شبكة ذي قار
عـاجـل










١ ــ أبرز معالم الانتفاضة الثورية في لبنان هو دخول جيل جديد معترك الشأن العام، والحياة السياسية التغييرية تحديداً، وهو جيل الشباب المؤمن بقضاياه التي تجعله يحاول ويسعى إلى إنجاز مطالبه المتفقة مع حاجاته ومع تفكير عصره الجديد وعلى المستويات كافة مما يعني الانطلاق لمرحلة وأد الحرب الأهلية التي كان يستخدمها ملوك الطوائف لتثبيت عروشهم.هذه الحرب المتناقضة مع حاجات الأجيال وضمان سلامة مستقبلهم.وهذا الفعل المتقدم الذي تنجزه الحركة الشبابية اللبنانية أسقط مقولة غرامشي :

" منذ عام ٢٠١١ ، تمر منطقة المشرق بما وصفه المفكر الإيطالي أنطونيو غرامشي : "القديم يموت والجديد لا يمكن أن يولد ". ومما يثبت خطأ مقولة غرامشي في استقراء الحراك المطلبي والسياسي لما يحدث في "المشرق" أن هناك قوى شبابية مؤمنة بمحاربة الفساد والمفسدين شقَّت عصا الطاعة، وخرجت على إرادة قوى أساسية في السلطة وأركانها، كما جاء في عدد Le Mondeالصادر بتاريخ ٢٥ تشرين الأول، تحت عنوان لافت للقارئ الفرنسي في إشارة إلى المظاهرات التي شهدتها مدينتي صور والنبطية،فاعتبر مراسل الصحيفة في بيروت بنجامان بارت أنالتحركات التي عرفتها هذه المنطقة تعتبر سابقة.وذلك تبعاً لظروف القوى السياسية المهيمنة على تلك المنطقة.

وكانت هذه الانتفاضة ذات وعيٍ لجمَ القوى المتضررة من التدخل، وتجلى هذا الوعي بسلمية الانتفاضة والتي مضى عليها أكثر من ثلاثة أسابيع، ولا تزال شعاراتها "كلنا للوطن، للعلى للعلم" حتى ألبسة الآلاف من المتظاهرين كانت مغطاة بالعلم اللبناني، ولم تشهذ هذه الانتفاضة عنفاً، وكان للجيش اليد الطولى والعالية في حراسة سلمية هذه الانتفاضة التي كتب لها أن تكون بداية لتاريخ لبناني جديد قائمٍ على أنقاض لبنان كان بطائفيته مسرحاً للفتن وللسرقة ولاقتسام المناصب على أساس الدين والمذهب والطائفة، وليس على أساس الاختصاص والأهلية والكفاءة.

لقد أرستْ انتفاضة ١٧ تشرين الأول معالم بناء نظام جديد بقطيعة تامة مع النظام الذي بناه قادة الطوائف.والتغييرات ستظهر حتماً، حتى ولو تأخرت،لأن إرادة الشعوب أقوى من إرادة السلطات التي تكمن إرادتها في جيوبها وبنوكها وشركاتها العابرة للوطن إلى القارات، بينما تكمن إرادة المنتفضين في الرؤوس المنتصبة المؤمنة بوطن لا يحكمه السماسرة والعشّارون وحرّاس الهيكل.

ومن أبرز مطالب هذه الانتفاضة المباركة :

محاربة الطائفية، دولة علمانية، محاكمة الفاسدين، استرداد الأموال المنهوبة، إقرار قانون مدني للأحوال الشخصية، استقلال القضاء، حقوق المرأة، لا سيّما حقّها في إعطاء الجنسية لأولادها وحقّها في حضانة أطفالها.فرض ضرائب على المصارف وعلى الأغنياء، وقف التعديات على المساحات العامّة والأملاك البحرية، استعادة وسط مدينة بيروت، الذي استملكته شركة خاصّة منذ بداية التسعينيات، وغيرها، من المطالب الأساسية البديهية

٢ ــ أزمة نظام أولاً

وتميزت صحيفةLe Figaroبتغطيتها من خلال فتح صفحاتها لما يحدث في لبنان، ومؤكدةً أنّ لبنان يعيش أزمة نظام قبل أنت تكون أزمته اقتصادية. وهذا ما أربك السلطة في كل مواقفها وتصرفاتها التي حالت دون تعاملها بعقلانية مع الحدث، معتبرةً أن المطلوب بالدرجة الأولى حلول سياسية قبل الاقتصادية. إن ما يحدث في لبنان يهدف إلى التغيير في المفاهيم الطائفية السياسية ونقلها إلى مفاهيم المواطنة والمدنية بإلغاء الطائفية وكل أشكال تفرعاتها في النظام.

صحيحٌ أن المشهد اللبناني بات سياسياً بالدرجة الأولى، لكن ذلك لم يمنع صحيفة Les Echos من التركيز على الجانب الاقتصادي.فهذه الصحيفة الاقتصادية تراقب منذ مدة التطورات الأخيرة في البلاد، وترى هذه الصحيفة أن الوضع الاقتصادي المتردي أوصل لبنان إلى مرحلة لا يستطيع تحمل تبعاتها.

إلى جانب تشريح Les Echos لحالة لبنان الاقتصادية وربطها بمؤتمر سيدر، كان لجاك هوبير روديه تحليل أخرج فيه الحدث من اطاره الداخلي الصرف،فربط ما يجري في لبنان بالحركات الاحتجاجية في أصقاع العالم من هونغ كونغ إلى بغداد والخرطوم والجزائر مروراً بباريس وبرشلونة وصولاً إلى سانتياغو.برأي روديه القواسم المشتركة بين هذه الأحداث كثيرة : هي تعبيرٌ عن حالة من عدم المساواة الاجتماعية ليس فقط بين الميسورين والفقراء، بل أيضاً بين الطبقة الميسورة والمتوسطة، هذه الأخيرة التي همشتها العولمة.

٣ ــ علاقة الأزمة اللبنانية بأزمة المنطقة :

لا يمكن فهم أزمة لبنان بشكل دقيق دون الأخذ بعين الاعتبار علاقات لا يمكن الانزياح عنها تربطه مع جيرانه ومع العالم.وفيما يخص لبنان، فإن الانفتاح التجاري يقابله التبعية المالية لرؤوس الأموال الدولية.ويشكل توفر رؤوس الأموال والموارد المرتبطة بالاغتراب تعويضاً جزئياً لعدم التوازن في اقتصاد البلد، الظاهر في الدين الحكومي الخارجي المتزايد والمقلق.

وتواجه مكانة لبنان على الصعيد الإقليمي الهشاشة ذاتها، فمن خلال دوره كنقطة تغلغل مفضلة للرأسمالية الغربية، وكمحطة نحو الدول العربية الأخرى، وكمركز مالي محوري، فإن لبنان يعاني اليوم من التأثيرات المتراكمة لتهميشه خلال الحرب الأهلية وتحول الحركة الاقتصادية لمصلحة دبي التي أصبحت بوابة الدخول الإقليمية الجديدة في المنطقة

٤ ـــ عدم قدرة السلطة على استيعاب ما يجري والتعامل معه :

السطة في لبنان قائمة على أسس غير صحيحة، إنها قائمة على الطائفية التي جعلت كل شيء خاضعاً للمحاصصة، إن المحاصصة في النظام اللبناني هي في حقيقتها توزيع المغانم والمناصب على ملوك الطوائف، وترك فُتات المحاصصة للأتباع، إذن، هي في حقيقتها أبعد ما يكون عن الدين.فالطائفية في النظام اللبناني القائم لا تعني أكثر من المحاصصة التي تشرع النهب بالاعتماد على الطائفة والمذهب، وهي أبعد ما تكون عن المعتقد الديني، وهي موجودة كالسرطان، وفي كل مجالات ومؤسسات السلطة وتعاملها مع المستجدات.

وبناء على منافع هذه الطائفية النابعة من المحاصصة المشبوهة لا تستطيع السلطة أن تفهم ما يجري على أرض الواقع في الساحات والشوارع والمدارس والطرقات، وهي في الوقت ذاته لا تريد أن تفهم هذا الجديد، ولن تفهمه السلطة إلا مكرهة، وعلى حساب امتيازاتها المشبوهة التي اكلت جسد الوطن ولم تبقِ منه حتى العظم .. اليوم يعيش لبنان حالة تغييرية يقودها الشعب بفئاته الشابة خارج كل الأطر الفاسدة والموروثة، وهذه الحالة التغييرية تقاد بعقلية سلمية بعيدة عن كل أشكال العنف، وهذا الاتجاه السلمي الذي تتبناه الانتفاضة أكسبها احترام العالم كله.وكل هذا الابتكار اللبناني الآخذ في التقدم والتطور وإثبات نفسه يوماً بعد يوم، بتحركات فعالة تفهم حركة الواقع وتفهم كيف توجه حراكها وانتفاضتها، ومع ذلك فالسلطة في وادٍ والشعب المنتفض في واد.ولا تستطيع السلطة أن تجد أي مجال للتعاطي معه بطريقة جدية، إنما يستمر منطق الهروب الى الأمام.فمنذ اليوم الأول قال رئيس الجمهورية عون إنه لن يرضخ لهذه التحركات والاحتجاجات، وكان في ذلك مصرّاً على عدم إعطاء أي تنازل للمنتفضين، لأن ذلك سيثبت أن سقوط السلطة بمفهومها المحاصصاتي قد ولّى إلى غير رجعة.

لا بدّ من العودة إلى مصلحة الوطن أولاً والمتمثلة باقتلاع الفساد والمفسدين، وعدم الارتباط بأوضاع إقليمية أو دولية تؤذي هذا الوطن الذي تحمل ما لا يستطيع تحمله.يجب أن يكون أي تعاون مع الخارج هادفاً إلى مصلحة الوطن أولاً، وهذا يعني أن كلّ الجهات الخارجية هي مرفوضة، لأنها تريد مصالحها أولاً، ولا يهمها أن يتهدم في النهاية كل من تعاون معها في تحقيق غاياتها وأهدافها.ولذا يجب على المؤمن بوطنه أن لا يرتبط بالخارج، إذا كان يريد الحفاظ على وطنه.إن الارتباط بالخارج أول ما يتناقض مع مصلحة الوطن.وعلى هذه القوى مهما كان حجم الترابط معها عدم التلاعب بمصير وطن مزقته الطوائف والمذاهب، يجب أن يكون الوطن وحده صاحب الولاء، وأن يكون على حق دائما.

ومن دلائل عجز السلطة أن التحقيقات التي تجري تعتبر إنجازاً للانتفاضة، وتبيانا لعيوب السلطة واهتراء مؤسساتها، ويجب ألا تستثني التحقيقات أحداً مهما علا شأنه إذا كان منخرطاً بالفساد، وعليها أن تبدأ من قمة الهرم، والذي تثبت براءته ستكون رصيداً له لا يُضاهى، ولا يجوز الإدانة إلا بعد الإثبات، مع أن السلطة منخورة بالفساد المزمن الذي لا يمكن اقتلاعه إلا باقتلاعها.

٥ ــ على الانتفاضة أن تنتبه لظاهرة غلاء الأسعار التي تهدد السلم الاجتماعي، والمطلوب من الانتفاضة أن تنسق بوعي عبر أطرها الخاصة بها لمنع تفشي الغلاء الذي سيؤثر على الناس كثيرا، وعلى الانتفاضة كنتيجة. وربما فكرت السلطة في أن تستفيد من استفحال ظاهرة الغلاء لتوظفها ضد المنتفضين، وكأنها تقول للناس : هذا من حصاد الانتفاضة.إذن لا بد من التنسيق بين الانتفاضة والنقابات وكل المؤسسات ذات الشأن المتعلقة بسلامة خطا الانتفاضة لكي لا ينعكس هذا سلبياً عليها.وعلى السلطة أن تعي القول الشائع : "والويل للظلم من جوعٍ إذا ثأر".أضف ذلك إلى ما تصاب به الليرة اللبنانية في زمن الدولار الذي يبحث عن أسباب حربٍ جديدة.إن استمرار تعنت السلطة وعدم قدرتها على استيعاب ما حدث سيؤدي إلى انهيار اقتصادي مدمر، ووقتها لن تنفع كل وسائل العلاج المتأخرة.والسلطة ترى بوضوح مسألة الغلاء والتلاعب بالأسعار، وكأن ما يحدث هو صائرٌ على كوكب آخر.إن عجز السلطة لا يُرمَّم إلا بإسقاطها، الواضح أن أركان السلطة لا يريدون تقديم أي تنازل للمواطنين المنتفضين، لأن التنازل يعني انهيارهم.وخصوصاً في السياسة، نعم السياسة التي هي وحدها المسؤولة عن الوضع الاقتصادي الصعب.

إجرائياً لا تزال السلطة تفكر بنفسها، وتحاول أن تنقذ نفسها، والبلد على حافة انهيار سياسي واقتصادي.والمراقب لهذا الطلاق القطعي الحاصل بين السلطة والانتفاضة الشعبية يستطيع أن يؤكد استحالة اللقاء بين سلطة مشغولة بنفسها وبين انتفاضة مشغولة بمطالب الشعب.حيث / يسأل الفقراءُ عن سعر الرغيف / ويسأل التجار عن سعر الذهبْ /

٥ ــ مراهنات السلطة :

لقد راهنت السلطة على أن الفتنة ستأكل الانتفاضة، وباستمرار الانتفاضية وصوابية سلوكها سقطت رهانات الدولة على إجهاض الانتفاضة.تلك الانتفاضة التي جمعت معظم الشعب اللبناني في ١٧ أكتوبر ( تشرين الأول ) الماضي، الذي خرج ثائراً متظاهراً من أقصى الشمال السني، إلى أقصى الجنوب الشيعي، وفي النبطية وصور مروراً بالجبل المسيحي والدرزي، وهاتفاً بصوت واحد : لا مسيحي ولا مسلم ولا درزي بل لبناني، وأن المطلوب هو إسقاط كل المنظومة السياسية التي أوصلت لبنان إلى الدرك الأسفل من الانهيار ، وجعلت منه مزرعة لمجموعات من السياسيين الذين نهبوا البلد.صحيح أن بعض الناس لم ينزلوا إلى الشارع، ولكن الجميع كانوا مع القضايا المطلبية التي نزل الشارع اللبناني لإجبار السلطة على قبولها.وحتى الذين كانوا في دواخلهم ضد هذه الانتفاضة كانوا يضطرون إلى الإعلان عن شرعية هذه المطالب.ويجب الانتباه إلى أن الخطورة وصلت إلى الشركات والمصارف والمؤسسات التجارية لأن سوق إنتاجها وتصريفها يكاد يكون متوقفاً.إن الجميع يفكرون الآن بالخلاص.وأمام إصرار الانتفاضة لا خلاص إلا بسقوط السلطة بمفهومها المحاصصاتي.

وعندما راهنت بعض الأطراف المتضررة من الحراك على وقوع صدام بين الجيش وقوى الأمن التي أرسلت لفتح الطرقات، من جهة، وبين المنتفضين، من جهة ثانية، سقط الرهان.وهذا الصدام لم ولن يحصل؛ لأن الحراك غيّر من تكتيكاته مستهدفاً المراكز الحكومية والمؤسسات، التي يعتبرها مسؤولة عن الفساد المستشري في البلاد، ثم كانت الخطوة التالية وهي انضمام الطلاب إلى المظاهرات وإلى مراكز الحراك. وهذا ما زاد من ارتباك السلطة.لأن وجود الطلاب خارج أعطى أملاً متقدماً لانتصار الانتفاضة.

والسلطة الآن تعيش مرحلة انعدام الوزن وانعدام الحضور، وحالتها هي كما يقول الشاعر إيليا أبو ماضي / لا تستطيعُ الانتصار / ولا تطيق الانكسارْ /.

الانتفاضة تريد حكومة نظيفة، ولكن كيف نستطيع الوصول إلى إيجاد حكومة نظيفة، وكل طرف من الأطراف يريد من الحكومة المرتقبة أن تكون لحفظ وجوده ولحفظ امتيازاته وحصته من لحم الوطن المذبوح.

وهكذا تتصاعد الانتفاضة منذ ٢٤ يوماً، وتدور السلطة المسؤولة في حلقة مفرغة وتتهاوى الدورة السياسية في لبنان، فمن جهة يطالب الثوار بخلع كل الطقم السياسي ومحاسبته، لكن من جهة ثانية يرتفع سؤال أساسي ومهم، من سيحاكم من إذا كان معظم الطقم السياسي شريكاً في الفساد ونهب البلاد، وخصوصاً عندما تصرخ السلطة القضائية داعية إلى رفع اليد السياسية عنها.

لا بد من انتصار الحتمية التاريخية والتي تتمثل فيما يلي :

أ ــ لايمكن أن يتعايش الجوع والتخمة.

ب ــ لا يمكن أن يتصالح الفساد مع الإصلاح ونمو الحياة وازدهارها.

ج ــ لا يمكن أن يكون هناك عدالة إذا كان القضاء في خدمة الحاكم.

د ــ لا يمكن أن يتصالح الناهب والمنهوب، والقاتل والمقتول.

هـ ــ لا يمكن للعقل الواعي أن ينخدع بما لا يراه صالحاً





السبت ٢٥ ربيع الاول ١٤٤١ هـ   ۞۞۞  الموافق  ٢٣ / تشرين الثاني / ٢٠١٩ م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب المحرر الاسبوعي لطليعة لبنان نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة