١ فقد رأينا رد فعل فيه بعض المسؤولية وأقرب الى النضج.

سادسا : عندما جاء الرئيس ترامب الى السلطة خشي بعض العرب من بطشه فسايروه وسكتوا على دعمه لخطط تهويد كل فلسطين والاستيلاء على القدس الشريف وخنق غزة.واستغل نتنياهو دعم ترامب وبالغ في انتهاك القانون الدولي والقانون الدولي الإنساني وحقوق الفلسطينيين، وبقي شعب فلسطين والشعب العربي صامداً موحّد الارادة، وما هي الا سنين أربع، ليسقط ترامب وانتصرت ارادة المرابطين الفلسطينيين، وكان ذلك درساً بليغاً لهؤلاء العرب أن يعودوا الى رشدهم وأن يراهنوا على الأمة لا على سواها.

على ضوء هذه المعطيات يطرح السؤال : كيف نستفيد من هذه الصحوة القومية والعالمية ونبني عليها لإنهاء الاستعمار الاستيطاني الصهيوني لفلسطين، ولدعم بقية قضايانا العادلة ومنها الاحواز المحتل، والمساهمة مع بقية شعوب العالم في بناء عالم يسودة العدل والسلام والتنمية؟

ان العدو الصهيوني لم يلق سلاحه، وفي جعبته من السلاح والمال والاعلام والخبث والدهاء ما لا يجب التقليل من قدرته.ومن أهم الاسلحة التي سيلجأ اليها العدو هي إثارة الصراعات والفتن السياسية والطائفية والمناطقية وما يسميه ( الفوضى الخلاقة ) داخل مجتمعاتنا وبين دولنا.وقد بدت بوادر هذا المخطط في كلام منتقدي نتنياهو من الصهاينة فقد قالوا له لقد اخطأت في منع سكان القدس من المشاركة في الانتخابات وأججت غضبهم علينا، ولو كنت قد سمحت بإجراء الانتخابات لتفجرت صراعات كامنة كثيرة بين الكتل الفلسطينية، ولكان صراع الفلسطينيين الداخلي قد استنفذ قواهم وشوّه صورتهم أمام العالم وأعطانا مزيداً من الوقت لتثبيت اركان الدولة اليهودية على كامل أرض يهودا والسامرة.

لذا أرى ان على المثقفين العرب أن يدعموا حل الخلافات السياسية الداخلية بالحوار وبالرجوع الى الشعب وتغليب تناقضنا الرئيسي ضد الاحتلال على تناقضاتنا الداخلية.إن ما نراه اليوم من سعي البعض للنفخ في قربة الفتنة واستخدام عبارات التخوين والتكفير ضد بعضنا البعض يجب أن يتوقف.كما يجب لجم نشوة الانتصار المبالغ فيها التي تدفع البعض الى التطرف، فالتطرف من أمضى أسلحة الغرب ضدنا، فإن لم يجدوه فينا خلقوه، ورأينا ذلك في القاعدة وداعش والمليشيات الطائفية وفي احداث الحادي عشر من سبتمبر وتبعاتها.

وعلينا أن نحذر من محاولات نظام ولاية الفقيه في ايران سرقة النصر بادعاء انه هو من زود المقاومة الفلسطينية بالصواريخ، ورأينا كيف أن نتنياهو كان يبحث عن أي دليل على مشاركة إيران ، ولو كانت طائرة مُسيّرة صغيرة، لإنه يعلم انه سيستعيد بذلك بعض تعاطف شعوب الغرب.وعلى اخوتنا في الفصائل الفلسطينية أن ينتبهوا الى هذه الحقيقة خاصة وأن بعض من قادتهم أكّدوا ان سلاحهم وطني مصنوع بايدي فلسطينية وخبرات عربية.

أما على مستوى العلاقة بين دولنا العربية، فمن المناسب أن نمد يدنا لمن تردد أو من كان موقفه سلبياً من الانتفاضة الثالثة ونعطيه الفرصة أن يراجع نفسه ويتراجع عن خطأه، لأن مناصبته العداء فيها إستنفاذ لجهودنا ومواردنا في غير محلها، وقد تخلق البغضاء بين ابناء الامة وتقود بعض قليلي الوعي الى منطق ( العزة بالإثم ) ، ولنا في رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلَّم أسوة حسنة عندما آذاه أهل الطائف.

علينا أن نعزز حضورنا في المحافل الدولية والاقليمية ، فالوقت مناسب الآن لنمارس المزيد من الضغوط على الكيان الصهيوني لتطبيق قرارات الأمم المتحدة واحترام القانون الدولي.علماً بان ذلك لا ينتقص من هدف زوال دولة الكيان الصهيوني، وهي زائلة في كل الأحوال.فلو طبقت قرارات الأمم المتحدة بدءاً بقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم ( ١٨١ ) في ٢٩ كانون الاول ١٩٤٧، المسمى قرار التقسيم وإنتهاء بقرارات منع الابادة الجماعية وجرائم الحرب وقرارات حقوق الإنسان فإن الكيان الصهيوني بمواصفات الدولة اليهودية العنصرية ينتهي وإلى الأبد.

لقد لعبت الجاليات العربية في دول المهجر، دوراً مشرفاً، وكانت خير عون لقضايا الأمة وفي مقدمتها القضية الفلسطينية، و على المثقفين العرب ان يديموا الصلة بها من اجل تصعيد نضالها لخدمة قضايا الامة العربية.

وفي الختام أقول : إحذروا الفتنة يا عرب، وحدوا صفوفكم وواصلوا البناء على ما انجزتموه وأديموا العلاقة مع أحرار العالم ، والنصر الناجز آت بإذن الله.







الاربعاء ١٤ شــوال ١٤٤٢ هـ   ۞۞۞  الموافق  ٢٦ / أيــار / ٢٠٢١ م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب مكتب الثقافة والاعلام القومي نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة