شبكة ذي قار
عـاجـل










هناك يومَ كان الموت والحياة يتواجدان معاً على رابية واحدة، كنت كالعلم منتصباً على الرابية، كنتً رايةً عربية مرفوعةً فوق أرضٍ عربية، ومن طبيعة الرايات أن تبقى عالية، ولذا كنت تكره الخندق حتى وأنت في حضرة الموت.كنت لا تعترف بوجود الخندق للمقاتل حين يكون الموت هاجماً على الحياة.كنت أناديك أنت ورفاقك الأبطال لكي تحترسوا أكثر، لأنّ الرصاص كان أغزر من المطر، رغم أنّ شآبيب المطر كانت أشبه بالمزاريب، وكنت أناديك يا أبا علي : حاول أن تهبط إلى الوادي ريثما يهبط الليل، وكنت تناديني بصوت مرتفع، وصداه إلى الآن في مسامعي : أنا لا أحبّ الموت إلاّ على القمة.وعبثاً كنتُ أحاول لأجعلك تبرح المكان أنت ومجموعة من رفاقك اللبنانيين الأبطال الذين تطوّعوا باندفاع، لأنّ عربستان كانت هناك تتكلم اللغة العربية.

وبعد مجيئك إلينا، وإلى وطنك كالراية التي كنتَها فوق روابي "ديزفول" التقينا في بيروت، وكنا كلما التقينا نحكي عن تلك المعركة وما رأيناه فيها، وكان لقاؤنا باستمرار يحكي عن تلك المعركة التي عشناها معاً رغم الموت فوق تراب "ديزفول" والتي استمرتْ خمسةَ عشرَ يوماً، وكانت الشهادة أقوى الحضور بيننا في هذه المعركة التي كانت بالنسبة إلينا جميعاً برزخاً بين الموت والحياة .. وتحدثنا عن تلك الليلة العجيبة في المعركة حيث كان المطر ينصبُّ صبّاً، وكانت حباله ثخينة، وكنت أنت تحرس الموقع، وحين خرجتُ إليك قلتَ لي : سأخلع كنزتي هذه لترتديها أنت لتقيَك المطر، ورفضتُ أنا، وأصررتَ أنت بإلحاح، ورحتَ تخلعها.وابتعدت عنك لكي لا تخلعها، كان إيثارك عالياً ونادر المثال، وكان الجميع يرون إيثارك في تلك المعركة التي تناوبنا فيها على الموت من أجل القيم التي نؤمن بها.

في تلك المعركة استُشْهِد فيها اثنان وعشرون بطلاً لبنانياً، ذهبوا بكبرياء إلى ربهم وإلى وجدان أمتهم خالدين، وكانوا في ريعان الشباب، ولكنهم كانوا رجالاً في المعركة.وكلما استشهد بطل كنت أنت بسرعة تُهْرَعُ إليه لعل فيه بقية من الحياة لتسعفه.ولا أزال أذكر مشهد استشهاد رفيقنا، ابن بعلبك الوفيّ "إلياس الشمالي" الذي ذهبنا إليه بعدما عرفنا أنه أصيب، وكان في النزع الأخير، ولا أزال أذكر وداعه، وهو يقول لنا : سلموا على الرفاق جميعاً وانتبهوا لأوضاعكم، أما أنا فإنني أشعر بقرب ذهابي إلى ربي.وما كنا نملك كلمة توازي روعة استشهاده، وروعة قبوله مصيره العالي، وكنتَ دائماً تُذَكِّرني بتلك الحادثة التي لا يمكن أن يعبر عليها النسيان.

وفي زمن الأسر كنت دائماً حراً، وكانت ذلة الأسر أبعد ما تكون عنك.وكنت لا تبالي بإعلان موقفك السياسي بحدة والدفاع عنه باندفاع في جغرافية معادية لكل ما هو عربي.كنت ألومك دائماً على اندفاعك، وكنت تعدني بأنك ستكون أكثر هدوءاً، ولكنك كنت تغلي كالمرجل كلما مسّ أحد الخونة عقيدتك."الخونة" الذين أطلق عليهم الإيرانيون أسماء "التوابين".وكنتُ باستمرار أراك آتياً خلفي إلى الانفرادي قبل مرحلة انفصالي عن الأسرى العرب في أوائل سنة ١٩٨٤.ودائماً يكون سبب مجيئك إلى الانفرادي معركة بينك وبين "التوابين" كُتّاب التقارير.

كنت بين رفاقك محبوباً لأنك كنت تساعد الجميع، ولا غاية لك إلا صمودهم في محنة الأسر، وكنت تتبرع للأسرى المرضى برغيف خبزك أحياناً كثيرة، وكنت تقدم حصتك من السجائر للأسرى المدخنين، وكنت تحتقر أولئك الذين يشترون بها خبز رفاقهم، لقد عشتَ أسيراً حراً، وظللت مندفعاً وحاملاً مبادئك التي آمنت بها إلى يوم شهادتك، وكأنك لا تزال في أول شبابك يوم آمنت بفكر أمتك العظيمة.

في رحمة ربك يا أبا علي، وليكن دربك درب كل أحرار هذه الأمة ذات الرسالة الخالدة.






الاحد ٢٦ جمادي الاولى ١٤٤٢ هـ   ۞۞۞  الموافق  ١٠ / كانون الثاني / ٢٠٢١ م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب عمر شبلي نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة