شبكة ذي قار
عـاجـل










التحول نحو القطبية ليس سهلاً ولا يسيراً، إنما يأتي في ضوء مقومات بناء القوة بكل اركانها واعمدتها لتشكل القاعدة الأساسية للقطبية.واهم هذه المقومات هو الأقتصاد الذي يتلازم مع الجغرافيا في توزيع عناصر القوة جيو - بوليتيكياً ( Geopolitics ) ، فضلاً عن بناء القوة العسكرية المتوازنه القادرة على تحقيق عنصر الدفاع بوسيلة الردع.

لسنا في معرض البحث في عناصر القوة والتكنولوجيا العسكرية والتقنية الألكترونية المتطورة والقوة الأقتصادية والإستثمارية والتصنيع الإنتاجي والموارد المادية والبشرية، إنما الحديث عن نوع الصراع، ليس في شكله العام الذي يأخذ منحى التعريفات الكمركية والسندات والقروض ومضاربات العملة والصيرفة في اسواق العالم، واختلال التجارة وحجمها بين الطرفين، إنما في شكله السياسي - الإستراتيجي الذي قد يستهدف الخصم لإقناعه الجلوس على طاولة المفاوضات للإتفاق حول جملة من فقرات تترتب عليها تحولات جذرية من شأنها بلورة نظام دولي جديد قد تطمح اليه في ثنائية قطبية، ليست على غرار الثنائية القطبية التي كانت قائمة والولايات المتحدة الأمريكية أحد اطرافها والطرف الثاني الأتحاد السوفياتي، إنما بين الولايات المتحدة الأمريكية والصين الشعبية على وجه التحديد، وقد تأخذ المباحثات والمفاوضات التعددية القطبية، التي ارجح ان ينتهي إليها العالم بعد التخلص من موروث نتائج الحرب الباردة والتفرد القطبي الأمريكي الأوحد الذي فشل في قيادته للعالم.

فهل يمكن إختزال الصراع وتحولاته بالرجوع الى قطبية ثنائية من هذا النوع، أم أن الصراع سيأخذ مساره في شكل تكامل مع مراعات بقية القوى الكبرى والعظمى عند الإحتكام للمقومات ولعناصر القوة.؟

فلنتفحص ما كانت عليه القطبية الثنائية، وعلى أي أسس تتخذ منها قاعدة للصراع والتنافس :

أولاً - القطبية الثنائية كانت قائمة على الأستقطاب الثنائي بين معسكرين، هما المعسكر الغربي الرأسمالي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية والمعسكر الشرقي الأشتراكي بزعامة الأتحاد السوفياتي.

ثانياً - القطبية الثنائية كانت قائمة على الأستقطاب الآيديولوجي بين النظامين في المعسكرين الشرقي والغربي.

ثالثاً - القطبية الثنائية كانت قائمة على صراع الحرب الباردة وإحكام السيطرة على مناطق النفوذ الأقتصادية والأستراتيجية وإعتبارها مناطق حيوية تدخل مجال الأمن القومي لكلا المعسكرين.

رابعاً - القطبية الثنائية كانت قد اتفقت على تحديد خرائط المناطق الرمادية للصراع بين المعسكرين، يصعب على أي طرف اختراقها تحت أية ذريعة.

خامساً - القطبية الثنائية قد استخدمت ( الفيتو ) و ( الفيتو المزدوج ) وهما من ضمن الدول التي انتصرت في الحرب العالمية الثانية، الخمسة الكبار فقط منذ عام ١٩٤٥.

الصراع الدولي كان يتخذ في بعض مراحله شكل الحرب بالوكالة، ولكن توازن القوى ظل يعيش حالة من الإهتزاز بفعل التطورات الهائلة في عناصر القوة وخاصة تكنولوجيا الاتصالات والالكترونيات والتكنولوجيا العسكرية واختزال القدرات الخاصة بقوة التدمير الشامل المؤكد نحو مغادرة مفاهيم الردع والصراع التقليدية القائمة على الضربة الاولى والرد المدمر بالضربة الثانية، والفعل الاستباقي الاجهاضي، والوصول الى جاهزية الصواريخ البالستية ذات التأثير التدميري الدقيق والقنابل الفراغية وتجاوز حرب النجوم في شكل التسليح الفضائي النووي.

فأذا كان التوازن الأستراتيجي الثنائي السابق يقوم، وهو كذلك، على شروط الأستقطابات والفرز الآيديولوجي، وتشجيع الثورات والانقلابات والحركات التي تناهض الأستعمار، يقابلها دعم الأنظمة المركزية والحديث عن حقوق الانسان والديمقراطية وممارسة دور الشرطي العالمي، فأن كل ما حصل في ظل القطبية الثنائية قد سقط وتربعت القطبية التفردية الأمريكية قمة القيادة في العالم، وبدلاً من سيادة العدل وإنصاف حقوق الشعوب شنت هذه القطبية حرباً تدميرية بالضد من أفغانستان ومن ثمَ العراق واسقطت التوازن الأستراتيجي الأقليمي في العمق الآسيوي وفي منطقة الشرق الأوسط وفي القلب منه العراق، للإستحاواذ على منابع النفط تنفيذاً لقرارات مؤتمر الطاقة الدولية الذي عقد في عام ١٩٧٣ بقيادة رأس الدبلوماسية الأمريكية ( هنري كيسنجر ) ، ولأغراض الأستراتيجية الأمريكية بعيدة المدى التي تتعلق بالعمق الآسيوي ومن ثمَ العالم.

والتساؤل هنا، هل تتوفر حالياً هذه المعطيات لكي يقال أن الثنائية القطبية ستعود، ولكن بين قطبين هما الولايات المتحدة الأمريكية وبين الصين الشعبية، وعدم الأخذ بنظر الأعتبار باقي قوى العالم كروسيا واليابان والهند وباكستان والبرازيل وامريكا اللاتينية وافريقيا والدول العربية وأوربا؟

إن نكران الحقائق الموضوعية التي تقوم بوظيفتها في عملية بلورة نظام دولي جديد، لا يلغي وجود تلك الحقائق الشاخصة، وخاصة قوى العالم الاخرى التي تستند على نسب مهمة من تكامل عناصر قوتها الاقتصادية والعسكرية والتقنية وصناعة التكنولوجيا .. إلخ ، وهي تشكل في مضامينها واقع ( جيو - سياسي ) و ( جيو - استراتيجي ) بحكم مواقعها عند اماكن معينة جغرافيا في العالم.كلها قوى مؤثرة في ظل اية قطبية تظهر ثنائية او ثلاثية او متعددة الاقطاب، فضلاً عن كونها مسرحاً مهماً للاعبين الكبار الذين من الصعب اغفالهم او التجاوز عليهم بأي حال .. فالعالم يحتاج الى تغيير الى الأمام وليس العودة الى الخلف.!!

إن نكران وجود الحقائق الواقعية على المسرح السياسي الدولي والاقليمي، يُعَدُ نقصاً معرفياً في معطيات تؤدي بالنتيجة الى حسابات خاطئة ومستعجلة، وخاصة استعجال الحديث عن مولد نظام دولي جديد هو في دور التبلور أو التكوين أو التشكيل، ولكنه لم يولد بعد، إلا بعد إرهاصات ولادة صعبة.وكما أشرنا، ان امتلاك الدولة، أية دولة، سلاحاً نووياً لا يعني انها باتت قطباً دولياً كما ان امتلاك قوة اقتصادية كبيرة لوحدها دون استكمال بقية عناصر القوة لا يُمَكِن الدولة هذه او تلك من ان تصبح قطباً دولياً.فاليابان دولة اقتصاد وتقنيات تكنولوجية متطورة، ولكنها ليست قطباً، وهناك عدد من الدول الصغيرة الحجم تمتلك اقتصادا واسعا وكبيرا ولكنها من المستحيل ان تكون قطباً في ميزان تعادل القوى.

فروسيا كانت قطباً دولياً في ظل الاتحاد السوفياتي، ولكنها الآن تحاول ان تستعيد إرث الاتحاد السوفياتي ولم تستطع، رغم انها ورثت عنه أنيابه الذرية وقدراته النووية، لأنها لم تمتلك اقتصادا متحررا من احادية المورد النفطي والغازي، فيما الصين وهي الدولة الكبيرة والواسعة جغرافياً وسكانياً تمتلك مقومات القطبية، ولكنها بحاجة الى أهم عناصر قوتها وهو ( النفط والغاز ) .. وعلى هذا الأساس تعمل الصين وتظهر كدولة ( اقتصادية ) من جهة، وتزحف صوب منابع النفط عن طريق شركاتها نصف الحكومية العملاقة، من جهة ثانية، ولم تظهر كدولة ( عسكرية ) ، كما هي عليه الولايات المتحدة الامريكية، التي تعلن انها دولة ( عسكرية ) ودولة ( اقتصادية ) .. والتوازن بين العسكرية والاقتصادية هو محض هراء في قدرات امريكا، وهو الأمر الذي يخيف امريكا، وما يخيف الصين هو نقص موارد النفط والغاز، وربما تأمل في ان تجد لها سندا روسيا، إلا أن موسكو لا تتورط في مسألة الإسناد النفطي لإنعدام الضمانات الكفيلة بوضعها الاقتصادي المستنزف في اوكرانيا والقرم وسوريا ومحاولة الوصول الى ليبيا وقبلها كانت مصر، وزيادة مصروفاتها على التسلح.

هنالك متغيرات التكنولوجيا والثورة الصناعية الرابعة وثورة المعلومات والفضاء ومختبرات البيولوجيا، على الرغم من ان الصين قوة صاعدة وإن امريكا قوة متراجعة وإن اوربا قوة على طريق التفكك لاسباب ذاتية وموضوعية معروفة، ولكن هناك متغيرات هائلة تعمل في خضم الحراك المتقدم والحراك التراجعي للقوى.وهذه مسألة ليست غريبة على المراقب، طالما ان العالم يضع في اعتباره، وهو يراقب عملية تبلور أقطاب ثلاثية ورباعية، بعد ان كشفت القطبية الأحادية الامريكية المتجبرة، انها لا تعترف بتراجعها، إنما تريد ان تبقى على رأس الهرم الأحادي وهي غير قادرة لوحدها على حكم العالم.ورغم كل ذلك ما تزال تؤمن بأن عامل النفط هو الذي سيحدد شكل القطبية استناداً الى نظرية تقول ( النفط مادة استراتيجية آيلة للنضوب، ومن يسيطر على آبار النفط يستطيع ان يسيطر على الأطراف، ومن يستطيع السيطرة على الاطراف، يستطيع ان يسيطر على العالم ).ومن زاوية هذا التحليل تكتسب المنطقة العربية وخاصة العراق أهمية قصوى ذات دلالات إستراتيجية.

المعطيات .. تحدث أحد الخبراء في الأقتصاد عن موضوعة الصراع وعن تشكيل القطبية الثنائية ( الأمريكية – الصينية ) ضمن رؤية تتبناها مراكز الأبحاث الأستراتيجية الأمريكية، وملخصها ( أن امريكا خائفة من توسع الصين، وإنها تسعى لجلبها الى طاولة مفاوضات تناقش فيها عدداً من الموضوعات المهمة والخطيرة من أجل الوصول الى تفاهم ينتهي بتشكيل القطبية الثنائية الصينية - الأمريكية، لكن الصين ترفض الجلوس الى طاولة المفاوضات، وترى انها دولة ذات مشروع اقتصادي وليست لديها مطامح قيادة العالم، وعلى هذا الأساس تطلب الصين من أمريكا قيادة العالم وتتركها لعالمها الأقتصادي دون مشاكل ).ويضيف الخبير الأقتصادي .. أن امريكا غير مقتنعة بالطرح الصيني وخائفة وتريد ان تصحح معادلة عجزها النقدي الذي وصل الى تريليون واحد وسيضاف الى هذا الرقم تريولونين آخرين بسبب ظروف جائحة كورونا الكارثي، فسيصبح العجز مركباً ( ثلاث تريليونات ) دولار.وهذا الرقم اضافة الى عدد من موضوعات اخرى في الأجندة الأمريكية يجعل التوجه الامريكي حثيثاً نحو الصين لأقناعها ومن ثمَ تهديدها وتطويقها في بحر الصين حيث ( الأحتكاك الحتمي ) الذي سيؤدي - حسب الخبير الاقتصادي - الى ( مناوشات ) صاروخية ارض - ارض و وجو - ارض وغيرها، وهي مناوشات محدودة - كما يراها تؤدي الى قبول الصين والذهاب الى طاولة المفاوضات، والنتيجة هي التحكم الثنائي الامريكي - الصيني في مقدرات العالم على اساس القطبية الثنائية ).

فهل هذا معقول ويسير في عالم السياسة الدولية والأستراتيجيا؟ هل هكذا تنبثق القطبية من رحم مناوشات صاروخية متبادلة؟!

هذه النظرية المبطنة بالتهديد المقصود، يمكن ان ترصد ملامح الصراع القائم بين الولايات المتحدة الامريكية والصين الشعبية.ولكن التحول الى القطبية لن يكون في ظل الحرب كما حدث في الحرب العالمية الثانية، والتاريخ لن يعيد نفسه، حتى يجلس المتصارعان بعد إنفضاضها على طاولة مفاوضات.أما التحول الجوهري نحو القطبية الثنائية او الثلاثية او المتعددة سيكون تحول السلطة سلمياً دون حرب وبالتلقائية نتيجة لنضوج عاملين اولهما : نضج وتكامل عناصر القوة وثانيهما : القبول الثنائي بسلمية التفاوض، وليس عن طريق الاستفزاز والتهديد بحرب ( ضرورة ) هدفها إجبار الصين على التفاوض.وإن التصعيد وممارسة اسلوب الصدمة مع دولة كبيرة مثل الصين ستكون صعقة مهلكة للجميع، ومن يضمن ان الرد لن يكون رداً إفنائياً ذرياً.؟!





الاثنين ١٥ ذو القعــدة ١٤٤١ هـ   ۞۞۞  الموافق  ٠٦ / تمــوز / ٢٠٢٠ م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب د. أبا الحكم نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة