شبكة ذي قار
عـاجـل










بسم الله الرحمن الرحيم

برنامج

كتاب الشهر

للكتاب والقراءة أهمية عظمى في حياة الأمم والشعوب، وفي عالمنا المعاصر حيث تحتدم التحديات والمتغيرات في مختلف الاصعدة والمجالات ، اصبحت المعرفة احد اهم الاسلحة التي تتسلح بها الشعوب في كفاحها حتى اضحت حاجة جوهرية لا غنى عنها من اجل البقاء وتحقيق التطور والازدهار. وفي ظل عمليات التجهيل المنَظَم والمتَعَمَّد للاجيال الصاعدة من الشباب في وطننا العربي يحتل هذا الامر اهمية استثنائية. وتساهم العديد من الاصدارات العربية الحديثة في القاء الضوء على القضايا الملحة في وطننا العربي، وتنوير الرأي العام ونخبه الفكرية والثقافية، وتعميق الوعي لديها ، فتشكل منارات هادية تضئ الطريق امام ابناء الامة ولا سيما اجيالها الصاعدة ، لتتزود منها بالمعرفة اللازمة لمواصلة الطريق في دفاعها عن خيارات الامة وحقها في الحياة ومواصلة رسالتها الخالدة بين الامم.

يسلط برنامج " كتاب الشهر " الضوء على هذه الكتب ويتناول بعدها القومي وتأثيراتها ودورها في تعميق الوعي فيقدم خلاصات للنصوص الجديدة في مجالات الثقافة القومية والفكر العربي المعاصر والتحديات الراهنة في مختلف المجالات ، تشترط الرصانة الموضوعية ،وتضمن الفائدة العامة لجميع القراء والمتصفحين.ولإثراء النص وتعميق مضامينه ، يشرع كتاب الشهر نوافذ للحوار العلمي ، وتبادل وجهات النظر .

كتاب هذا الشهر يحمل عنوان : نظام التفاهة للاستاذ ألان دونو،أستاذ الفلسفة والعلوم السياسية بجامعة كيبيك الكندية.وهو النص العالمي الذي حقق شهرة عالية للعام ٢٠٢٠، حيث صنف الكتاب الأول من حيث عدد القراء في عموم العالم. ونعرض فيما يلي قراءة أولية له من اعداد د.عبدالستار الراوي.

نظام التفاهة

قراءة أولية : د.عبد الستار الراوي

المؤلف : ألان دونو Alain Deneault أستاذ الفلسفة والعلوم السياسية بجامعة كيبيك الكندية وهو أكاديمي ناشط، معروف بالتصدي للرأسمالية المتوحشة ومحاربتها على جهات عدة، لاسيما فيما يتعلق بصناعات التعدين وبجنون الضرائب، وقد كانت مساعيه هذه موجعة للأطراف التي حاربها، حتى لاحقه أقطاب صناعة التعدين، قضائياً في العام ٢٠٠٨، وذلك بعد أن أصدر كتاباً في العام نفسه، بعنوان مثير هو : ( كندا السوداء ) : النهب والإفساد والإجرام في افريقيا!

الكتاب : يدور موضوع كتاب نظام التفاهة حول فكرة محورية هي أننا نعيش مرحلة تاريخية غير مسبوقة، تتعلق بسيادة نظام، أدى تدريجياً إلى سيطرة التافهين على جميع مفاصل نموذج الدولة الحديثة عبر العالم .. يلحظ المرء صعوداً غريباً لقواعد تتسم بالرداءة والانحطاط، فتدهورت متطلبات الجودة العالية، وغيب الأداء الرفيع، وهمشت منظومات القيم، وبرزت الأذواق المنحطة، وأبعد الأكفاء، وخلت الساحة من التحديات، فتسيدت، إثر ذلك، شريحة كاملة من التافهين والجاهلين والبلداء وذوي الخواء الفكري، وذلك كله لخدمة السوق بالنهاية، تحت شعارات الديمقراطية والشعبوية والحرية الفردية والخيار الشخصي.

حين تصبح الدولة مجرد شركة خاصة، وتستحيل المصلحة العامة إلى محض مغالطة زائفة لمجموع المصالح الخاصة للأفراد، ويصير السياسي تلك الصورة السخيفة لمجرد الناشط اللوبي لمصلحة «زمرته».من هذين المنطلقين، تنميط العمل وتسليعه وتشييئه، وتفريغ السياسة والشأن العام، صارت التفاهة نظاماً كاملاً على مستوى العالم، وصارت قاعدة النجاح فيها أن «تلعب اللعبة».حتى المفردة معبرة جداً وذات دلالة.لم يعد الأمر شأناً إنسانياً ولا مسألة بشرية.هي مجرد «لعبة».حتى أن العبارة نفسها راجت في لغات عالم التفاهة كلها : «أن تلعب اللعبة»، وهي قاعدة غير مكتوبة ولا نص لها.لكن يعرفها الجميع : انتماء أعمى إلى جسم ما، يقوم على شكليات السهرات والعداءات والانتقامات. بعدها يصير الجسم فاسداً بنحو بنيوي قاطع، حتى أنه ينسى علة وجوده ومبادئ تأسيسه ولماذا كان أصلاً ولأية أهداف ..

أفضل تجسيد لنظام التفاهة، يقول دونو، صورة «الخبير»، فهو ممثل «السلطة»، المستعد لبيع عقله لها، في مقابل «المثقف» الذي يحمل الالتزام تجاه قيم ومثل، جامعات اليوم، التي تموّلها الشركات، صارت مصنعاً للخبراء، لا للمثقفين! حتى أن رئيس جامعة كبرى قال مرة إن «على العقول أن تتناسب مع حاجات الشركات» ..

كتاب «نظام التفاهة» الصادر العام ٢٠٢٠ حظي بإقبال غير مسبوق حول العالم، وأصبح النص حال صدوره محمولاً بأقلام الغرب والشرق ودار حول مضامينه عديد لا حصر له من الكتابات النقدية.

المترجمة : الأكاديمية مشاعل عبدالعزيز الهاجري وقد قدّمت مترجمة الكتاب معلومات مفيدة، قبل عرض فصوله، حيث تحدثت عن الكاتب وكتابه، ثم ذكرت لنا السبب الذي دفعها إلى ترجمة الكتاب ومنظورها العام إلى الترجمة، مع تقديم بعض الملاحظات المهمة حول النسخة الإنجليزية للكتاب، ثم انتقلت بعدها إلى عرض الأطروحات الكبرى للكتاب، وقد استغرق ذلك كله قرابة ٦٠ صفحة.

في عرض الأفكار الأساسية للكتاب، خصصت الهاجري فقرة حول «الشبكات الاجتماعية» و«نظام التفاهة» ذكرت فيها أن «الشبكات الاجتماعية ومواقع التواصل ( مثل تويتر وفيسبوك وإنستغرام ) هي مجرد مواقع للقاء افتراضي وتبادل الآراء لا أكثر، فيها يتكون عقل جمعي من خلال المنشورات المتتابعة .. هذا الفكر التراكمي السريع الذي يبلور وبسرعة وبدقة موضوعاً محدداً نجح في اختصار مسيرة طويلة كان تبادل الفكر فيها يتطلب أجيالاً من التفاعل ( المناظرات والخطابات والمراسلات والكتب والنشر والتوزيع والقراءة والنقد ونقد النقد ). وبرغم هذه الفرص كلها، فقد نجحت هذه المواقع في ترميز التافهين، كما يُقال، أي تحويلهم إلى رموز، ما يجعل من كثير من تافهي مشاهير التواصل الاجتماعي "السوشيال ميديا" ونجماتها "الفاشينيستات" يظهرون لنا بمظهر النجاح، حتى اختزلها في المال فقط، فلم يبق إلا عليه وحده معياراً.

أولاً : المفاهيم والمصطلحات

للإلمام بالنص يتعين علينا الوقوف على بعض المفاهيم والمصطلحات والمدركات التي تعدّ مفاتيح أولية مقاربة ضرورية لفهم نظام التفاهة الذي يسود العالم والذي انصرف من الاقطاعية الرأسمالية إلى غالبية أقطار الأرض.

١ ــ نظام التفاهة :

يفيد المصطلح "المرحلة المتوسطة خلال فعل ينطوي على ما هو أكثر من المتوسط، إنه يعني هذه الدرجة الوُسطى بعد رفعها إلى مصافّ السلطة"، وفي نظام التفاهة لا مكان للعقل النقدي ولا للمدركات الحسية، أو كما قال رئيس إحدى الشبكات الإعلامية الغربية الضخمة، إن وظيفته هي أن يبيع للمعلن، الجزء المتوفر من عقول مشاهديه المستهلكين .. صار كل شيء، والأهم ، أن الإنسان صار لاكتفاء، أو حتى لإرضاء حاجات «السوق».

هكذا يرى دونو أنه تم خلق نظام حكم التافهين .. نظام يضع ثمانين في المئة من أنظمة الأرض البيئية عرضة لأخطار نظام استهلاكهم، ويسمح لخمسين في المئة من خيرات كوكبنا أن تكون حكراً على واحد في المئة من أثريائه.كل ذلك على وفق نهج نزع السياسة عن الشأن العام وعن التزام الإنسان.

٢ ـــ خطاب التفاهة :

ومن اللغة الخشبية يتبدى خطاب التفاهة، المولع بالتفاصيل العائمة، وموجات التسطيح، وتشابه الشخصيات، وغياب العقل النقدي، والرأسمالية المتوحشة، ووهم الكارزما، وتنميط العمل، واضمحلال الحرفة، وقولبة وسائط التواصل الاجتماعي ونمذجتها .. أن تتحوَّل الكثير من الجامعات الأوروبية والأمريكية إلى تسليع المعرفة الأكاديمية وبيعها إلى الجهات المموَّلة من المصانع والشركات العالمية الكبرى، هذا يعني أنَّ هذه الجامعات قد غادرت موقعها التأسيسيّ في كونها منتجاً للمعرفة إلى كونها "تابعاً" في "التسطيح" الذي هو أحد المفاصل الكبرى لنظام التفاهة.

٣ ـــ وظيفة التفاهة :

هذه الوظيفة «تشجعنا بكل طريقة ممكنة على ( الإغفاء ) بدلاً من ( التفكير ) .. النظر إلى ما هو غير مقبولٍ وكأنه حتمي، وإلى ما هو مقيت وكأنه ضروري ..

إنها تحيلنا إلى أغبياء.فحقيقة أننا نفكر في هذا العالم بوصفه مجموعة من المتغيرات المتوسطة هو أمر مفهوم، وأن بعض الناس يشابهون هذه المتوسطات إلى درجة كبيرة هو أمر طبيعي، ومع ذلك، فإن بعضنا لن يقبل أبداً بالأمر الصامت الذي يطلب من الجميع أن يصبحوا مماثلين لهذه الشخصية المتوسطة» .. ما هو أخطر من التفاهة ألا يشعر بعض التافهين بخطر انتشار التفاهة، هنا يستباح مجال التفكير العلمي المبني على نظرياتٍ وأدوات وخبرات وتجارب.

٤ ـــ الميديوكراسي :

إننا نعيش مرحلة تاريخيّة غير مسبوقة تتعلق بسيادة نظام أدّى تدريجيًا إلى سيطرة التافهين، من خلال غياب الكفاءة، والذوق الرفيع، والثقافة والجمال، وبروز الرداءة، والأذواق المنحطة. ويشهد انقلاباً في القيم الإنسانية من الديمقراطية إلى نقيضها، ازاء التحول الكارثي يستحدث الفيلسوف الكندي مصطلحًا جديدًا نسبيًا هو Mediocracy ، ورغم ان معنى هذا المصطلح الذي ظهر، لأول مرة، العام ١٨٢٥هو القدرات المتواضعة او المتوسطة، الا ان استخدامه هنا يعني "النظام الاجتماعي الذي تكون الطبقة المسيطرة فيه هي طبقة الأشخاص التافهين".

٥ ــــ اللغة الخشبية :

أي النطق بتحصيل الحاصل الذي يقوم على الحشو أو مجرد التكرار بألفاظ مختلفة، وكأن في الأمر قضية جديدة تدفع بمعرفتنا إلى أمام، والمقصود منها كسب الرهان بإيقاظ اهتمام الرأي العام، وتحول الاهتمام بالصالح العام من شأن سياسي قيمي إلى مجرد إدارة عملية، فخلال العمل العام تم الانتقال من منظومات الأخلاق والمفاهيم والمثل العليا والمواطنة والالتزام، فصار الهم العام هو الخصخصة وتحويل المشروعات العامة إلى القطاع العام، بهاجس تحقيق الربح فقط، وكأن الدولة محض شركة تجارية.ويؤكد الكاتب، في السياق نفسه، أنه “حول العالم ما ازداد استخدام كلمات مثل الحوكمة والشفافية والمساءلة مثلما

انتشرت الآن، ومع ذلك، لم يسبق لظاهرة الفساد أن ازداد حجمها مثلما ازداد الآن، ولا أن بلغت هذه الأبعاد المخيفة، ويبدو لي أن محاولات العالم للالتفاف على القيمة، والاستعاضة عنها بـ”الحوكمة” ليست مجدية، ولكن البشرية لا تتعلم إلا بالطرق الصعبة”.

٦ - اللعبة :

يشمل الإطار العام للعبة؛ كلّ نشاط في الفضاء العام ( إعلامياً أو أكاديمياً أو تجارياً أو عملاً نقابيأ وغيره ) قد صار "لعبة" تلعبها الأطراف جميعها برغم أنَّ أحداً لا يتحدث عنها، وهذا ما يؤدي بدوره إلى ترسيخ "نظام التفاهة".

فاللعبة هنا كناية عن نظام سياسي آخر، نظام ذو بنية قائمة بنحو سيء لا يمكن الحديث عنه حتى من يقومون على حفظه سنة بعد أخرى، اعتباطي غير قابل للتوقع، وطبعا غير ديمقراطي، إلى حد كبير.

يريد دونو أن يشير إلى الفرق بين الماضي حيث كان الإنسان يستطيع إدراك الفعل المُعتاد كي يعرف مجريات الأمور وأسبابها وما يترتب عليها، ويختار إما التضحية أو التغيير أو طرح بديل أو الحفاظ على القائم، سواء تعلّق الأمر بالسلطة السياسية أم الاجتماعية أم الاقتصادية.أما الآن، فإنّ «نظام التفاهة» يؤسّس لواقع جديد يظنّ الإنسان فيه أنه حرّ تماماً من أيّ قيد، لكن هذا لا يعني سوى أننا نخضع لمعيار وحيد لا يمكننا اختيار سواه ، أي أنّه فُرض علينا، ما يدلّ على فعالية، مُنقطعة النظير، لنظام التفاهة في السيطرة والحكم.

٧ ـــ الوسط المتطرف :

إن الوقوف في الوسط بين اليمين المحافظ واليسار الاحتجاجي وممارسة الاعتدال لا يعد موقفاً سليماً وإنما هو، في حد ذاته، قبول بالسائد المبتذل واستسلام لنظام التفاهة، وتالياً مسايرة التطرف الناعم منه والانخراط في الوسط المتطرف أو ما يسمى بتطرف المعتدلين عندما يضيع الاعتدال بحثا عن التوسط.

ومن العلل الممارسات لدى الوسط المتطرف، الفردية الرجعية، أو الابتعاد عن الهدف الجمعي الكفيل بتحقيق نظام مناسب للإنسانية ككل، أو محاولات طمس الملامح الثقافية والاجتماعية ذات الخصوصية الحضارية والتاريخية، أو الاستخدام البيروقراطي المقيت لأفكار إنسانية سامية.كما يأخذ على تيار الوسط المتطرف مركزيته التي أدت إلى نتائج عكسية.

ثانياً : محددات نظام التفاهة

يستعرض المؤلف عالم اليوم وما طرأ عليه من متغيرات قيمية واقتصادية وسياسية وما أحدثته ثورة الاتصالات من آثار متضاربة، وما أفضى إليه الواقع من نظام بديل، نظام التفاهة في العلم والاجتماع والسياسة والاقتصاد والاعلام والفن الذي قلب الكثير من المفاهيم، فمفهوم العمل في المجتمعات، بنحو عام، قد تطور وتغير.

يحدد الكاتب سببين أديا إلى الانحدار القيمي : الأول أن «المهنة» صارت «وظيفة».وأصبح شاغلها يتعامل معها كوسيلة للعيش والبقاء لا غير، فوظيفة معظم بائعي الكتب والمجلات والصحف، على سبيل المثال، أنهم لا يقرؤون منها سطراً واحداً.وقس على ذلك عشرات المهن فانحدر مفهوم العمل إلى المتوسط.وصار أشخاصه متوسطين، بالمعنى السلبي للكلمة، صار العمل مجرد أنماط.

أما السبب الثاني فيرتبط، على وفق رأي المؤلِّف، بعالم السياسة ومجال الدولة والشأن العام .. حيث بدأت سيطرة التافهين، وتولّدت جذور حكم التفاهة، فاستبدلت السياسة بمفهوم الحوكمة، واستبدلت الإرادة الشعبية بمفهوم المقبولية المجتمعية، واستُبدل مفهوم المواطن بمقولة الشريك في التنمية!

وفي النهاية، صار الشأن العام عبارة عن تقنية إدارية، وليس منظومة قيم ومثل ومبادئ ومفاهيم عليا.وصارت الدولة مجرد شركة خاصة، وباتت المصلحة

العامة مفهوماً مغلوطاً لمجموع المصالح الخاصة للأفراد.وصار السياسي تلك الصورة السخيفة للناشط لمصلحة زمرته.

ومن هذين السببين، يقول الكتاب : تنميط العمل وتسليعه وتشيؤه، وتفريغ السياسة والشأن العام من مضمونهما، صارت التفاهة نظاماً كاملاً على مستوى العالم، وصارت قاعدة النجاح فيها أن «تلعب اللعبة». لم يعد الأمر شأناً إنسانياً ولا مسألة بشرية.هي مجرد «لعبة»، حتى أن هذه الكلمة نفسها راجت وانتشرت في لغات عالم التفاهة كلها : «أن تلعب اللعبة»، يذكر المؤلف أن التافهين تسللوا إلى مختبرات تفريخ المثقفين أيضاً ( المدارس، والجامعات ) وحولوا الجامعات إلى شركات وإلى مراكز للتلقين الببغاوي، مستعيضين عن المثقفين بخبراء كل همهم جعل الجامعة في خدمة السوق وجعل العقول تتناسب وحاجات السوق، وتخريج يد عاملة لا تعرف إلا الطاعة والولاء، تفتقر للإبداع والحس النقدي، ولا تفقه شيئا خارج مجال تخصصها".

وتسلل التافهون أيضاً الى المؤسسات العامة التي يفترض فيها توفير خدمات للمواطنين، وحوّلوها إلى مجرد شركات تدار من مراكز القوى، وقوة ضغط المُسيِّر، ومفروض عليها في نهاية السنة مقارنة المداخيل بالمصاريف واستخلاص الربح الصافي، والمدير الجيد من كانت منحنيات الربح معه في تصاعد، يصل بمؤشر الربح إلى أعلى المستويات، وهذه مفاهيم واعتبارات لا تتناسب والمنظومة القيمية التي تشكل جوهر الإنسان، لأنها تسلب الإنسان إنسانيته، وتسلبه قيم المواطنة كلها، فيصبح المواطن مجرد ساكن قاطن ورقم موجود تحت رحمة التافهين من الموظفين، الذين ارتقوا درجات سلم الوظيفة دونما حاجة إلى الطرق التقليدية المعلومة كالدراسة، والكفاءة والمكابدة والتدرج.

نظام فاشل بيئياً وظالم اجتماعياً، هكذا يرى دونو أنه تم خلق نظام حكم التافهين، نظام يضع ثمانين في المائة من أنظمة الأرض البيئية عرضة لأخطار نظام استهلاكهم، ويسمح لخمسين في المائة من خيرات كوكبنا أن تكون حكراً على واحد في المائة من أثريائه.

وبعد .. فإن الدفع بالتافهين إلى الواجهة والمقدمة يعد جريمة بحق الأجيال الناشئة، وإن كان التافهون قد كسبوا جولة أو شوطاً، لكنهم لم يحسموا المعركة أبداً، ما دامت الدعوات مستمرة للتصدي لتجربتهم المشينة ومحاولاتهم التافهة.

ثالثا : فصول الكتاب

يتوزع الكتاب على أربعة فصول وخاتمة :

ـــ يحمل الفصل الاول عنوان : المعرفة والخبرة يوجه فيه المؤلف نقداً لاذعاً إلى المؤسسة الأكاديمية، إلى حد اتهام الجامعات بتخليها عن تحصيل العلم واكتساب المعرفة تحت ذريعة ( الخبرة ) ، أي استبدال رجل العلم بالخبير والاكتفاء بالتبسيط على ما فيه من مخاطر والابتعاد عن التجريد والتعقيد على ما فيه من منافع ومكاسب، فأساتذة الجامعة يلعبون ( اللعبة ) فيصبحون رواد أعمال، بصفة سيادية، لا أحد يتحدث عن الضرر الذي يوقعه هذا الامتثال على عملهم الذي يصبح، على اثره، تافهاً بالضرورة، قليلون هم من اشاروا إلى ما يمكن إثارته .. فالأستاذ الجامعي ( الجيد ) اليوم هو المعفو من التدريس لأنه حصل على الكثير من المنح، حتى صار يكرس نفسه للبحث في شيء هو يعرفه مسبقاً، من خلال تقديم مشروع إلى محكمين كان هو نفسه من قيّمهم.

وتتشكل شريحة من المثقفين الصغار تشرف على صناعة الرأي العام العلمي والمحددة للذوق الفني والحكم المعرفي وتتكون من كتبة عاطلين عن العمل ومعلمين غير مستقرين وأساتذة أميين.

يناقش الفصل الثاني من الكتاب : التجارة والتمويل، يشير الكاتب إلى أن المصائب الكبرى التي حلت بمجال الاقتصاد ودنيا السياسة وتتمثل في هيمنة المعاملات التجارية التي تخضع للمضاربة والاحتكار وتتأثر بمنطق العرض والطلب وتتراوح بين الربح والخسارة وبين الغنم المفيد والتفويت الضار على

المعاملات الإنسانية التي ظلت تخضع لمنطق معياري وتحددها لوحة من القيم الكونية والمبادئ العامة.

إن الذي يحرك اقتصادنا، اليوم، روبوتات وخوارزميات لسنا قادرين على استيعاب آلية عملها وسرعتها، لكننا مجبرون على دفع ثمن أخطائها.في هذا السياق تُستخدم برامج التثقيف الاقتصادية لتشتيت الناس ومنعهم من إدراك الفوضى السائدة في سوق البورصة.فبدلاً من توعية الفرد، بنحو حقيقي، تهدف هذه البرامج إلى تضليله .. هذا الاقتصاد الغبي، كما يسميه الكاتب، يغيّب عقولنا ويطحننا بالضرائب بينما يتغنى بإنتاج الطائرات النفّاثة فائقة التكلفة لأصحاب المال ورؤسائه الفاسدين الذين ينهبون الثروات العامة.

ينبه المؤلف محذراً من أن الأوليغارشية ( حكم الأقليِّة ) ، خطت خطواتها الأولى بتحويل المشهد الصناعي الصيني نحو المناطق الحرة، التي تعدّ ملاذات ضريبية يسهل التداول المالي فيها بعيداً عن أعين القانون، ليتيح المجال للسلطة الرأسمالية بممارسة ألاعيبها كافة لنهب خيرات الشعوب بقانونها الحر، وبدلاً من تطور المؤسسات نحو استيعاب الموظفين وزيادة معدلات الدخل وإنعاش الموارد البشرية، تتجه الشركات إلى تقليل الوسطاء وصرف الموظفين واختصار النفقات لزيادة الأرباح.أما الأخطر في ذلك كله فهو أن المتواطئ الرئيس مع خططهم هي نقابات العمال.

أما عن النتائج الطبيعية لهذا كله فتتلخص بالهوس المالي، وبالقيمة المطلقة التي تتمتع بها النقود فتكون قادرة على تحقيق أية طموحات، ويؤدي ذلك إلى آثار اجتماعية وخيمة كظهور شخصيات تعاني من أمراض نفسية مرتبطة حصراً بالنقود، مثل الجَشع والإسراف والطمّع وغيرها.

ويفرق الكاتب على المستوى الثقافي والحضاري مفهومين للاقتصاد، المادي والروحاني ( الوجداني ) ، موضحاً أن الأول أصبح يحكم الثاني، إذ لم تعد العفوية والحرية الانفعالية والرفاه العاطفي أموراً ممكنة في منأى عن الحالة المادية، كما

بات رأس المال مستحوذاً على كل حق بالرفاه الشعوري، إلى درجة لم تعد فيها حتى الفكاهة قادرة على النيل من النظام التافه.

ــــ وتحت عنوان الثقافة والحضارة : يفتتح المؤلف الفصل الثالث بتحديد نوعين من الاقتصاد، يطلق على الأول الوجداني الذي يجد أصله فينا كبشر، والذي يصفه فرويد بألفاظ مثل : كوتا التأثير، الاستثمار الغريزي، عملة المعنى او مدخرات الطاقة.

وهناك الاقتصاد المادي الذي يتكون من الصفقات التجارية الصغيرة، الشغف المحاسبي، والتشريعات المحددة للإنفاق، وهذا الصنف الأخير من الاقتصاد يتسبب في تآكل حركة الصنف الأول وعواطفه .. رأي الاثرياء والمشاهير – رأس المال الثقافي - لا اعتبار للفنانين – علاقة منفصلة عن الواقع – الفن التخريبي المدعوم : التنميط الرسمي : إرضاء وزارات الثقافة.

لم تعد الصناعة الثقافية قادرة على ممارسة دورها التنويري والارتقاء إلى مستوى الحضارة، وإنما بقيت مجرد نظرة كارتونية للعالم وتم دعم الفن التشكيلي من أجل ممارسة التخريب وتكريس الانفصال بين الفن والواقع وفقد الفنان لقبه كفاعل اجتماعي ومنح لغيره من المندسين المقلدين وكل لاهث وراء شهرة ومال.

أما الرأسمال الثقافي فهو قد أضاع فائض قيمته الرمزية ورونقه الجمالي وتم منح الاعتبار إلى المشاهير والنجوم، عبر اعتماد رأي الأغنياء وترك موقف الجمهور في مرحلة متأخرة من التقييم الاستعراضي، لكن الكتاب ينتهي بدعوة إلى التحرر من الاغتراب والاستبلاه والاستغفال والتتفيه وتأكيد ضرورة قيام قطيعة جمعية بين الجمهور ونظام التفاهة والانخراط في ثورة فكرية تنهي ما يضر بالصالح العام.

"لقد أصبح ابتذال الشر علماً، الآن، لأن الفضول في محل العمل ينبغي إخصاؤه .. علينا أن لا نحاول الفهم وإنما أن نحصر تفكيرنا .. في الدروب المطروقة للمؤسسة حتى نتأكد أننا نعمل على وفق متطلباتها".

ــ ويكرس الكاتب الفصل الرابع والأخير للحديث عن الثورة : ففي حال إعلانها بوضوح زائد ( أو إذا ما تمّ التغني بها ) ، فإنها قد تصبح مجرد نسخة أخرى من اللعبة، التي كان ملّاك العقار وغيرهم من الوجهاء يعرفون دائما كيف يلعبونها لمصلحتهم.لقد تم التعبير عن هذا الأمر، بقوة في رواية ( الفهد ) ، في ملحمة ثورية تصبح قصة تغيير هيكلي تصحبه نخبة تحرص على التأكد من أن شيئا لا يتغير، إن التفكير بالثورة بطريقة غير رومانسية، يفترض أنه ليست لدينا أفكاراً مسبقة حول الكيفية التي ينبغي أن تكون عليها، فالتعرف على الثورة بوصفها شيئا ينتمي إلى مجال الضرورة، هو أمر أكثر أهمية من التعرف على تكتيكات حصرية أو حركات تاريخية حتمية، إنها ما يضر بالصالح العام، لقد وصلنا، الآن، إلى النقطة التي صار يجب أن يتوقف فيها الدمار المستفيض للنظم البيئية، كما يجب أن يتوقف الاستخراج الاستغلالي للموارد الطبيعية بصفة تطحن الناس وتسحقهم، والديناميكيات المالية التي تستمر في تعميق الهوة الساحقة بين الأغنياء والفقراء .. وقد يصبح الأمر تراجيدياً إذا لم يتم عمل شيء لتغيير الطريق الذي يقودنا إلى الكارثة حالياً.

يبقى السؤال الكبير قائماً :

ما الذي ينبغي علينا فعله؟ لمواجهة حكم التافهين؟

يجيب الكاتب :

١ ـــ لنفعل أي شيء، كلما كان هناك موقف يحررنا من التفاهة المضنية، كلما وجدت فكرة تساعدنا على تطوير حياة ممأسسة، بصفة كريمة .. ستكون هذه طرقاً للمضي إلى أمام، من دون أية ضمانات ..

٢ ـــ علينا أن نترك الطريق الذي يقودنا إلى الفوضى المتوقعة ، فنؤسس طريقاً يمكن أن يرغب قاطنو الضواحي بأخذه عندما يبدأ القلق يساورهم، قد يحدث ذلك في اليوم الذي سيكلف فيه ملء خزان الوقود أكثر من أجرة يوم عمل، وعندما يتحول الكورس الايديولوجي إلى أصوات ناشزة، فسيكون هذا هو الوقت المناسب

لنا، إلى حد كبير، للقيام بالفعل المطلوب، هو الوقت الذي نقوم به بالانفصال الجمعي، عوضا عن الخضوع للفساد.

٣ ــ أن ما من وصفة سحرية. فدعوى "الحرب على الإرهاب" أدت إلى خدمة نظام التافهين.جعلت الشعوب تستسلم لإرادات مجموعات، أو حتى لأشخاص، كأنهم يملكون عناية متعالية ( ميتافيزيائية ) ، بدل أن تكون فرصة لتستعيد الشعوب قرارها .. إنه خطر «ثورة تخديرية» جديدة، غرضها تركيز حكم التفاهة .. المطلوب أن نقاوم التجربة والإغراء.

٤ ــ ألا نترك لغة الإدارة الفارغة تقودنا، بل المفاهيم الكبرى .. أن نعيد معاني الكلمات إلى مفاهيم مثل المواطنة، الشعب، النزاع، الجدال، الحقوق الجمعية، الخدمة العامة والقطاع العام والخير العام .. وأن نعيد التلازم بين أن نفكر وأن نعمل .. فلا فصل بينهما .. الأساس أن نقاوم ..

لا مخرج من نظام التفاهة الذي يحاصر المجتمعات العربية سوى تجذير الديمقراطية المباشرة وتعزيز ثقافة المقاومة والالتزام بالنضال الاجتماعي والتركيز على الاكتفاء الذاتي والتنمية العادلة والمتوازنة.

٥ ــ كما لا يمكن إيقاف عملية التتفيه التي يتعرض لها المثقفون والمناضلون إلا بالانخراط في رسالة وجود الأمة وتحفيز الهمم للتحرك نحو الاندماج والانصهار وتثمين الجهود الوحدوية ورأب الصدع بين الأشقاء.

ـــــــــــــــــــ

[*] الدكتور.ألان دونو : نظام التفاهة.ترجمة الدكتورة مشاعل عبد العزيز الهاجري، دار سؤال للنشر والتوزيع، بيروت الطبعة الأولى، ٢٠٢٠.

راجع أيضاً : زهير الخويلدي : تفاهة نظام التفاهة حسب ألان دونو.شبكة النبأ المعلوماتية.٢٠٢١

مكتب الثقافة والاعلام القومي

٦ / ٥ / ٢٠٢١







الجمعة ٢٥ رمضــان ١٤٤٢ هـ   ۞۞۞  الموافق  ٠٧ / أيــار / ٢٠٢١ م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب مكتب الثقافة والاعلام القومي نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة