شبكة ذي قار
عـاجـل










لم تُظلَم مدينة في لبنان، ماضياً وحاضراً مثلما ظُلِمَت به طرابلس،
ولم تشهد مدينة على شاطئ المتوسط، فقراً مدقعاً مثلما هي عليه طرابلس،
ولم تحو ِمدينة من مدن العالم، من الثراء الفاحش كما هو موجود لدى أغنياء طرابلس،
ولم تعش مدينة من مدن القارات الخمس، ثلاثية التهميش والفقر والثروة، مقارنة بما تعيشه طرابلس.
هي المدينة التي هُمشِّت يوم سُلخ عنها صفة العاصمة الأولى للبنان، وتُرك لها مسمى العاصمة الثانية مع وقف التنفيذ.
وهي المدينة التي تكاد الوحيدة في مضاهاة القاهرة بتراثها المملوكي فترك هذا التراث محبوساً داخل المدينة القديمة ليعشعش فيه الإهمال والتهميش بدل أن يشكل مصدراً سياحياً لا مثيل له على المتوسط.

قدمت في معركة استقلال لبنان خيرة شبابها وهم يواجهون دبابات المحتل الفرنسي بالصدور العارية في سبيل وطن حر مستقل لتشهد عليهم مقبرة الشهداء في المدينة التي وحتى يومنا هذا، القليل القليل، من المهتمين من يعرفون ذلك، لأن العهود المتعاقبة تجاهلتهم في مناسباتها الوطنية وكتب التاريخ.

وكانت السبَّاقة في ريادة العمل الفدائي المقاوم وهي التي كان لأبنائها شرف الاستشهاد على أرض الجنوب في مواجهة الاحتلال الصهيوني أواخر العقد السادس من القرن الماضي لتروي دماءهم أرض الجنوب تمهيداً لتحرير ناجز يحتفل به اللبنانيون في الخامس والعشرين من شهر أيار.

ودفعت الأثمان الغالية بشراً وحجراً يوم جُعلت مسرحاً لتبادل الرسائل الدموية الإقليمية بين أكثر من طرف نزاع في المنطقة وتحولت أسواقها التجارية لا سيما شريانها الاقتصادي التجاري الأكبر في التبانة إلى خراب ولم يتجرأ عهدٌ من العهود على إصلاح ما تدمر وإعادة هذا الشريان إلى حياته العادية، لا ترميماً ولا إعادة إعمار، بل تركت مناطق شعبية بأكملها بؤراً للفقر والبطالة ولا ينظر إليهم إلا كخزان بشري أيام التجييش المذهبي والانتخابي.

ويوم أطلق على المدينة لقب ( عروس الثورة ) بعد السابع عشر من تشرين أول من العام ٢٠١٩، كان ذلك لما تختزنه ذاكرتها من حنين للاستقرار وانتماء غير محدود للوطن.
كل ذلك لم يغفر لها أن تكون على خارطة أمراء الطوائف والمذاهب، مدينة تستحق الحياة وأنموذجاً لعيش وطني واحد تتجمع فيها كل مكونات الشعب اللبناني وأطيافه وتلاوينه
وطبقاته الاجتماعية.

وحين استكثروا عليها كل ذلك حاربوها بالمزيد من التهميش والإهمال المتعمد وإلصاقها بكل ما هي بريئة منه من تطرف وخروج على القوانين.

هم أياهم من استدرجوا أبناءها إلى مواجهات مرفوضة ومستنكرة ليالي ٢٧ و٢٨ و٢٩ من شهر نيسان المنصرم حيث أخضعوا وأشقاءهم في الجيش اللبناني إلى صدامات حادة تخللها أعمال عنف وإحراق لواجهات المصارف واستخدام الأسلحة البيضاء والمفرقعات وقنابل المولوتوف في ساعات من العتمة دخلت فيها ممارسات غربية عن توجهات أبناء المدينة وناشطيها،و عن شبابها المثقف الغاضب الذي أمضى أشهراً في الساحات العامة يحمي انتفاضة الطرابلسيين ويحرص على سلميتها في مواجهة كل من يعمل على حرفها عن مسارها الديمقراطي السلمي المشروع.

كان على الأجهزة الأمنية تدارك كل ذلك، وهي التي تحصي أنفاس اللبنانيين ليلاً نهاراً ولا يخفى عليها دبيب النمل على كل شبر من أراضي لبنان.

وكان على السلطة أن تدرك أن المعركة في مواجهة الجوعى والفقراء هي معركة خاسرة بكل المقاييس وفيها تسقط عروش وأنظمة استبداد وسياسات جائرة.وعليها أن تعترف أن زجها للفقراء في مواجهة أبناء الفقراء من العسكر، لا يخدم سوى من يستفيد في التحكم بمصائر الناس وحاضرهم ومستقبلهم، المتربع على عرش الفساد والمتسبب في إفقار الناس وإفلاس الخزينة.

إن طرابلس، العصية على كل ترويض وتطويع وتركيع، هي طرابلس التي تفتح قلبها لكل من يتماهى مع معاناتها وهمومها وتوقها إلى مستقبل كريم يليق بكرامة وكبرياء أبنائها.

طرابلس لا تؤخذ بالحلول الأمنية ولا بالمعالجات البوليسية وإنما تحتضن بمحاربة الفقر والبطالة والتهميش.

وبدون ذلك، لا يفكرنّ أحد باحتواء المدينة، ولا يغرّنه بحرها المتوسطي الهادئ الأبيض وأمواجه المتهادلة ، فتحت هذا البحر يكمن الف بركان وبركان في لحظات الغضب.





الخميس ٢٨ رمضــان ١٤٤١ هـ   ۞۞۞  الموافق  ٢١ / أيــار / ٢٠٢٠ م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب نبيل الزعبي نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة