شبكة ذي قار
عـاجـل











في العام ٢٠١١، عندما طرح اللبنانيون شعار إسقاط النظام الطائفي، لم يكن من المتعذر على الطبقة السياسية الحاكمة إجهاض هذا التحرك بالتغلغل وسط الحراكيين وتبني مطالبهم وكأنها مطالب الحاكمين، ولا عجب في كل ذلك حيث أنه في بلد مثل لبنان، تستطيع أن ترفع الشعار مهما كان برَّاقاً وصادقاً، وتلجأ إلى العمل بعكس ما يهدف إليه وبالتالي تمكن الساسة اللبنانيون بأحزابهم الطائفية والمذهبية التمديد لأنفسهم السنوات التالية على حراك العام ٢٠١١ واستطاعوا خلالها نهب ما يمكن نهبه من مقدرات البلاد وخيراتها فصادروا مع ما صادروه من ثروات لبنانية فوق الأرض وتحتها، إرادة الطلائع اللبنانية المؤهلة للاعتراض مبتدئين بالاتحاد العمالي العام الذي لم بعد يمثل من الطبقة العاملة اللبنانية سوى الاسم او "الكليشيهات" فحسب، مروراً بهيئة التنسيق النقابية التي اجهضوا فيها كل صوت نقابي معارض فأجهزوا على قيادات نقابية معروفة بإحلال البدائل المطواعة مكانها وتراءى لهم أن الشعب اللبناني لن يخرج عن كونه مطية في نظرهم يستطيعون توجيهه بالشكل الذي يريدون كما توجه الرياح السفن.

وفي العام ٢٠١٩، يسجل للشعب اللبناني يقظته المتأخرة على كل ما تقدم مستفيداً من خبرات متراكمة ومعاناة متلازمة جعلت شعار "كلن يعني كلن" هو الحل الأمثل لإسقاط هذا النظام، حيث أنه بدون إسقاط هذه الطبقة الحاكمة لا يمكن لهذا النظام الفاسد أن يسقط، وكانت انتفاضة السابع عشر من تشرين الأول التعبير الثوري المطلوب الذي لطالما انتظره اللبنانيون، فإذا به يتحقق على أيدي شرائح الشعب اللبناني كافة، والمتعددة بتعدد مراحل وأشكال القسوة الاجتماعية والاقتصادية التي يعانون منها.

وبدخول الانتفاضة اللبنانية شهرها الخامس منذ أيام، استطاعت على مدى الأيام التي أعقبت السابع عشر من تشرين الأول تحقيق ما لم يكن بالإمكان تحقيقه على مدى سنوات وعقود وليزيد من صدق شعاراتها الكارثة المالية والاقتصادية التي استفاق اللبنانيون عليها وهم يراجعون مدَّخراتهم في المصارف أو ينزلون إلى الأسواق لشراء حاجياتهم الغذائية، ليكتشفوا مستوى الإجرام الذي لحق بهم على أيدي هذه الطبقة الحاكمة، وإن الفساد لم يكن شأن أفراد أو كيانات سياسية وحزبية معينة وحسب وإنما عمل احترافي لصوصي لطبقة سياسية بأكملها لم تكتف بمصادرة آمال اللبنانيين في ماضيهم وحاضرهم، وإنما تجرأت أيضاً على ما تبقى لهم من رمق حياة لم تعد تنبض سوى بالهلع والخوف والقلق على مصير ما هو قادم من أيام.

ومع التشكيل الحكومي الجديد الذي فضح كل ما هو مستور لدى هذه الطبقة الحاكمة بإحلالها البدائل ( الدوبلير ) في المواقع التي أوهمت الناس أنها تخلت عنها، لتقدم ما هو أسوأ، عبر الاستعانة بالموظفين التابعين الذين شربوا من نبع الفساد الذي أفادهم منه أولياء نعمتهم، وليعمدوا فيما بعد إلى التنصل من هذه الأكذوبة التي ضحكوا بها على اللبنانيين، فإذا بهم يلجأون إلى أخطر ما يمتلكونه من أسلحة خطيرة يواجهون من جديد بها انتفاضة الشعب الغاضب بغرض إجهاضها عبر إعادة إنتاج سلطتهم فكان اللجوء إلى الخطاب السياسي المتشح بالطائفية والمذهبية كأقرب الطرق إلى تحقيق ما يعيد إليهم القدرة على استغباء الناس والعمل على تحريك الغرائز التي تتفتح من خلال التخويف من الآخرين وامتشاق سلاح الدفاع عن حقوق الطائفة المهدورة والمذهب المغيب واستدرار العواطف المريضة، بنبش ما أمكن نبشه من ذاكرة البسطاء الذين راهنوا دائماً على طيبتهم ولكي يتوفر كل ذلك لهم على بساط من حرير، كان لا بد للطرف الآخر أيضاً من استكمال هذه الخديعة بشعارات طائفية، ومذهبية مماثلة، ثم اللجوء إلى إضفاء صفات الطهارة على من يمثل دون أن يتوانى عن حمل السلاح الأبيض والاعتداء على الناس الذين يخالفونه الرأي وهم يتشبثون بمحاسبة الكل دون استثناء، لأي موقع أو طرف أو جهة انتموا وهي التي تشاركت جميعها في دفع البلاد نحو ما هي عليه اليوم من إفلاس وجوع وإملاق.

ثم، ماذا أن ينبري رجل دين في موقع مسؤول، ليدافع عن رجل السياسة مقدماً الولاء الديني له على أي ولاء،

وماذا أيضاً أن ينبري رجل دين آخر مقدماً كل ما يمتلك من هالة طائفية كي لا يتم المس بالموقع المسؤول الذي يعتبره من حصة الطائفة، وكلا الرجلين يغمضان أعينهما عن مطالب الناس ومعاناتهم وتجهيل المسؤول عن كل ذلك، فيما ضجت وسائل الإعلام مؤخراً بأكثر من رجل دين من هذا المقلب أو ذاك، خرج على المؤسسة الدينية الرسمية وقال في هؤلاء المدّافع عنهم، ما لم يقله حتى المواطن العادي الغاضب المتفلت من كل مسؤولية كلامية، الأمر الذي يؤكد أن التغيير المطلوب صار بيد كل العابرين للطوائف والمذاهب والمناطق وإن الشباب والشابات الذين يفترشون الساحات العامة ليل نهار كسروا كل حواجز الطائفية اللعينة وهم يرنون إلى إقامة الدولة الوطنية العادلة القائمة على المساواة بين جميع أبنائها والإنماء المتوازن لقراهم ومدنهم والشعور بالأمان نحو مستقبل أولادهم وأحفادهم.

إن كل جرعات البقاء على قيد الحياة لهذا النظام الطائفي قد تم استنفادها بعد أن ثبت عدم نجاعتها وملاءمتها للواقع اللبناني المريض المطلوب تغييره ولم يتبق لهذا النظام سوى الخطاب الطائفي الذي يمثل خشبة النجاة وللأسف، لكل هذه المروحة الكبيرة من الفاسدين التي يهمها تسعير هذا الخطاب بالتناغم والتوافق مع أية جهة كانت، شرط أن تكون طائفية ومن قماشة هذه الطبقة،

وبالتالي فإن تواصل الساحات اللبنانية من أقصى الجنوب إلى أقصى الشمال مروراً بالعاصمة والبقاع والجبل وانفتاح الشباب اللبناني على بعضه البعض هو جل ما تخشاه الطبقة الحاكمة وهذا ما يجب أن يبقى ديدن الثائرين اليوم وغداً وهم يواجهون الخطاب الشعبوي السياسي الذي يطل عليهم من جديد، عبر فضح مراميه وغاياته التي لم تعد خفية على أحد، والتحذير من أي انزلاق طائفي جديد لن يعيد الساعة إلا إلى الوراء، فبمعاناة الناس يتوحد اللبنانيون وبوحدتهم تنتصر قضية التغيير الحقيقي، وهي آتية لا محالة.





الثلاثاء ١ رجــب ١٤٤١ هـ   ۞۞۞  الموافق  ٢٥ / شبــاط / ٢٠٢٠ م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب نبيل الزعبي نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة