شبكة ذي قار
عـاجـل











لقد جرفت العولمة الثقافية الكثير من المفكرين بحيث ركزوا على جوانبها الإيجابية وسوقوا مفهومها المثالي الذي تطرحه أمريكا عبر مفكريها ومؤلفاتهم لغرض جذب الآخرين إليها دون تردد.

فالعولمة في مفهومها المثالي بناء عالم واحد موحد لا قيمة ولا معنى للخصوصيات القومية ولا للحدود الجغرافية، وأساس هذه الوحدة العالمية توحيد المعايير الكونية لحقوق الإنسان ومحاربة المخدرات ومحاربة الإرهاب الذي تعولم، ومحاربة التجارة بالبشر والقضاء على الديكتاتوريات الوطنية وإعطاء المرأة حقوقها من خلال منظمات إقليمية ودولية وإلغاء عقوبة الإعدام في الدول من خلال تشريعات خاصة بذلك، أي بكلمة واحدة تعزيز الروابط الإنسانية بين الشعوب، وتحرير العلاقات الدولية، والسياسية والاقتصادية من كل القيود، وتقريب الثقافات وتمازجها عبر كل وسائل التواصل الاجتماعي، ونشر المعلومات والأفكار بلا حدود عبر الثورة الرقمية، وتشجيع عالمية الإنتاج المتبادل حيث يمكن الاستفادة من اليد العاملة في الدول النامية والاستفادة من المواد الخام فيها بدل نقلها للدول المصنعة، وانتشار التقدم التكنولوجي، وعالمية الإعلام.

ومن يفتح صفحة البنك الدولي وصندوق النقد الدولي على الانترنت يلاحظ المثالية المفرطة لمبررات وجودهما، فكل منهما مجرد بنك تسليف أحدهما قريب الأجل والآخر بعيد الأجل لإقراض الدول وتسليفها لغرض مساعدتها، وهذا الطرح المثالي يبدو مغرياً ومشوقاً في ظاهره، وهذا المفهوم لا يمكن أن يتم إلا بين القوى المتكافئة سياسياً واقتصادياً وثقافياً، بحيث لا يستطيع طرف فرض التغيير على الطرف الآخر، وبذلك يسير التغيير في اتجاهين بدلاً من اتجاه واحد، ولكن شتان بين المثالية والواقع.

إن العولمة، كما هي في عالم الواقع، هي عملية الحاقية انتقائية استعبادية تجعل الدول النامية عربة في القطار الذي تقوده أمريكا ومعها الدول السبع الصناعية الكبار في العالم، كما إنها تقسم العالم إلى عالمين :

عالم القوى الكبرى ذات المصالح المتبادلة، والمؤسسات العالمية، والشركات الصناعية والتجارية والإعلامية العملاقة، وعالم الدول النامية أو الضعيفة، والعالم الثاني عليه أن يقبل دور التابع للعالم الأول ويبقى مسلوب الإرادة، وحتى طاقاته التكنولوجية القليلة التي طورت بشق الأنفس يتم استنزافها والاستيلاء عليها بواسطة دول العالم الأول.

١. إن العولمة في مفهومها الاقتصادي تعني إقصاء المستضعفين نهائياً عن أي مشاركة في ميادين التنافس لأنهم أصلاً لا يمتلكون مقومات التنافس لا من حيث الرأسمال ولا من حيث امتلاكهم لتقنية الإنتاج فهم مستوردون ومستهلكون بالمقام الأول والأخير، إن أذرع العولمة الاقتصادية ( البنك الدولي وصندوق النقد ومنظمة التجارة العالمية ) لا تقدم أي قرض لأي دولة إلا بشروط مذلة ومجحفة عدا عن الفوائد وفوائد الفوائد المطلوب دفعها في توقيتات معينة، ومن هذه الشروط تحطيم القطاع العام في مؤسسات الدولة وفرض الخصخصة بحجة تخفيف العبء عن الدولة، وهكذا يتم تعرية نفوذ الدولة وسيطرتها على اقتصادها ولقمة عيش أفرادها خطوة بخطوة، وهذا ما جعل كل الدول العربية الغير نفطية ترزح تحت البسطار الامبريالي وتفقد سيادتها، ومؤخراً استدان العراق من صندوق النقد ٥٠٠ مليون دولار وكان شرط الصندوق إيقاف التعيينات في دوائر الدولة لمدة خمس سنين، بينما كان عراق صدام حسين خالٍ من الخصخصة لأنه كان يمتلك المال الذي يغنيه عن صندوق النقد وبالتالي كان سيد نفسه وهكذا استغنى مهاتير محمد في ماليزيا عن قروض صندوق النقد ونهض ببلاده، كما أن العولمة الاقتصادية تفسح المجال للشركات المتعددة الجنسيات والعابرة للقارات لكي تفرض قوانينها وأسعارها وشروطها على أصحاب الكيانات الاقتصادية الهشة من الفقراء والمطحونين، دون أي اعتبار لإنسانية الإنسان، لأنها تفرض دخول المليارات وخروجها بحرية وعندما تسحب ملياراتها بين ليلة وضحاها ينهار فوراً اقتصاديات تلك الدول كما حدث مع دول جنوب شرق آسيا والنتيجة معروفة سلفاً، وهي أن يبقى الضعفاء ضعفاء وفريسة لجشع الحيتان الكبار، واقفين في انتظار الموت أو الانتحار.

٢. والعولمة في مفهومها الأخلاقي تعني تعزيز الأنانية الفردية لأن الفرد سيعتبر نفسه خارج الارتباط الوطني والقومي ومرتبط بالفضاء الإنساني الأوسع وإطلاق العنان له بلا قيود لنوازع الجنس من خلال الأفلام وإدمان المجتمعات على مشاهدتها وتقليدها تماما كإدمان المخدرات حيث تدر هذه الصناعة مليارات الدولارات على أصحابها من جهة وتجعل الفرد غائباً عن همومه المتنوعة، كما يتم إشاعة الحس الغليظ، والتحلل الأخلاقي، وتدمير القيم الإنسانية الباقية، وتدمير الأسرة، وإشاعة الشذوذ من خلال التشريعات التي تسمح بزواج المثليين واعتبار ذلك سمة حضارية يجب أن نقتدي بها، وعندما تنظر للصورة التذكارية لزوجات رؤساء الدول السبع الكبار تصاب بالدهشة لأن بينهم رجلـ بالإضافة لإشاعة الإلحاد تحت مسميات علمية لرؤية الأديان وخاصة الطعن بالدين الإسلامي وقيمه السمحاء، فصار المشاهد العربي يرى بكل وقاحة المناظرات التلفزيونية في القنوات الفضائية المصرية واللبنانية وغيرها حول الإلحاد والعلاقات المثلية، والأنكى من ذلك أن تشاهد على إحدى القنوات اللبنانية الفضائية رجالاً ونساء يشاركون في بث النكات الجنسية الفاضحة بكل صراحة وصفاقة.

٣. والعولمة في مفهومها السياسي تعني هيمنة المعولِم ( بكسر اللام ) ؛ فهو صاحب السيادة، والقول الفصل، لا راد لما يريد، ولا صوت يعلو على صوته، وهو مثل راعي القطيع؛ عصاه جاهزة لأي شاة شاردة.فجورج بوش الابن رفع شعار من ليس معنا فهو ضدنا في مجلس الأمن وحرض أكثر من ٣٠ دولة للعدوان معه على العراق مستخدماً العصا والجزرة، وقبلها استخدم مجلس الأمن ليفرض قوانين الحصار على العراق لمدة ١٢ عاماً، وها هو ترامب يسير على نفس النهج في سن العقوبات على الدول أو في محاصرة منظمة التحرير الفلسطينية إذا لم تنحن لصفقة القرن.
٤. والعولمة في مفهومها التكنولوجي تعني استئثار المعولمين بالتكنولوجيا الفائقة، وبالأدوات التكنولوجية المتطورة وبالقدرة على استخدامها لتحقيق مصالحهم، وفرض شراء الأدوات التكنولوجية دون أسرارها على المعولَمين وفرض استخدامها في الأغراض التي تحقق مصالح الحيتان الكبيرة فقط، وفي هذا الجانب لابد من الإشارة الى الإنترنت وما تفرع عنها من تطبيقات ودورها في التجسس على الأفراد والدول بحيث أن كل فرد يستخدم الكمبيوتر في كل الكرة الأرضية له ملفه الخاص المحفوظ في بنك المعلومات عند جوجل وياهو وغيرهم من أدوات التصفح، حيث يؤرشف هذا المتصفح كل تحركات الفرد والمواقع التي دخلها وتعليقاته ومكالماته بالتفصيل، فإذا مسحت من طرفك فإنها لا تمسح من طرفهم وإنما تبقى محفوظة لحين الطلب، لهذا أسس الموساد وحدة إلكترونية خاصة لمتابعة الأفراد ومراقبتهم مما حدا برئيس الموساد للقول إنه قل اعتمادنا كثيراً على الجواسيس الأفراد وأصبحت المعلومات تتوافر لدينا بغزارة عن طريق الإنترنت وهكذا الحال في كل دوائر الاستخبارات في العالم.والسؤال ما العمل؟

لا شك أن العولمة تشبه تسونامي جارف بأبعاده الاقتصادية والثقافية والسياسية والعلمية والاجتماعية، تخترق اقتصاديات الدول وحدودها الجغرافية رغماً عنها وتتحكم بسياسات الدول المتخلفة رغم إرادتها وتتسلل إلى عقول ونفوس الجماهير وهي راضية، فإذا رفضناها بالمطلق نصبح خارج العصر ومتقوقعين على أنفسنا ومتخلفين، وإذا قبلناها بالمطلق فقدنا جذورنا الوطنية والقومية ومسخت قيمنا وتقاليدنا، لذا قال غاندي : أنا مستعد لأفتح نوافذ بيتي ليطرد الهواء النقي ما بقي فيه من هواء فاسد ولكن من الغباء أن أجعل الرياح تقتلع بيتي من جذوره الأساسية، إذاً مطلوب التطور والاعتماد على الذات مع المحافظة على الجذور والقيم.وهي مهمة شاقة على كل الصعد في ظل التجزئة القومية والتخلف، والله المستعان.




الثلاثاء ٥ صفر ١٤٤٢ هـ   ۞۞۞  الموافق  ٢٢ / أيلول / ٢٠٢٠ م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب د. سالم حسين سرية نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة