شبكة ذي قار
عـاجـل










يتندَّر الطرابلسيون على من جاء ليمثلهم في الندوةالبرلمانية للعام ٢٠١٨ ثم للفرعية في العام ٢٠١٩، عندما وعدهم وجزم بوعده، أنه سيؤمن لهم عشرات آلاف الوظائف قريباً، ولميحنثبوعده هذا العام عندما فوجئت المدينة مع قدوم شهر رمضان الماضي بمئات البسطات من عصائر الجزر والليمون والتفاح تنتشر في الأحياء والأزقة والساحات العامةليسترزق منهاعاطلون عن العمل لا يتجاوزون مقدار العشر من العشر على أعشار ممن يواجهون البطالة فلا من يتحسس بأوضاعهم ولا من يشعر بالمسؤولية أيضاً.

قد يكون "التندُّر" حالة خاصة لا تتجاوز حدود الحي أو المنطقة وحسب، غير أن "السخرية" هي الحال العامة والأخطر التي تأخذ حيزها الأوسع على شبكات التواصل الاجتماعيهذهالأيام، ويطلقها نخبٌ من أبناء المدينة ومثقفيها بالقدر التي يشير إليها ويعلق البسطاء والفقراء الذين لم يعد لهم من حيلة أو جمل، سوى الكلام على هذه المواقع والتنفيس عن أوجاعهم المزمنة كلما تسنى لهم ذلك.

حال طرابلس، كعاصمة ثانية للبنان، وعاصمة أولىللفقر فيه أيضاً، لا يختلف عن حال ما تبقى من عواصم لمحافظات لبنان وقراها ومدنها ودساكرها دون أننغفل بيروت المدينة التي لا يعرفونها لا في أوقات الشدة والملمات ولا أيام الفرح، سوى لاستدرار عطف أبنائها وبناتها أيام الانتخابات وحيث تدعو الحاجة عندما يستعر الخطاب الطائفي والمذهبي فيزيدون مناستغبائهمللناس وهم يخدِّرون غرائزهم بالخوف من الآخر واختلاقما يصنعون لهم من أعداء لزوم الحاجة والمرحلة.

طرابلس ليست أكثر مدن لبنان حرماناً وفقراً دون منازع على شاطئ المتوسط وحسب، وإنما خُطّط لها أن تبقى المدينة المحرومة،حبيسة فقرها وعجزها على مدى عقودٍ من السنين، بدأت منذ منتصف سبعينات القرن الماضي عندما أغرقوها بصراعاتمناطقيةمفتعلة أخذت الطابع المذهبي ساتراً لصراعات إقليمية محلية دمرت الحجر وهجَّرت البشر وزرعت ضغائن اكتشف فيها الضحايا من كل الأطراف كم كانت خيوط التآمر محبكة عليهم بإتقان لاستعمالهم لدى كل جولةيقتضيهابريد الخارج، فلما أيقنواواتعظوا، كانت أحلامهم الجميلة قد اندثرت لدى أعتاب اللاعبين الكبار وصار مطلوباً منهم أن يعيدوابناء حياتهم من جديد وما تواجههم من تحديات وصعوبات.

غير أنه ومن دواعي الأسف إلى حدود الحزن والدموع، أن بعض أبنائها لم يجدوامايبدأونبه سوى فيأحلام السفر، أكان ذلك على قوارب الموت التي قذفت ببعضهم على شواطئ المتوسط في واحدة من المآسي التي تضاهي التراجيديا الإغريقية،أوالخروج بالمئات منذ أسابيع على شكل تظاهرة كبيرة ومنظمة إلى إحدى السفارات الأجنبية مطالبين بالهجرة وإخراجهم من جحيم الفقر الذي يعيشونه في لبنان لتصل طلبات تقديم الهجرة إلى ما يفوقالسبعةآلاف طلب.

من يصدِّق أن في طرابلس من يفعل ذلك، والمدينة تضم بين حناياها عدد من أكبر أصحاب المليارات ليس في لبنان وحسب وإنما في العالم حيث تزدهر مؤسساتهم وشركاتهم التجارية والاستثمارية وتتيح فرص العملللالافالمؤلفة من الأجانب، بينما أبناء جلدتهم يهربون من جور إهمالهم وتنكرهم لهم، ولتصطبغتلكالمشهديةبسوريالية فاقعة عندما تكتشف أن هؤلاء الأغنياء يمثلون ضحاياهم الفقراء في الندوة البرلمانية، ويتحدثون باسمهم ويتدبرون مصائرهم وأمور حاضرهم، ثم يستهجنون كيف تثور الناس عليهم وكأنهمانصافآلهة أُنزلت من السماء.

والأنكىمن كل ذلك، أن هؤلاء السياسيين بالذات، هم الذين أعطوا موافقتهم فيالأونةالأخيرةبالإجماعلرفع الغطاءعنكل البسطات المنتشرة في أنحاء المدينة التي يكتسب منها فقراء ومعدَمون، لتتولى بلدية طرابلس بعد إجازة عيد الفطر الأخير مباشرة رفع هذه البسطات، بالقوة وبالتكسير ولتستفيق المدينة بعد ذلك بأسابيع على إحراق سوقاً شعبياً بالكامل في منطقة السويقة، أذيع بعدها أنه حادث مفتعل وفردي وتم التعويض عن خسائر أصحاب هذا السوق بمبلغ مقطوع لم يتجاوز المائتي دولار إضافة إلى كرتونة من المساعدات الغذائية ممن تبقى من مواد تبرعت بها العربية السعودية لتوزع على المحتاجين في شهر رمضان المبارك الفائت.

في غضون ذلك، وبينما كانت جمهرة كبيرة من أهل المدينة تتلاقى في باحة المسجد المنصوري الكبير ندين كل ما تعرضت له الحقبة العثمانية من هموم واتهامات على لسان بعض القيادات اللبنانية،

كانت تقام احتفالية أخرى في مكان آخر من الشمال بوجود سفير عربي كبير يعلن افتتاح مركزاً لتقديم أربعةالافربطة خبز بالمجان على مدى ستة أشهر، وبحضور زعامات وسياسيين وكبار المتمولين الذين شاركوا السفير فرحته بالأعطياتالتي يقدمها لأبناء بلدتهم، دون أنتوخزهمأية ذرة ضمير تشعرهم بمذلة ما يقومون به.
وبانتظار انقضاء الأشهرالقادمة، يكون شهر رمضان المبارك على الأبواب، وحينها من المتوقع أيضاً أن يُترك للعاطلينعن العمل، فسحة أمل أخرى بإنشاءما يريدونه من بسطات العصائر المتنوعة التي يحلو معها هذا الشهر الفضيل.

وهكذا تدور الأشهر والأيام ويعود الزمن ليكرر نفسه مع كل عام جديد يطل علينا فلا نشعر بعدها سوى إننا جميعاً في الطريق إلى موت بطيء لا يصيب أفراداً بعينهم بقدر ما يصيب مدينة كاملة كتب عليها أن لا تعيش سوى على هامش الحياة وفتات ما يرمونه عليها من مساعدات موسمية ليجنبها الموت الفجائي ليس إلا، وليكتمل المشهد السوريالي بكل تفاصيله، بانتظار منيقلب الطاولة على الجميع ويقول : أنا الشعب الحر المعذب وأن لي أن أكون صاحب القرار الحقيقي فيتنظيفأدراج الوطن من أعليها إلى أسفلها وبدون ذلك لا حياة لمن تنادي.





الاثنين ١٥ صفر ١٤٤١ هـ   ۞۞۞  الموافق  ١٤ / تشرين الاول / ٢٠١٩ م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب نبيل الزعبي نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة