شبكة ذي قار
عـاجـل











الابعاد النفسية والأخلاقية للحرية

الحرية هي الحد الأقصى لاستقلال الإرادة العالمة بذاتها، المدركة لغايتها، وإذا كانت الحرية مضادة للهوى والغريزة، دلت على حالة إنسان يحقق بفعله ذاته العأقلة والفاضلة.

ويعتقد المثاليون، كما جاء في الموسوعة الفلسفية إن الحرية والضرورة مفهومان يستبعد كل منهما الآخر ، ويعتبرون أن الحرية هي تقرير الروح لمصيرها، وحرية الإرادة وإمكانية التصرف يتم وفق إرادة لا تحددها الظروف الخارجية.لكن، كما جاء في الموسوعة ذاتها، فإن التفسير العلمي للحرية والضرورة يقوم على أساس تفاعلهما وتداخلهما الجدلي، وقد قدم الفلاسفة تصوراً دقيقاً للوحدة الجدلية بينهما إنطلاقاً من مواقف مثالية.حيث يعتقدون أن الضرورة الموضوعية هي أولية وأن ارادة الإنسان ووعيه ثانويان مشتقان منها.

فالضرورة توجد في الطبيعة والمجتمع على شكل قوانين موضوعية.فالقوانين غير المدركة تكون ( عمياء ).ففي بداية تاريخ الإنسان، حيث كان غير قادر على استكشاف كنه أسرار الطبيعة، ظل عبداً للضرورة غير المدرَكَة وكانه غير حر.وكلما ازداد الإنسان عمقاً في إدراك القوانين الموضوعية سواء كانت طبيعية أم اجتماعية أم سياسية كلما ازداد نشاطه حرية ووعياً.ومن جهة اخرى فقد جاء تعريف الحرية عند الفكر الليبرالي الأوروبي، على انها غياب الإكراه والقيود التي يفرضها طرف على آخر، فالإنسان حر عندما يكون قادراً على اختيار هدفه وطريقه ، وأن لا يكون مرغماً على اختيار ما لا يريد أن يختاره من خلال خضوعه لإرادة شخص أو دولة أو أية سلطة مجتمعية.وهذا ما نسميه بالحرية السلبية لانها تعتبر الحرية شئ مطلق لا يحدده شئ بما فيها مصلحة المجموع.لكن، لكي تكتسب الحرية الفردية مفهومها الصحيح، وهو حرية اختيار الهدف والطريق، يشترط أن يكون الاختيار واعياً، فكيف يتحقق الاختيار الواعي؟

الحرية والاختيار الواعي :
يشكل التعليم والثقافة، بتوسيعهما لقدرة الإنسان على الاختيار والقرار، شرطاً أولياً مهماً من شروط ممارسة الحرية، فالمعرفة تطور قدرة الإنسان على الافعال الحرة والتصرف الحر والموضوعي في نفس الوقت.فالحرية في بعدها الفلسفي الخالص، استناداً إلى ما عددناه من تعريفات، هي حرية مطلقة تتنافر مع مبدأ الضرورة الطبيعية والاجتماعية.أما الحرية في بعدها الاجتماعي المسؤول ، فهي حرية نسبية، من شروطها الخلاص من القسر والإكراه، على أن لا تتنافى مع الأعراف والقوانين الاجتماعية السائدة المشروطة بالوعي والمعرفة من قبل الفرد.

وهنا نتوقف للسؤال ما هي الثقافة المطلوبة للأعراف والقوانين؟ هل هي ثقافة المجتمع السائدة؟ أم هي ثقافة النخبة من الناس؟ وكيف يكون الأمر فيما لو تناقضت مفاهيم المعرفة عند الأفراد، مع الثقافة السائدة؟

وبصورة عامة كلما كان المجتمع متقدماً، يؤمن للفرد طرائق متقدمة لاكتساب ثقافة مجتمعه، وكلما تقدمت وسائل التعليم وطرائقه تسهم في تطوير ثقافة الفرد وتعمقها، ساعتئذٍ تتراكم العوامل الثقافية التي تؤهل الفرد إلى الوصول للمستوى الذي يصبح فيه قادراً على الاختيار الواعي، أي الاختيار الحر الذي يشبع قناعته الذاتية على أن لا يتخطى دائرة حقوق الآخرين ومصلحة المجتمع.

اشكالية الفكر الجديد وقناعة المجتمع
ويتميز كل مجتمع بثقافته الخاصة، ولأن ليس كل أفراد المجتمع يقتنعون بهذه الثقافة يظهر في داخل كل مجتمع عدد من الرافضين لها، كلياً أو جزئياً.هذا الرفض قد يؤدي إلى إنتاج فكري جديد، فإذا أخذ طريقة في اقناع آخرين بصحته، يتشكل حينئذ تجمعاً ثقافياً متميزاً في داخل مجتمعهم يروِّجون فيه لفكرهم الجديد.فإذا كان الفكر الجديد بمستوى من العمق يجيب فيه على حل مشكلات كثيرة في المجتمع ، فإنه يشق طريقاً لكي يأخذ موقعاً في التراث الثقافي للمجتمع بما يُسهم في تطويره أو تغييره.وتصبح الثقافة الجديدة، أكثر جدية، عندما تتحول إلى مشروع سياسي او مجتمعي قابل للتنفيذ.وهنا تتحول هذه الثقافة إلى دائرة الالتزام في داخل التجمع البشري الذي يعمل على تحقيقها.

الثقافة الملتزمة وحرية اختيار الهدف والوسيلة
فالثقافة الملتزمة، من هنا، تحمل عنصرين أساسيين وهما : حرية اختيار الهدف، وحرية اختيار الوسيلة لتحقيقه.لكن الثقافة الملتزمة تثير إشكالية حول مفهوم الحرية في بعدها الفلسفي وتتمثل فيما يلي :

كيف يستطيع الإنسان اًلملتزم ان يوفق بين الحرية الفردية، وبين القيود التي يفرضها التجمع الذي انتسب إليه؟.هنا تحقق الحرية الفردية ذاتها في اختيار الهدف ، وقد تم دون ضغط أو إكراه.لكن المشكلة تنبع عندما ينتقل الفرد إلى المرحلة الثانية وهي اختيار الوسيلة أو الطريق الذي على أساسه سوف يعمل لترجمة خياره الفكري إلى واقع عملي، فهل يتم هذا الاختيار فردياً أم جماعياً؟

بداية، لا يمكن للفرد أن يحوِّل أفكاره إلى واقع عملي دون الاستعانة بالآخر، ومن هنا تواجه حرية الاختيار الفردي تحديا إذا اصطدمت بحرية الاختيار عند الآخرين، خاصة إذا انقسم أفراد الجماعة الواحدة حول تحديد وسائل التنفيذ إلى أكثر من فريق؟

ولان الثقافة التي تجمع أفراداً كثيرين، تتحول إلى ثقافة ملتزمة لأنها تحمل إمكانية التطبيق ، عندها يكون للتنفيذ شروط، منها : ضرورة امتلاك وسائل القوة الكفيلة بتحقيق الأهداف المختارة جماعياً.فوسائل القوة لها شروط العمل الجماعي، فإذا لم يقتنع فريق أو فرد من الجماعة بوسائل التنفيذ التي أختارها فريق آخر من داخل الجماعة الواحدة، فسوف تواجه هذه الجماعة عددا من الأحتمالات منها :

- إما أن ينخرط الفرد أو الفريق في التنفيذ حسب الوسائل التي اختارها الفريق الآخر، وهنا تفتقد حرية الاختيار الإرادي ، وهذا ما يتعارض مع البعد الفلسفي للحرية.

- وإما أن يبتعد الفرد / الفريق عن التجمع لأنه غير مقتنع بالطريق الذي حدده الفريق الآخر ولأن هذا الطريق لا يعبر عن الاختيار الإرادي.وانه في ابتعاده هذا يكون قد أنقذ حقه في الاختيار الحر.

ومن هنا ولكي لا يختل التوازن بين الحرية الفردية ( في اختيار الهدف الفكري ) وبين الحرية الفردية ( في اختيار وسيلة تطبيقه ) ، جاءت الاليات الديمقراطية لكي تجيب على هذه الإشكالية.

٢ - في البعد السياسي– الاجتماعي للحريـة ( الديمقراطية ) :
جاء في القواميس الفلسفية حول الديمقراطية ما يشير الى ان معنى الديمقراطية هي سيادة الشعب، باعتبارها نظام سياسي تكون فيه السيادة لجميع المواطنين لا لفرد أو لطبقة واحدة منهم.ولهذا النظام ثلاثة اركان هي :

الأول : سيادة الشعب.
والثاني : المساواة والعدل.
والثالث : الحرية الفردية والكرامة الإنسانية.

وتكون هذه الاركان الثلاثة متكاملة، فلا مساواة بلا حرية، ولا حرية بلا مساواة، ولا سيادة للشعب الا إذا كان افراده أحراراً.

إن كل نظام سياسي يعتبر إرادة الشعب مصدراً لسلطة الحكام هو نظام ديمقراطي، إلا أن إرادة الشعب في الواقع هي إرادة الأغلبية فيه.

فالديمقراطية، إذن كما جاء في الموسوعة السياسية، هي نظام سياسي - اجتماعي يقيم العلاقة بين أفراد المجتمع والدولة وفق مبدأي : المساواة بين المواطنين، ومشاركتهم الحرة في وضع التشريعات التي تنظم الحياة العامة.

فإذا كانت الحرية في بعدها الفلسفي هي الإرادة الحرة على بناء مجموعة من الأفكار أو اختيارها اختياراً حراً.وشعور الفرد، بعد اعتناقه لها أو الإسهام في انتاجها، أنه غير مقيد أو مُكرَه باختيارها أو الاعتقاد بها.وإذا كانت هذه العملية الفكرية مرتبطة بتوليد إحساس ذاتي بالسعادة وتحقيق الذات، فإنما الديمقراطية تبحث عن تجسيد هذا الاحساس في صورة العلاقة بين الأنا والآخر ( اي بين الفرد والمجموع ) ، العلاقة التي لن تولد إحساساً بالسعادة إلا إذا حافظت على التوازن، في تأمين السعادة الذاتية وسعادة المجموع.

فالديمقراطية تفتش عن الوضع الأفضل الذي يتحقق فيه البعد الفلسفي للحرية بنتائجها الفكرية والنفسية على الأنا وعلى الآخر ( المجتمع ).فهي، بهذا المعنى، تفتش عن أفضل إطار سياسي واجتماعي ممكن يستطيع أن ينظم العلاقة بين الأنا والآخر بشكل يطلق إرادة الحرية لدى الفرد ويمنع طغيان إرادة على أخرى.ومن هنا برزت معادلة الديمقراطية – المركزية ،فما هما طرفي معادلة الديمقراطية – المركزية؟

ثالثاً : طرفي معادلة الديمقراطية – المركزية

أ‌ - الديمقراطية :
يرتبط مفهوم الديمقراطية إذن، مع عوامل فكرية وسياسية واقتصادية واجتماعية.وهذه العوامل يفترض وجودها في بناء العلاقات بين الإنسان والآخر.

فالفرد الواحد هو كيان مستقل بذاته، وعدة أفراد يشكلون مجتمعاً تتمايز طبائع أفراده ورغباتهم وحاجاتهم الفكرية والسياسية والاقتصادية، وكل منهم يشعر أنه يجب أن يعبر عن حريته وأن يمارسها.ولكي لا تتصادم طرائق التعبير والممارسة للحرية الفردية، جاء المفهوم الديمقراطي ليقوم بدور التوفيق بين الحريات الفردية التي بمجرد اصطفافها في اطار مجتمعي، تكتسب صفتها الاجتماعية، ثم صفتها الاقتصادية والسياسية .. الخ.

ويأتي الدور التوفيقي بين الحريات الفردية الذي يلعبه المفهوم الديمقراطي كتسوية بين حرية الفرد وحرية الآخر ليقدم كل منهما تنازلات للآخر.وكلما كانت التشريعات قادرة على تأمين التوازن والدقة في التنازلات كلما أصبحت المعادلة قابلة للاستمرار.وكلما اختل التوازن يتخلخل البناء الديمقراطي ويصاب بالاهتزاز.

فالمفهوم الديمقراطي في إطاره النظري، هو إقامة تسوية ما بين الأفراد.أما في حالة تطبيقه فتظهر صعوبة في تأمين التسوية العادلة ما بين الحقوق والواجبات الفردية، وهنا تظهر الحاجة المبدئية للتطوير في أن لا تكون التشريعات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية جامدة ، وإنما يجب أن تحمل إمكانية الحركة والقدرة على تطويرها كلما برز الاختلال في التوازن بين الحريات الفردية.

من هذا المنظار، وكي لا تصبح مسألة إعادة التوازن، الهدف المراد تحقيقه من تطوير التشريعات، ميكانيكية مادية تدفع الفرد كي يتسلط للحصول على مكاسب على حساب الآخرين، يأتي المفهوم الأخلاقي رادعاً معنوياً، لكي يلعب دوراً ذاتياً كابحاً ضد الانزلاق في دائرة التسلط الفردي.

ب - المركزيـة :
إن التشريعات كما الرادع الأخلاقي لا يمثلان سوى سلطة معنوية ليس لها قوة إقامة الحدود ومنع الحريات الفردية من الطغيان على الحريات العامة.لذلك كان لا بد من سلطات مركزية يتم اختيارها اختياراً حراً من قبل الأفراد، كتعبير عن الحرية الفردية، لكي تمارس قوة الرقابة على تنفيذ التشريعات الديمقراطية.

ومن اجل ان لا تتحول المركزية إلى أداة للتسلط او الهيمنة او الاكراه ، يأتي بناء المؤسسات الديمقراطية وآليات ممارستها، كضمان لتحقيق التوازن المطلوب.

يتبع لطفاً ..

مكتب الثقافة والاعلام القومي
١٣ / ٣ / ٢٠٢٠





السبت ١٩ رجــب ١٤٤١ هـ   ۞۞۞  الموافق  ١٤ / أذار / ٢٠٢٠ م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب مكتب الثقافة والاعلام القومي نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة