شبكة ذي قار
عـاجـل










يحتفي شعبنا العربي في العراق، وتحتفي معه جمهور أحرار العرب بمئوية ثورة العشرين، التي طبعت تاريخ الوطن العربي في عشرينيات القرن المنصرم، لما شكلته من ثورة عارمة على العدوان والظلم والبغي والطغيان والاحتلال، واتسمت بتصميم قوي على انتزاع الحقوق المغتصبة واسترجاع الكرامة المهدورة واسترداد الحرية المفقودة، كما أنها لم تنصع لمحاولات فرض الأمر الواقع بالقوة كما أنها لم تقم وزناً كبيراً للفوارق الهائلة بين إمكانات المحتل البريطاني الهائلة وبين إمكانيات الثوار المتواضعة مقارنة بها.

لقد كانت ثورة العشرين نتيجة حتمية لتردي الأوضاع الشامل في البلاد، كما كانت - وهذا الأهم - نابعة من رفض العراقيين الأحرار لحتمية الاحتلال، وهو ما يمكن أن نسميه بالاحتلال البديل، حيث ولما عرفت أحوال الاحتلال العثماني للعراق انخراماً كبيراً بسبب الحرب العالمية الأولى ومآلاتها التي أفضت إلى هزيمة قاسية للأتراك وانتصار بريطانيا وبقية الحلفاء.

فلقد كانت ثورة العشرين وبدون أدنى شك توق العراقيين لدولة عراقية حرة منيعة سيدة لا يفرض عليها وجوبا أن تدين بالولاء دوما أبدا، وكانت تعبيراً عن أصالة هذا الشعب وتشبثه بهويته وثقافته وتاريخه وحضارته، فلئن كان شعب العراق رافضاً للتريك والوصاية التركية فإنه بالقدر ذاته رفض ويرفض الوصاية البريطانية وسياسات التغريب والتفسيخ، وهو في الحالات جميعها، رافض وباستمرار لأي عدوان خارجي ولأي محاولة لطمس تاريخه وضرب هويته أنى كان مصدرها ومهما كان مأتاها.

إن ثورة العشرين، هي تلك الثورة الشاملة العارمة التي تشابكت فيها المطالب الاجتماعية بالاقتصادية وبالخدماتية وحتى الثقافية، لكنها كانت تنبع كلها من ذلك الينبوع الرقراق الصافي الموسوم بالكرامة والمعمد بالشهامة ورفض الخنوع والخضوع والتسليم والانكسار والانصياع والمذلة والهوان.

وإن ثورة بكل تلك الآفاق والمغذيات والدوافع كانت وستبقى جديرة بالوقوف عندها والتدبر في مغازيها ومراميها وغاياتها ورهاناتها، وهي كذلك منصة فارقة لا مناص للراغبين في ملامسة طرق التحرر والانعتاق والخلاص من الرجوع إليها.

وفي مئوية ثورة العشرين، يعيش العراقيون الأصلاء ويعيش معهم أحرار العرب المتمسكين بعروبتهم الأوفياء لقضية أمتهم، على وقع ثورة تشرين المباركة التي يخط معالمها ويسطر ملاحمها أحفاد أبطال لأجداد أفذاذ، يسيرون على نهج المقاومة ذاته ويسعون لتحقيق الأهداف نفسها.

إنه ورغم المظالم المركبة والوحشية التي تعرض لها العراق منذ مطلع الأليفة الثالثة إثر الغزو البربري الهمجي والعدوان الشيطاني الآثم الذي شنته مجاميع الغزاة والطغاة بقيادة رعاة البقر الأمريكان ضد بلاد الرافدين، ورغم ما تفرع عنه من احتلال إيراني فارسي صفوي بالوكالة وما صاحبه من مد طائفي شعوبي عنصري بغيض، وما رافق ذلك كله من جرائم سادية مخزية طالت العراق أرضا وبشرا وشجرا وحجرا على نحو غير مسبوق في التاريخ البشري برمته وهو ما لأن معلوما للجميع ومسلما به من الكل، فإن ذلك لم يقتل في العراقيين جذوة الإيمان ولم يجهز على تعلقهم بالحياة الكريمة في ضمائرهم ولم يحملهم على الانقياد لمخططات الأشرار التصفوية الإرهابية العاملة على تفتيت العراق واستباحة أهله وثرواته ومقدراته وإرثه الحضاري والثقافي والفكري الزاخر والمتفرد.

وها هي ثورة تشرين للمباركة، ورغم المعوقات المحيطة بها، ورغم تآمر الجميع عليها، ورغم خذلان الأقربين، فإنها تأبى إلا أن تزداد اتساعا وثباتها ورسوخا، وتأبى إلا أن تتصاعد ويستعر أوارها ويتقد قبسها، وها هي تتحامل على جراح غائرة وتواصل ثباتها ومباغتتها لفيالق الشر وتستمر في ضرب أوكار البغاة والمرتزقة والخونة المنصبين من خارج أسوار الوطن وفوق إرادة الجماهير التي تبصق على وجوه أقطاب العملية السياسية العفنة والمتهالكة والمتآكلة والتي شكلت ولا تزال تشكل المنتوج الأقذر والمحصلة السياسية الأكثر استهجاناً وتندراً وضحالة في سجل السياسة على مر العصور، كما تتجدد ثورة تشرين المباركة يومياً بابتكاراتها وتتفتق قريحتها في كل آن وحين بما أعيى مجاميع الظلام والرذيلة والسقوط الطائفية الحاقدة المترعة خسة ونذالة وانحطاطاً، حتى عمقت هذه الثورة عزلة تلك الطغمة المفسدة الفاسدة وحاصرتها حصارا لا أمل في فكه إلا بطحن عظام الجاثمين على صدر العراق وشعبه والعابثين بمصيره.

ثورة تشرين، لمن راهن على عامل الوقت ومنى نفسه الخاوية بذبول بريقها وبأفول شمسها، هي ثورة متشربة من ثورة العشرين ولا ريب، وهي أيضا وبكل تأكيد ثورة متجذرة في بيئة العراق الثائرة على الدوام، وهي البيئة التي قد تغري الأوغاد والجبابرة لبرهة من الزمن فيتوغلوا في ثناياها وتضاريسها ولكنهم لا يغادرونها أبدا إلا وهم مندحرون مذمومون خائبون فاشلون خاسرون مهزومون مطحونون.

ثورة تشرين، ثورة على الظلم والقهر والجور والاستبداد والحرمان والتفقير والتجهيل والتسطيح والتفسيخ والتفريس والتدجيل، وهي كفر بالمذلة وانتهاك الحرمات والعبث بالموارد، وهي رفض للفساد والإفساد والطائفية والتقسيم والشرذمة والتفتيت.

ثورة تشرين، هي أيضا ثورة لاستعادة العراق لأهله ولأمته ولحاضنته الطبيعية الأصيلة، وهي أيضا توثب وتحفز للانطلاق لجبر ما أفسده المعتدون الأقذار.

هي تلك الثورة التي لا يخطئ عاقل في هذا الكون في تلمس حقيقة أنها تسير على خطى ثورة العشرين، حتى لكأنها التقمت ثديها فضخ فيها معاني العز والشموخ والتضحية والفداء، وعلمها أن الحرية والحقوق لا توهب ولا تمنح ولكنها تنتزع انتزاعاً وتفتك بالقوة فتكاً.

فليكن ثبات ثوار تشرين وصمودهم ومن ثم انتصارهم الأكبر بكنس الغزو ومفرزاته وتحرير العراق وتطهير أرضه من دنس الاحتلال والمعممين والطائفيين والشعوبيين الحاقدين، الوسام الأغلى الذي يقلد صدور أبطال ثورة العشرين الخالدة فيرقدوا بسلام وبأمان، وبافتخار.

فمزيداً من الثبات يا أحرار العراق.
ومزيداً من الصبر يا أحفاد نبوخذ نصر وحمورابي وصلاح الدين.
فما النصر إلا صبر ساعة.





الاثنين ٨ ذو القعــدة ١٤٤١ هـ   ۞۞۞  الموافق  ٢٩ / حـزيران / ٢٠٢٠ م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب أنيس الهمامي نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة